خاص الكوثر - العشرات
عرفت المجتمعات العربية عبر قرون طويلة تنوعًا دينيًا ومذهبيًا وعرقيًا عاش في إطار من التعايش الطبيعي. مسلمون ومسيحيون، سنة وشيعة، أكراد ودروز وغيرهم، تقاسموا الجغرافيا والحياة رغم اختلافاتهم. لكن هذا التنوع، حين تضعف الدولة أو تنهار مؤسساتها، يتحول من مصدر قوة إلى نقطة هشاشة قابلة للاستغلال.
هنا تتدخل الحرب الناعمة، فتُضخّم المظالم الحقيقية أو التاريخية، وتُغذّي خطاب “نحن مقابل هم”، لينقلب الخلاف السياسي أو الاجتماعي إلى صراع ديني أو عرقي. وغالبًا ما يكون الهدف واضحًا: تفجير الدول من الداخل بدل مواجهتها عسكريًا.
شهدنا هذا السيناريو بوضوح في العراق بعد الاحتلال الأميركي، حيث أدى حل مؤسسات الدولة إلى فتح الباب أمام صراع سنّي–شيعي دموي أضعف البلاد لعقود. وفي لبنان، أشعلت التدخلات الخارجية حربًا أهلية كرّست نظامًا طائفيًا هشًا، ما زال حتى اليوم ساحة مفتوحة للأزمات والتجاذبات. أما في سوريا، فقد أظهرت التطورات الأخيرة كيف يمكن لتغذية الخطاب الطائفي أن تقود إلى مجازر وانتهاكات وتفكك النسيج الاجتماعي.
نتائج هذه الانقسامات لا تقتصر على العنف المباشر، بل تمتد إلى انهيار الثقة بين أبناء الوطن الواحد، وفتح الأبواب أمام التدخلات الخارجية التي تفرض شروطها على دولة ضعيفة وممزقة.
تعتمد الحرب الناعمة في هذا السياق على مجموعة من الأدوات المتكاملة. أولها التأطير الإعلامي، عبر تضخيم حادثة محلية أو مظلمة تاريخية وتحويلها إلى دليل دائم على اضطهاد جماعة بعينها. وثانيها استغلال المظالم الحقيقية، حيث تُحوَّل مطالب حقوقية أو تنموية مشروعة إلى خطاب انفصالي أو تمردي. وثالثها اختراق المجتمع المدني، من خلال تمويل منظمات أو نخب إعلامية وسياسية تركّز على الهويات الفرعية بدل الهوية الوطنية الجامعة.
كما يُستخدم التلاعب بالرموز والتاريخ لإحياء جراح قديمة، ونشر شعارات وأعلام تعمّق الانقسام بدل الشراكة. ومع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، دخلنا مرحلة الهندسة الرقمية للفتنة: حملات منظمة، هاشتاغات تحريضية، صور وفيديوهات مجتزأة، وحسابات وهمية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، تُعيد إنتاج الكراهية على مدار الساعة.
لا يمكن تغيير تنوّع المجتمعات، لكنه يمكن أن يتحول إلى قوة أو إلى قنبلة موقوتة. الحرب الناعمة تراهن على تحويل الجار إلى عدو، لكن الوعي، والعدالة، وبناء دولة المواطنة، تبقى خطوط الدفاع الأولى ضد هذا السلاح.
يبقى السؤال المفتوح:
مع تصاعد الخطاب المذهبي في الإعلام ومنصات التواصل اليوم، كيف يمكن للمجتمعات والأفراد إحباط هذه المخططات قبل أن تتحول إلى صراع مفتوح يلتهم الجميع؟