خاص الكوثر - العشرات
تمرّ الحروب عبر أجيال متعاقبة، لكل منها أدواته ومنطقه.
في الجيل الأول، كانت الحروب تقليدية، صفوف جنود في مواجهة مباشرة، والبندقية والمدفعية البسيطة هي السلاح الأساسي. معيار النصر كان واضحًا: من يسيطر على الأرض ينتصر، كما في الحروب النابليونية مطلع القرن التاسع عشر.
مع الثورة الصناعية والحرب العالمية الأولى، دخلنا الجيل الثاني، حيث ظهرت المدافع الحديثة والطائرات والدبابات، وأصبحت القدرة على الإنتاج والإمداد أهم من الشجاعة الفردية. هنا تحوّلت الحرب إلى صراع آلي، الإنسان فيه مجرد ترس.
أما الجيل الثالث، الذي برز في الحرب العالمية الثانية، فارتكز على السرعة والمباغتة والمناورة، فيما عُرف بحروب “البرق”، حيث حلّ الاختراق محل المواجهة المباشرة.
منتصف القرن العشرين شهد الجيل الرابع من الحروب: حروب غير متكافئة بين جيوش نظامية وتنظيمات مقاومة، تعتمد الاستنزاف، والكمائن، والحرب النفسية، والدعم الشعبي. فيتنام، أفغانستان، والعراق نماذج واضحة لهذا النمط.
ومع الجيل الخامس، لم تعد الحرب تُدار بالسلاح فقط، بل عبر الإعلام والاقتصاد والعقوبات ومنصات التواصل الاجتماعي. أصبحت السيطرة على الوعي أخطر من السيطرة على الأرض، وتحول العقل إلى ساحة المعركة الأساسية.
اليوم، نحن أمام الجيل السادس والأخطر: حروب الذكاء الاصطناعي. طائرات مسيّرة، روبوتات قتالية، خوارزميات تختار الأهداف أسرع من الإنسان، وأنظمة ذاتية تقلل الحاجة للجنود. الأخطر في هذا الجيل هو ما تسميه الدراسات العسكرية بـ«الحرب الإدراكية»، حيث لا يُستهدف الجسد، بل طريقة التفكير نفسها.
تقارير صادرة عن حلف الناتو تؤكد أن الميدان الجديد للحرب هو الدماغ البشري. لم يعد الهدف إسقاط الأنظمة أو تدمير الاقتصاد فقط، بل التأثير على آليات التفكير واتخاذ القرار لدى الأفراد والمجتمعات. قد تُدار الحرب اليوم عبر تطبيق في هاتفك، أو محتوى ترفيهي موجّه، أو حملة رقمية تُعيد تشكيل قناعاتك دون أن تشعر.
العالم العربي يبدو هدفًا مضاعفًا: من جهة حروب عسكرية مباشرة، ومن جهة أخرى حرب ناعمة تستنزف المجتمعات عبر الاستهلاك، والترفيه الموجّه، والإعلام الخارجي. ومع دمج الذكاء الاصطناعي بمنصات التواصل، تصبح حملات التأثير الإدراكي أسرع وأكثر خطورة، قادرة على إضعاف المناعة الاجتماعية ودفع الشعوب لاتخاذ قرارات تخدم مصالح خارجية.
هنا يبرز السؤال الأخطر:
أيّهما أسهل أن يسقط… وطن بقوة الجيوش، أم وعي شعب تحت هيمنة إعلامية وفكرية؟
المعركة القادمة قد لا تكون على الحدود، بل داخل العقول والبيوت. والنجاة تبدأ بسؤال بسيط:
هل أنا من يملك وعيه… أم هناك من يوجّهه؟