خاص الكوثر - العشرات
لم يكن التعليم يومًا حياديًا. فالمناهج المدرسية قادرة إما على بناء جيل مرتبط بدينه وتاريخه ووطنه، أو على صناعة جيل منقطع عن جذوره، مفتون بثقافة دخيلة لا تشبهه. في عدد من الدول، جرى تقليص دروس التاريخ الوطني، وتهميش التربية الدينية، مقابل التركيز المفرط على المهارات التقنية والمعلومات المجردة، وكأن المطلوب إنسان “كفوء تقنيًا” لكنه فارغ من الانتماء.
تحت شعار “تطوير التعليم”، فُرضت أحيانًا مناهج جديدة بإملاءات مؤسسات دولية، زرعت قيم لا تنسجم مع البيئة الثقافية المحلية. ومع خروج الطالب من المدرسة، يكمل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ما بدأته المناهج: تشويه صورة المدرسة، السخرية من المعلم، وتصوير التعليم كعبء أو سجن، حتى فقدت المدرسة هيبتها ودورها التربوي.
التعليم اليوم يُختزل في امتحانات ومعلومات، بينما تُهمَّش التربية بوصفها عملية بطيئة الأثر وعميقة الجذور. أُضعف دور المعلم ماديًا ومعنويًا، واستُبدلت العلاقة الإنسانية بالتكنولوجيا، فتحول الكتاب إلى جهاز لوحي، والمعلم إلى تطبيق ذكاء اصطناعي، وفُصل التعليم عن بناء القيم.
تقارير دولية تحدثت عن برامج “إصلاح التعليم” في عدد من الدول العربية، ربطت التمويل بتغيير أولويات المناهج، فغُلِّبت المهارات التقنية على حساب تاريخ الوطن والدراسات الدينية. في دول عربية عدة، تراجعت مواد التاريخ واللغة العربية، ودخلت برامج “المواطنة العالمية” الممولة خارجيًا، مع توصيات بتخفيف حضور الهوية الثقافية والدينية.
النتيجة كانت واضحة: طلاب يعرفون تاريخ أمم بعيدة أكثر من تاريخ أوطانهم، ويحفظون معلومات للاختبار، لكنهم يفتقرون للتفكير النقدي والقدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف. جيل يسهل توجيهه والتأثير عليه، لأنه لم يُبنَ على أساس وعي وهوية راسخة.
السؤال الجوهري يبقى: إذا كان من يكتب المناهج هو من يرسم مستقبل الأمة، فهل من الحكمة أن نترك القلم بيد من يستهدف وعينا ويقصف أوطاننا؟ التفكير في هذا السؤال لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية.