خاص الكوثر - العشرات
في خضم السعي نحو التميز والتفوق، قد يجد بعض الأهل أنفسهم ــ عن غير قصد ــ يفرضون على أبنائهم معايير غير واقعية من الكمال، متجاهلين الآثار النفسية العميقة التي قد تتركها مثل هذه التوقعات. فعندما يُوبَّخ طفل لأن علامته كانت 98 من 100، أو يُشعر بأنه أقل قيمة لأنه لم يفز بمسابقة معينة، فإن الرسالة التي يتلقاها هذا الطفل ليست "أنت قادر على الأفضل"، بل "أنت غير كافٍ كما أنت".
يعيش كثير من الأطفال اليوم تحت وطأة توقعات مثالية، وكأنهم في سباق دائم مع أشباح الكمال. هذه الضغوط، وإن بدت في ظاهرها دافعًا نحو النجاح، قد تكون عاملًا أساسيًا في زعزعة إحساس الطفل بقيمته الذاتية. فهل ندرك أننا لا نحتاج إلى المثالية لبناء طفل سوي نفسيًا؟ بل نحتاج إلى بيئة يشعر فيها بالأمان، بالقبول، وبأنه محبوب دون شروط — حتى في لحظات الفشل.
من المهم التمييز بين الطموح الصحي والضغط النفسي المُنهِك. فاضطراب الشخصية الوسواسية القهرية، على سبيل المثال، لا يتمثل بمجرد الرغبة في التفوق، بل هو حالة تُختزل فيها مشاعر الطفل وقيمته ضمن إطار الإنجاز فقط، مما يحرم الطفل من جوهر الطفولة القائم على الاستكشاف، اللعب، والشعور غير المشروط بالأمان والحب.
إقرأ أيضاً:
إن مسؤوليتنا كمربين وأولياء أمور لا تقتصر على دفع الطفل للنجاح، بل تتجسد في خلق بيئة نفسية آمنة ينمو فيها الطفل بشخصية متزنة، يثق بنفسه، ويعي أن قيمته لا تتوقف عند إنجازاته، بل تنبع من كونه إنسانًا يستحق الحب والقبول على ما هو عليه.
لست معالجة نفسية، ولا أقدّم نفسي كمدربة حياة. أنا أم، قبل أن أكون إعلامية. وانطلاقًا من دوري في الأمومة، وتجربتي الشخصية، وما قرأته وبحثت فيه في هذا المجال، أحاول أن أساعد نفسي أولًا، وأساعد من حولي، لنتمكن معًا من بناء بيئة أكثر أمانًا لأطفالنا.
البيئة الآمنة لا تعني غياب التحديات أو الخلافات، ولا تُختزل في صورة مثالية للعائلة. بل هي تلك المساحة التي يشعر فيها الطفل بأنه محبوب دون شروط، حتى عندما يخطئ. مكان يمكنه فيه أن يُعبّر عن خوفه، حزنه، أو غضبه، ويُقابل بالاستماع لا بالرفض، وبالحضور لا بالتوبيخ. كما أن البيئة الآمنة تُوفّر للطفل حدودًا واضحة، تُشعره بالاستقرار لا بالخوف، وبالأمان لا بالتهديد.
فيما يلي بعض الخطوات العملية التي يمكن أن تساعدنا في بناء هذا الأمان النفسي لدى أطفالنا:
أولًا: لنعمل على استبدال مفردة "المثالية" — بل إن تمكّنا من التخلص منها تمامًا، فذلك أفضل. بدلًا من سؤال الطفل: "لماذا لم تكن الأول؟"، يمكننا أن نقول: "أنا فخورة بك لأنك حاولت". فالقيمة لا تكمن في النتيجة النهائية، بل في المحاولة، والمثابرة، والشجاعة التي يظهرها الطفل في مواجهة التحديات.
ثانيًا: لندع الطفل يبكي دون خجل، ولنعلمه أن البكاء ليس عيبًا. يمكن أن نقول له: "من الطبيعي أن تخاف، وأنا هنا إلى جانبك". هذه العبارات تُساعد الطفل على فهم أن مشاعره ليست عدوًا يجب كتمه، بل إشارات داخلية تستحق الإصغاء والتقدير.
الأمان النفسي لا يُبنى في يوم، لكنه يبدأ بلحظة وعي — لحظة نقرر فيها أن نُعامل أطفالنا كأشخاص يستحقون الحب، لا كـ"مشاريع نجاح". وكل خطوة في هذا الاتجاه، مهما بدت صغيرة، تترك أثرًا طويل الأمد في نفس الطفل وشخصيته المستقبلية.
في سعينا لبناء بيئة نفسية آمنة لأطفالنا، لا يكفي أن نوفّر الحب، بل يجب أن نُترجم هذا الحب إلى سلوك يومي يُشعر الطفل بالأمان، ويعزّز ثقته بنفسه، ويُرشده نحو الوعي بمشاعره وحدوده وحقوقه.
في ما يلي مجموعة من الخطوات العملية التي يمكن أن تساهم في تحقيق هذا الهدف:
ثالثًا: لنُمرّن أبناءنا على الحوار بدل الصراخ. فالضرب والصراخ لا يبنيان شخصية قوية، بل يزرعان الخوف ويُضعفان الثقة بالنفس. يكفي أن نقول: "أنا غاضبة الآن، وسنتحدث بعد عشر دقائق"، لنُعلّم الطفل أن ضبط النفس ممكن، وأن الغضب لا يُبرّر الإيذاء اللفظي أو الجسدي.
رابعًا: كن أنت مرآة الإيجابية. جميعنا نُخطئ، ولكن المهم أن نتعلم من أخطائنا. بدلًا من استخدام عبارات جارحة مثل: "أنت فاشل، ولا تُجيد شيئًا", يمكننا أن نوجّه الملاحظة بلغة هادئة ولطيفة، تُركّز على السلوك لا على شخصية الطفل.
خامسًا: احترم خصوصية الطفل، لأنه إنسان قبل أن يكون "ابنًا". لا تفتّش في أغراضه، ولا تُهينه أمام الآخرين. فحتى الأطفال يحتاجون لمساحتهم الخاصة التي يكتبون فيها أحلامهم الصغيرة وأسرارهم البريئة، دون خوف أو تدخل جارح.
سادسًا: علمه التعبير عن مشاعره بدل كبتها. شجّعه على استخدام الكلمات بدلاً من الصمت أو الانفعال. عندما يتعلّم الطفل تسمية مشاعره، يصبح أكثر قدرة على التعامل معها بوعي وهدوء.
وفي السياق نفسه، من الضروري أن ندرك أن الأمان النفسي لا يُبنى فقط داخل جدران المنزل. فالمدرسة والمجتمع شريكان أساسيان في تشكيل هذا الإحساس. فمهما بنى الأهل جدارًا من الحب والدعم، قد يهدمه تنمّر في المدرسة أو صمت معلّم تجاه سلوك مسيء.
من هنا، تأتي أهمية متابعة سلوك الطفل في البيئة المدرسية، والتحاور المستمر مع الكادر التعليمي والإداري لمواجهة أي عنف أو تنمر. علينا أيضًا أن نشجع أبناءنا على الإبلاغ عن أي انتهاك يتعرضون له، وأن نُشارك في المبادرات المجتمعية الهادفة لمناهضة العنف ضد الأطفال، وتوسيع ثقافة الحوار والاحترام.
الأمان النفسي ليس رفاهية، بل حاجة أساسية في نمو الطفل. وكل كلمة نقولها، وكل تصرف نبادر به، إما أن يكون لبنة في هذا البناء، أو شرخًا فيه. فلنختر أن نكون سببًا في بناء جيلٍ أكثر اتزانًا، وأقوى داخليًا.
الطفل ليس مطالبًا بأن يكون الأذكى، ولا الأغنى، ولا الأول في كل شيء. ما يحتاجه فعلًا هو أن يشعر بأنه محبوب، آمن، ومفهوم. أن يعرف أن هناك من يسمعه، من يشعر بما يمرّ به، ومن يقف إلى جانبه — حتى عندما يشعر أن العالم بأسره ضده.
فلنتذكر دائمًا أن أعظم ما يمكن أن نقدّمه لأطفالنا لا يُشترى، ولا يُقاس بالعلامات أو الجوائز. بل هو في التفاصيل البسيطة والعميقة: بيت دافئ، عائلة متماسكة، ضحكة صادقة على وجه الأم والأب، وأيدٍ مفتوحة دومًا لتضمّه مهما كانت الظروف.
وبينما نمنح أطفالنا هذا الأمان، من الجيد أن نسأل أنفسنا كآباء وأمهات:
ما هو أكثر شيء يحتاجه الطفل فعلًا من أهله؟
هل هو التقدير؟ الشعور بالقبول؟ الوقت النوعي؟ الإصغاء؟ الحدود الواضحة؟
كل طفل قد يحتاج شيئًا مختلفًا، لكن القاسم المشترك بين الجميع هو هذا الإحساس غير المشروط بأنهم محبوبون، كما هم، دون حاجة لإثبات أو إنجاز.
وأنت، ما أكثر ما تخشى أن تُقصّر فيه مع ابنك أو ابنتك؟
هل هو وقتك؟ صبرك؟ تواصلك؟
الاعتراف بالمخاوف لا يقل أهمية عن الاعتراف بالحب. لأن الوعي هو الخطوة الأولى نحو تربية أكثر وعيًا، وعلاقة أعمق وأصدق مع أطفالنا.
لنمنحهم ما نتمناه نحن لو عدنا أطفالًا من جديد: بيت يسمعهم، قلب يفهمهم، وأمان لا تهزّه العواصف.