الكوثر - بودكاست راديو غزة
مرحبًا بكم مستمعينا الكرام،في هذه الحلقة نقترب من حكايةٍ تختصر وجعَ الأسرى الفلسطينيين، وتُجسّد في الوقت نفسه صلابتهم وإيمانهم الذي لا ينكسر. إنها قصة الأسير محمود العارضة.. أو كما يُسميه الفلسطينيون: مهندس نفق الحريّة.
وُلِد محمود عبدالله العارضة في الثامن من نوفمبر عام 1975، في مدينة جنين شمال الضفة الغربية.شابّ هادئ الملامح، مفعم بالحلم، التحق بمدرسته الثانوية، لكن طريقه انقطع مبكرًا عندما اعتقله الاحتلال الصهيوني عام 1992، وهو لم يزل طالبًا في الصف الأول الثانوي.
حُكم عليه بالسجن أربع سنوات، أمضى منها أكثر من ثلاثة أعوام خلف القضبان، ليخرج بعدها ضمن صفقة تبادل الأسرى بعد اتفاق أوسلو عام 1993. كانت تلك التجربة الأولى مع السجن، لكنها غيّرت وعيه تمامًا. داخل الزنزانة أدرك محمود أن الاحتلال لا يعتقل الأجساد فقط، بل يحاول اعتقال الوعي…
لكنه قرر منذ تلك اللحظة أن يجعل من السجن مدرسة للمقاومة. واصل دراسته من خلف القضبان، أنهى الثانوية بنجاح، وبدأ يكتب ويتعلّم، حتى صار واحدًا من أكثر الأسرى وعيًا بالقضية وعمقًا في فهمها. لكن الحرية التي ذاقها لم تدم طويلًا. ففي عام 1996، اعتُقل مجددًا، وهذه المرة حُكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة، بتهمة الانتماء إلى الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي والمشاركة في عمليات مقاومة ضد الاحتلال.
إقرأ أيضاً:
منذ ذلك العام، بدأت رحلة طويلة من الصبر، امتدت لأكثر من خمسةٍ وعشرين عامًا متواصلة. وفي السادس من سبتمبر عام 2021، هزّ اسم محمود العارضة العالم بأسره، حين تمكّن مع خمسةٍ من رفاقه من الهروب من سجن جلبوع شديد التحصين، في عمليةٍ غير مسبوقة، عُرفت إعلاميًا باسم «نفق الحرية».
ستةُ أسرى من محافظة جنين: محمود العارضة، محمد العارضة، أيهم كممجي، يعقوب قادري، زكريا الزبيدي، ومناضل انفيعات.. حفروا بأيديهم نفقًا بعمق الأرض، مستخدمين ملاعق الطعام، وبصبرٍ يُشبه المعجزة، فتحوا طريقهم نحو النور. كانت العملية ضربةً قاسية لمنظومة الأمن الصهيونية، وأيقونةً للمقاومة الفلسطينية. وعلى الرغم من إعادة اعتقالهم بعد أسبوعين، إلا أنّ الرسالة وصلت: أنّ إرادة الحرية أقوى من جدران السجون. بعد أكثر من أربعة أعوامٍ قضاها مجددًا في العزل والتعذيب عقب تلك العملية، أُطلق سراح محمود العارضة أخيرًا ضمن صفقة تبادل الأسرى في عام 2025، بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني. خرج من السجن إلى مصر، مبعدًا عن وطنه، لكنه حمل في عينيه فرحًا متردّدًا.
قال في أول لقاءٍ مصوّر له بعد الإفراج: “هذا اللقاء مع الملعقة وجبنة بلدي وزعتر… عندما تلتقي الجبنة مع الزعتر قد تحدث كارثة في المنطقة بأسرها. ”جملةٌ ساخرة تختصر سخرية المقاوم من جلّاده، وتحوّل الملعقة – التي حفر بها طريق الحرية – إلى رمزٍ خالد في الذاكرة الفلسطينية.
وفي مقابلة تلفزيونية من القاهرة، قال: “كنت أستمع إلى التلفزيون العربي عبر الراديو في السجن، وأُعجبت بأدائه كثيرًا. ”لكنه أضاف بصوتٍ يختلط فيه الحزن بالعزم: “طعم الحرية منقوص.. لأن آلاف الأسرى ما زالوا خلف القضبان.”وتحدّث عن عزلة الأسرى، وعن الظروف القاسية في سجون الاحتلال التي وصفها بأنها مسلخٌ بشري، مؤكّدًا أنّ المعاناة لا تُقاس بعدد السنوات، بل بعمق الجراح التي تتركها في الروح.
اليوم، بعد أن نال محمود العارضة بعضًا من حريته، يبقى صوته شاهدًا على أن الإرادة الإنسانية لا تُكسر، وأنّ الملعقة الصغيرة قادرة على هزيمة الحديد والإسمنت، تمامًا كما تهزم الفكرة السجن، ويهزم الأمل الظلام. “نفق الحرية” لم يكن مجرد عملية هروب، بل كان إعلانًا أن الفلسطيني لا يُهزم، وأنّ لكلّ زنزانةٍ بابًا خفيًا نحو السماء.