الكوثر - راديو غزة
أنشأته سلطات الاحتلال البريطاني في ثلاثينيات القرن الماضي، وسموه آنذاك "مستشفى الحكومة"، كأنهم أرادوا له أن يكون هيكلا إداريا لا روح فيه. لكنه تحول شيئا فشيئا إلى منارة... تبدلت الأنظمة، وجاءت الحكومات، وتوالت الحروب، وبقي الشفاء. في زمن الإدارة المصرية، تنفس المستشفى نسمات الحياة، فزادت طاقته، وتوسعت أقسامه، لكن قلبه ظل في مكانه، ينبض لغزة وحدها. ثم جاء الاحتلال، وكأن الحديد تغير، فصار الصبر عنوانا... لم يعد الشفاء يعالج فقط المرضى، بل صار يسعف الحلم الفلسطيني كلما نزف.
على مر العقود، تطور المستشفى رغم شح الإمكانيات. بنيت فيه غرف العناية المركزة، أضيفت أقسام التوليد، والجراحة، والأعصاب، والكلى، والباطنية. صار مرجعا، مقصدا، وملاذا. وفي كل زاوية منه، طبيب يعمل بأدوات قديمة، ولكن بإيمان جديد كل يوم.
في أروقة الشفاء، ولد آلاف الأطفال، ومات آلاف الرجال، وعولج جرحى الانتفاضات، وغسلت أجساد الشهداء. هو المكان الذي لم يخل يوما من صراخ، من زغاريد، من دعاء، ومن صمت ثقيل لا يقطعه سوى نبضات الأجهزة.
إقرأ أيضاً:
بل هو أكثر من ذلك... هو أرشيف دمعة، وأرشيف ضحكة، وسجل حي لكرامة مدينة تحاول البقاء بين القصف والحصار. كان مستشفى الشفاء طوال سنوات الحصار ملجأ الغزيين، الذين يعرفون أن لا مكان سواه يحضنهم في لحظة الخوف. وفي كل عدوان على غزة، كان الهدف، وكان الجبهة، وكان الشاهد الأول والأخير.
كل ما في الشفاء كان يقاوم: الجدران القديمة، أجهزة التصوير المعطلة، أسرة الولادة التي ما عادت تكفي، أنابيب الأوكسجين التي لا تصل، وحتى النوافذ التي كسرتها الانفجارات ثم لمت نفسها لتكمل الخدمة.
كان المستشفى يسقط كل يوم... لكنه لم يمت. يمرض، يستهدف، يحاصر... ثم يبعث من بين الأنقاض، لا بقرار دولي، بل بإرادة من فيه.
وحدها غزة تعرف كيف يبنى الشفاء من تحت الركام... ووحده الشفاء يعرف كيف يربي في داخله أطباء لا يشبهون أحدا... أطباء يحملون الوطن في جيب الرداء الأبيض، ويحملون الشهادة في قلبهم وهم يكتبون وصفة حياة.
بعد السابع من أكتوبر، حين اشتعلت الأرض، انهالت القذائف، وبدأ الحصار... أطفئت الأنوار، لا ماء، لا دواء، لا أوكسجين... ومع ذلك، بقي الشفاء حيا، لأن من فيه كانوا أحياء بكرامتهم، لا بأجهزتهم.
كم من طبيب استشهد وهو ينقذ طفلا؟ وكم من ممرضة ودعت أبناءها لتبقى إلى جانب مرضى لا تعرف أسماءهم؟
كانوا هناك... لا ينتظرون شكرا، بل فقط ألا يقصفوا وهم يسعفون. لكن القصف جاء، والدماء سالت... ليس فقط من الجرحى، بل من منقذيهم.
استشهد د. همام ألوه، طبيب الكلى الوحيد في غزة. قصف بيته بمن فيه، فمات هو وعائلته، وكأن الطب نزع من المدينة. ومات د. عدنان البرش في السجون، لا نعلم إن مات من الألم، أو من العار الذي لف الصمت الدولي. ورأفت لباد، أخصائي المناعة، مات هو وأسرته في لحظة واحدة... وكأن الطائرات تعرف من تفقد فتترك غزة بلا بديل.
ولم تكن هذه أسماء فقط، بل أعمدة. في كل اسم، فراغ لا يملأ... في كل استشهاد، تخصص يمحى. وفي كل لحظة، كانت غزة تكتب سجل موتها الطبي، طبيبا طبيبا، وممرضا ممرضا.
طفل في الحضانة ينتظر دفء الحاضنة... لكن الكهرباء انقطعت. فمات، لا لأنه مريض، بل لأن العالم قرر أن الأمل يجب أن يطفأ. رجل أصيب في وجهه، نقل إلى الشفاء، فوجد الأطباء يجاهدون بين الركام. امرأة تنزف، ولكن لا دم ينقل، فكان الصبر بديلا عن التجلط.
مستشفى الشفاء لم يكن مكانا للعلاج فقط، بل كان شهادة على أن الحياة تستحق الدفاع عنها. هناك، لم يكن الموت هو النهاية، بل كان بداية لنضال آخر. أطباء يموتون وقوفا، لا يفرون، لا يختبئون، بل يكملون العملية حتى اللحظة الأخيرة، ولو كانت لحظة استشهادهم.
وفي أروقة الشفاء... صدى الكلمات ما زال يتردد: "اعملوا حتى النفس الأخير... لا تتركوا مريضا، ولو بقيتم وحدكم." وكانوا وحدهم... لكنهم لم يتركوا أحدا. وهكذا، لم يكن الشفاء مجرد مستشفى. كان جبهة، كان خندقا، كان مئذنة، وكان قلبا ينبض بإصرار غزة. وفي كل غرفة منه، شهيد بلا جنازة، وطبيب بلا ضمير دولي يحميه.
مات الجسد... لكن بقي الشفاء. وربما كانت الجدران قد تهدمت، لكن الحكاية ما زالت تبنى، حجرا فوق حجر، وذكرى فوق ذكرى، واسما بعد اسم. لأن الشفاء، وإن قصف، باق... في ذاكرة كل من آمن أن الطب مقاومة، وأن المشرط سلاح في وجه الصمت.