القصائد العربية في دواوين شعراء الفارسية ( الجزء الثاني )

الإثنين 27 مارس 2017 - 09:22 بتوقيت مكة

ثمة روابط وثيقة بين تراثي العرب وأهل بلاد فارس في ميدان الشعر نادراً ما قامت بين امتين ، وكانت الصلة بين العرب والفرس في مظهر لغوي وادبي هو ألتقاء الفارسية والعربية على ألسنة بعض من شعراء وبلغاء الفرس الذين نشأوا وترعرعوا في بلاد فارس وقضوا كلاً أو جزءً من حياتهم فيها ، وابدعوا آثاراً منظومة أو منثورة ، وهم يعرفون بأصحاب اللسانين ، لأنهم عبّروا بالفارسية والعربية بذلك تواكبت اللغتان وارتبطتا في شعرهم وادبهم . ومن هؤلاء الشعراء الشاعر ( مهيار الديلمي ) حيث نشأ في عائلة فارسية مالكة من أشرف عائلات فارس من أولاد أنو شيروان ، ثم سافر إلى مدينة بغداد وسكن فيها واتصل بالشريف الرضي ( قدس سره) والذي كان يوم ذاك حجّة الأدباء والأشراف فأثَّر هذا الاتصال بشخصية مهيار وشاعريته ، ووجد في الشريف الرضي غايته التي ينشدها من خلق وأدب وعلم وفصاحة وتقوى ، فنهل من منبعه الصافي العلوم والآداب ، والفقه والمحاججة .

ولد الشاعر والأديب أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي سنة 367 هجرية  في الديلم وهي مدينة تقع (جنوب كيلان بالقرب من بحر قزوين)  .

كان مهيار مجوسياً ، ولكن بعد ارتباطه بالسيّد الرضي قدس سره تغيّرت عقيدته من المجوسية إلى الاسلام على مذهب أهل البيت عليهم السلام وذلك في عام 394هـجري ، فهو مسلم في دينه ، علوي في مذهبه ، عربي في أدبه ، لذا نراه يبتهج بسؤدد عائلته ويفتخر بشرف إسلامه وحسن أدبه بقصيدة في ديوانه يقول فيها :

                   لا تخَالِي نَسَباً يَخفِضنِي *** أَنَا مَن يُرضِيكَ عِندَ النَّسَبِ

                 قومي استَوَلوا عَلى الدهر فتىً *** وَمَشُوا فَوق رؤوسِ الحُقَبِ

                    عَمَّمُوا بالشَّمسِ هَامَاتَهُمُ *** وَبَنَو أبياتَهُم بالشَّهَبِ

                 وَأبي كسرَى عَلَى إِيوَانِهِ *** أَينَ فِي النَّاسِ أَبٌ مثلَ أبِي

                سُورةُ المُلك القُدَامَى وَعَلى *** شَرَفِ الإِسلامِ لِي وَالأدَبِ

               قَد قبستُ المَجدَ مِن خَيرِ أبٍ *** وقبستُ الدِّين مِن خَيرِ نَبي

                وَضَمَمْتُ الفخرَ مِن أطرافِهِ *** سُؤدَد الفُرس وَدِين العَرَبِ

يعدُّ في الرعيل الأول من ناشري لغة الضاد ، وموطدي أسسها ، له ديوان ضخم في أربعة أجزاء يطفح بأفانين الشعر وفنونه وضروب التصوير وأنواعه . أما شعره في المذهب فَبَرهَنَةٌ وحِجَاجٌ فلا تجد فيه إلا حجة دامغة ، أو ثناءً صادقاً ، أو تظلماً مفجعاً ، وبالرغم من كونه فارسياً في العنصر فقد قرض الشعر العربي وفاق أقرانه .

قال عنه السيد جواد شبر في كتابه ( أدب الطف ): ” من أشهر الشعراء الذين برزوا في النصف الأخير من القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس الهجري ولعله كان أشهرهم على الإطلاق بعد أستاذه الشريف الرضي ، اشتهر بالكتابة والأدب والفلسفة كما اشتهر بالشعر ، كان ثائر النفس عالي الهمة قوي الشخصية معتزاً بأدبه ونسبه ” .

وقال الحر العاملي: جمع مهيار بين فصاحة العرب ومعاني العجم.

ومن أشعاره في مدح اهل البيت عليهم السلام :

                  ألا ســل قريشــا ولِـمْ مِنْهُمُ *** من استوجب اللــوم أو فند

             وقل: ما لكم بعد طول الضلال *** لم تشكروا نعمــة المرشـد

                 أتاكــم على فترة فاستقـام *** بكم جائرين عن المقصــد

                    وولى حميــدا إلى ربــه *** ومـن سـنَّ ما سـنَّه يحمـُد

                 وقد جعــل الأمر من بعده *** لحيــدرٍ بالخــبر المسنـدِ

                 وسـمَّاه مـولَى بـإقرار مـن *** لو اتبع الحــق لم يـجـحد

 توفّي الشاعر الديلمي عليه الرحمة في ليلة الأحد الخامس من شهر جمادى الآخرة في عام 428هـجرية .

ان الصلات بين الفرس و العرب قديمة تمتد أصولها إلى أبعد من تاريخ المدن و الاختلاط . و التبادل و المشاركة في الحياة الاجتماعية و الثقافية بين الأمتين في كل العصور يكشف عن أوثق الروابط و الصلات بينهما. كان ظهور الدين الحنيف سبب انتشار اللغة العربية حتى شملت بلاد فارس ، و قد شرع معظم العلماء الايرانيين في تدوين مؤلفاتهم و كتبهم و رسائلهم باللغة العربية و ظهر شعراء كثيرون ينظمون بها و يعرفون بأصحاب اللسانين لأنهم عبروا بالفارسية و العربية و ظهور هؤلاء الشعراء أحد أبعاد تجليات الصلات الثقافية بينهما.

وفي القسم الاول من هذه الحلقة تناولنا سيرة الشاعر الفارسي الكبير ( مهيار الديلمي ) في القسم الثاني من هذه الحلقة نحاول ان نسلط الضوء على شاعر آخر من شعراء بلاد فارس انشد ابياتاً بالعربية وبقية هذه الابيات خالدة حتى يومنا هذا وهو الشاعر الكبير ( محمد بن أحمد الأبيُوردي ) .

ولد الشاعر والاديب الكبير ابو المظفر محمد بن احمد الأبيُوردي في قرية ( كوفن ) التي تقع بالقرب من مدينة ابيورد في خراسان شرقي ايران وقضى عمره فيها وفي اصفهان والعراق .

امتاز الشاعر باتساع ثقافته وامتداد افقه العلمي مدحه جماعة من أكابر الشعراء في عصره تولى الابيوردي في اواخر عمره أشراف مملكة السلطان محمد بن ملك شاه السلجوقي في اصفهان .

 كان الأبيُوردي عالماً نثرياً في الادب العربي الا انه لايوجد بين ايدينا من آثاره النثرية إلارسالة صغيرة كتبها الى بعض الاكابر ، ورسالة اخرى كتبها للمستظهر العباسي يعتذر منه فيها عن هربه من بغداد ، فهاتان الرسالتان تدلاّن على انه كان يتبع الجاحظ في اسلوبه ، وذلك بالتزامه ترادف الالفاظ على معان متقاربة ، ويتبع الجمل على معان متشابه كالجاحظ ، لكن قدرته الادبية تبدو واضحة في الشعر ، فهو شاعر ظريف فصيح متين السبك لائق المعنى ، طرق في شعره فن المدح والفخر والهجاء والعتاب والغزل والوصف .

قال ياقوت كان إماماً في كل فّنٍ من العلوم عارفا بالنحو واللغة والنسب والاخبار ، ويده باسطة في البلاغة والانشاء وله تصانيف في جميع ذلك وشعره سائر مشهور.

وأخذ الابيوردي عن جماعة ، وذكروا أنه كان من أخبر الناس بعلم الانساب ، متصرفاً في فنون جمّة من العلوم ، وافر العقل ، كامل الفضل وكان فيه تيه وكبرياء ، وعلو همة ، وكان يدعو « اللهم ملّكني مشارق الارض ومغاربها »!! وقد حصل من انتجاعه بالشعر من ملوك خراسان ووزرائهم ، ومن خلفاء العراق وأمرائهم ، ما لم يحصل لغيره! ومع هذا فهو يشكو كثيراً في شعره. وممن مدحهم سيف الدولة الذي أغدق عليه الصلات والهبات.

ومن شعره كما في الكنى والالقاب :

تنكّر لي دهري ولم يدر أنني                                           أعزّ وأحوال الزمان تهون

وظلّ يريني الخطب كيف اعتداؤه                           وبتُّ أُريه الصبر كيف يكون

ومن شعره في مدح امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام  :

شردوا بي عند امتداحي علياً                                      ورأوا ذاك فيَّ داءً دوّياً

فور بي لا أبرح الدهر حتى                                     تمتلي مهجتي بحبِ علياً

وبنيه لحب احمد إني                                          كنت أحببتهم لحبي النبيّا

حبَّ دين لا حبّ دنيا وشرّ                                      الحب حباً يكون دنياوياً

صاغني الله في الذوابة منهم                               لا زنيماً ولا سنيداً دعياً

عدّوياً خالي صريحا وجدي                                  عبد شمس وهاشم أبويا

فسواء عليَّ لست أبالي                                          عبشمياً دعيت أم هاشميا

 

 كان الأبيُوردي أديباً وشاعراً وكاتباً متبحراً بالعلوم العربية له ديوان مطبوع ومشهور قسمه الى : « العراقيات والنجديات والوجديات » وله تصانيف كثيرة منها كتاب ما اختلف و ائتلف في أنساب العرب و تاريخ أبيورد ، وله آثار قيمة في الادب والتاريخ .

توفي الشاعر الأبيُوردي مسموماً باصبهان في  ٢٠ ربيع الاول سنة ٥٠٧ هجرية .

احبتنا المشاهدين ... إنّ العلاقات بين العرب و الفرس قديمة و عريقة و إن اهل بلاد فارس لم يكونوا بعيدين عن الحياة العربية حتى قبل الإسلام ، و جرى تبادل التأثير بين اللغتين منذ العصور الغابرة . و بعد ظهور الإسلام بلغت الصلة بينهما من القوة منتهاها و الحضارة الفارسية قد مثلت ركناً ركيناً في تشييد صرح الحضارة الاسلامية ،  وكان الامتزاج و التفاعل بين العرب و الفرس سبباً للتطور و التجديد الذي رفع الادب العربي ، و كان للشعراء إلى جانب هؤلاء دور أساسي في تفاعل هاتين الثقافتين حيث ظهر شعراء الفارسية ينشدون ويبدعون في نظم الشعر العربي ،  ومنهم ما استطعنا ان نسلط الضوء عليه في هذه الحلقة وهما الشاعران الكبيران ( مهيار الديلمي ) و  ( محمد بن أحمد الأبيُوردي ) .

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الإثنين 27 مارس 2017 - 08:46 بتوقيت مكة