من مراحل مجاهدة النفس...كيف نصنع قلبًا ذاكرًا؟

الأحد 30 سبتمبر 2018 - 08:52 بتوقيت مكة
من مراحل مجاهدة النفس...كيف نصنع قلبًا ذاكرًا؟

الاشتغال بالقضايا الأساسية والمصيرية والمحورية ينقلنا إلى العالم الكبير الواسع، الذي يريد إبليس أن يصدّنا عنه.ما من إنسان يتفكّر بالقضايا الكبرى ويشغل نفسه بها إلا ويكون له فرصة التحوّل إلى إنسانٍ معنويّ ذي قيمة...

من مراحل مجاهدة النفس...كيف نصنع قلبًا ذاكرًا..؟

السيد عباس نورالدين

بالنسبة للمحجوبين عن الله تعالى بسبب الانهماك بشؤون عالم البدن والمادّة، فإنّ التفكّر أمرٌ لازم للخروج من هذا الاحتجاب. أهمية التفكّر بقضايا الوجود تكمن في سدّ أبواب الشكوك والوساوس الشيطانية، التي يمكن أن تصبغ الإنسان بصبغتها الباطلة والخبيثة. فنحن في النهاية ما نفكّر وأفكارنا تعكس من نحن وكيف نحن. وإذا أراد أحدنا أن يعرف أهم حقائق نفسه فلينظر إلى ما يشغل باله من أفكار. والاشتغال بالقضايا الأساسية والمصيرية والمحورية ينقلنا إلى العالم الكبير الواسع، الذي يريد إبليس أن يصدّنا عنه.
ما من إنسان يتفكّر بالقضايا الكبرى ويشغل نفسه بها إلا ويكون له فرصة التحوّل إلى إنسانٍ معنويّ ذي قيمة؛ لهذا كانت بداية التحوّلات النوعية والجوهرية هي في ترسيخ حالة التفكّر البنّاء في النفس. لكن المتفكّر في الله، والذي كان يطلبه تعالى بواسطة غيره، سرعان ما يكتشف أنّه قد خرج من حجاب ليقع في حجاب آخر.
فالتفكّر كما هو معلوم، هو عبارة عن استعمال القضايا البديهية للتوصّل إلى قضايا مجهولة؛ ولهذا، كان التفكّر حجابًا، لأنّ المتفكّر يستدل على ما هو أقل نورًا ووجودًا بما هو أنور وأعلى. وباكتشاف هذا الخطأ، لا يبقى سوى طريق واحد للتخلّص والنجاة، وهو أن يتعامل مع هذه الحقيقة التي التفت إليها كما هو حقّها. فالله أعظم وأجلى وأنور حضورًا من أن نطلبه بالدليل والواسطة. "أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك.. متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟!". فالله هو نور السماوات والأرض. والاستدلال بما هو أقل ظهورًا على من هو أظهر دليل على كون المستدل محتجب.
أجل لقد كان التفكّر وسيلة للانتباه واليقظة؛ فهو جسرٌ رائع لكنّه منزلٌ سيّئ، وعلى السالك أن ينتقل إلى الحضور. وهذا هو التذكّر. وقد قالوا أنّ التفكّر طلب المفقود والتذكّر وجود.
الأمر في غاية البساطة.. فإذا عرفنا أنّ الله محيطٌ بنا وبكل شيء، وحاضرٌ وناظر ورقيب ومدبّر وعليم، وأثبتنا ذلك بقدم الاستدلال؛ فما الحاجة بعدها إلى أن نتفكّر ونستدل؟! اللهمّ إلّا إذا كان الشكّ ما زال موجودًا.
فالوقت الآن هو وقت التذكّر واستحضار هذه الحقائق ومعايشتها وتطبيقها على كل مجالات الحياة وأحوالها وأوقاتها. ولأجل ذلك نحتاج إلى ترسيخ ثلاثة أبنية أساسية، هي:
1-الانتفاع بالموعظة، لأنّ القلب مركز التذكّر. ولا يتذكّر إلّا القلب الحي. ولا حياة للقلوب إلّا بالمواعظ. كما أوصى أمير المؤمنين عليه السلام: "أحيِ قلبك بالموعظة".(1) فالاتّعاظ والتأثّر بحقائق العواقب الحسنة والسيّئة دليل أوّل على حياة القلب.
2-استبصار العبرة، لأنّ الاعتبار وتطبيق دروس الحياة على الذات دليل على وجود اتّصال قويّ بين النفس والقلب. فمن لم يعتبر بما يجري على غيره، فهو الغافل الناسي لنفسه. وكيف يحيي قلبه من نسي نفسه.
3-والظفر بثمرة الفكرة، لأنّ التفكّر الذي لا يثمر هو تفكّر عقيم؛ بل هو ليس سوى وساوس وخطرات عابثة. والثمار هي مجتنيات التفكّر، التي يودعها في القلب فتكون بذورًا للتذكّر. وبمقدار ما تزداد ذخائر القلب من ثمار التفكّر يقدر على التذكّر. ولهذا قيل إنّ مئة فكرة تنتج ذكرى، وألف فكرة قد تنتج مئة ذكرى. فلكي يذكر القلب، يحتاج إلى رصيدٍ كبير من الأفكار الطيّبة التي تضفي عليه تلك الحالة الروحية اللازمة.
وإنّما ننتفع بالموعظة بعد حصول ثلاثة أشياء، وهي:
أ. شدة افتقارنا إليها وشعورنا بالأهمية الحياتية لها؛ بمعنى أن نطلب الموعظة من أجل حياة قلوبنا التي تُعدّ الرأسمال الوحيد لآخرتنا. فمن مات قلبه، لم تُكتب له الحياة الأبدية. والقلب المتّعظ يدرك مدى تأثير الموعظة فيه. فهي بمنزلة المحرّك الذي يستفز كل الأفكار فلا تركد في قعر النسيان. ولطالما سمعنا كلامًا رائعًا ومفيدًا، لكنّنا ننساه عند أدنى انشغال بالدنيا. وما لم نعمل على إبقاء حيويّة القلب ورقّته، فلا انتفاع بأي فكرة مهما كانت عظيمة ومهمّة.
ب. العمى عن عيوب الواعظ؛ لأنّ الانشغال بالواعظ ينسينا الموعظة. وقد قيل "انظر إلى ما يُقال ولا تنظر إلى من قال". وأوّل حيل النفس وخدعها أن تعمد إلى ربط كل موعظة بقائلها، حتى تبرّر عدم تطبيقها إن هي وجدت فيه عيبًا أو تقصيرًا. وما أكثر ما يتعذّر الناس بعيوب وأخطاء العلماء والوعّاظ والمرشدين من أجل تبرير قعودهم وتقصيرهم. ورغم أهمية اتّصاف الواعظ بالصفات الفاضلة، وسبق فعله قوله، ومقارنة موعظته بالعمل، لكن إن لم نفصل بين الموعظة وقائلها، فمن الصعب أن نستفيد منها كما ينبغي. وما أكثر المواعظ التي يمكن أن نحصل عليها من أُناس لا خلاق لهم. وقد قيل "إنّني تعلمت الأدب من غير المتأدّبين". وقيل أيضًا "مجنون يتكلم وعاقل يسمع".
إنّ شدّة اهتمامنا بالموعظة يتجلّى بقوّة السمع والانتباه؛ وهذا ما ينعكس بتلك الحساسية المرهفة تجاه الحقائق؛ الأمر الذي يُعدّ ركن التذكّر الأكبر.
ج. ذكر الوعد والوعيد؛ وهما رصيدا الذّكر؛ لأنّهما يرتبطان بعاقبتنا وحياتنا الأبدية ومصيرنا النهائيّ. فمن عرف أنّه مقبل على حياة لا موت فيها وعلى عالم لا نهاية لأمده، يربط كل أفعاله وسلوكه وشؤونه الدنيوية بذلك العالم السرمديّ. وإنّما يأتي ذكر الوعد والوعيد ليفصّل في معاني هذه الرابطة بين العالمين، عالم المحطّة العابرة وعالم الحياة الباقية.
إنّ قلوبنا تموت حين تتبع الأمور الزائلة وتتّجه نحو الأمور الفانية. وحينها لا يهمّها سوى الحصول على هذا المتاع القليل. وبذلك ينفتح باب المعاصي والخطايا ويقبل الإنسان على أي فعل غير عابئ بعاقبته. اللهمّ إلا إذا تذكّر واعتبر بما يجري على الغافلين المعرضين.
وإنما نستبصر العبرة في الحياة بثلاثة أشياء:
أ. بحياة العقل؛ لأنّ العقل هو الأداة التي تميّز بين النقص والكمال في كلّ شيء. وبتبع ذلك يميّز بين الحقّ والباطل والخير والشر والنافع والضار. وهذه هي أبنية الاعتبار. فالمعتبر هو الذي يستخرج من كل حادثة أو واقعة ما فيه مصلحته أو ضرره. وكلّما قوي نور العقل، ازداد الاعتبار. وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام "ما أكثر العبر وأقل الاعتبار".(2) لأنّ أكثر الناس لا يعقلون.. قال الإمام عليه السلام: "فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ، وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ، وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الاْوَّلِين(3)."
ب. ومعرفة الزيادة والنقصان في الأيام؛ والأيام هي الفرصة. وأصحاب القلوب هم الذين يتحسّسون الفرص في العمر، لأنّهم يعلمون أنّها واردات ونفحات إلهية ينبغي أن يتعرّضوا لها ولا يعرضوا عنها. ومقتنصو الفرص هم الواقفون على باب الله تعالى، يفتحون أيديهم لعطاياه وقلوبهم لتجلياته.
ج. والسلامة من الأغراض؛ وهي أهم حالات طهارة القلب. فمن كان قلبه متوجّهًا إلى الأغراض الخبيثة أو المنحطّة السافلة، لم يقدر على التوجّه إلى عالم الأفكار العليا. وهذا هو القلب المنكوس كما جاء في الروايات، حيث يكون أسفله أعلاه وأعلاه أسفله. وبذلك لن يكون له فرصة التوجّه إلى الحقّ ومعايشته بقلبه.
وإنّما تُجتنى ثمرة الفكرة بثلاثة أشياء:
أ. بقصر الأمل؛ لأنّ طول الأمل بالدنيا وشؤونها الزائلة دليل على اعتبارها ذات شأن وأهمية. ولا يعتبرُ الإنسان الزائل الفاني ذا شأن، إلا حين ينسى الآخرة وما فيها.
إنّ متاع الدنيا مهما كان كبيرًا وعظيمًا بنظر أهلها، فهو لا شيء مقارنةً بمتاع الآخرة ونعيمها وأحوالها. وليست الآخرة إلّا مجمع حقائق الوجود وتجلّي أكبر آياته. فكيف يكون ذاكرًا لهذه الحقائق من كان عنها معرضًا وبغيرها مشغولًا.
إنّنا إذ نأمل بالعيش المديد، فلأنّنا نحبّ هذه الحياة ونفضّلها على غيرها؛ وليس هذا إلا من نسيان الآخرة وحقائقها وعدم الاستفادة من التفكّر الصحيح بها.
ب. والتدبر في القرآن؛ لأنّ كتاب الله هو أعظم رابطة ووسيلة بين الحقّ والخلق؛ بل هو التجلّي الأعظم للخالق. فمن اتّصل بكتاب الله فقد اتّصل بالله. والقرآن هو الذكر كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون‏}.Anchor[4]
فلا يوجد مجال للذكر أعظم من القرآن، ولئن قال تعالى: {فَاذْكُرُوني‏ أَذْكُرْكُمْ}.Anchor[5] ففي القرآن الكريم كما قال تعالى ذكرنا، الآية : {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُون‏}.Anchor[6]
ج. وقلّة المخالطة والتمنّي والتعلّق والشبع والمنام؛ فهذه أمور تشغل القلب بالسفاسف والسخافات وتميته وتجعله غافلًا. ففي كثرة مخالطة الناس انشغال بما لا طائل وراءه، وإكثار للخواطر والخيالات التي لا أثر لها سوى حجب الإنسان عن حقائق العالم الكبرى. وكل من جرّب هذه الأمور يعلم مدى تأثيرها على قلبه. فالذكر يتطلّب التذكّر والحياة هي فرصتنا لنيل ذلك.

الهوامش:

(1)نهج البلاغة، ص 631.

(2)نهج البلاغة، ص 774.

(3) نهج البلاغة، ح 288.

(4)سورة النحل، الآية 44.

(5)سورة البقرة، الآية 152.

(6)سورة الأنبياء، الآية 10.

المصدر:مركز باء للدراسات

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأحد 30 سبتمبر 2018 - 08:51 بتوقيت مكة