آية الله جوادي الآملي
ضرورة عصمة أولي الأمر
لقد اتضح جيداً من خلال الأدلة العقلية والنقلية المعتمدة على البرهان والآيات القرآنية أنه لا حق لأحد بالحكومة على الناس إلا بالذات الإلهية المقدسة. وهذا الحصر بالولاية الإلهية يقودنا إلى الاستنتاج بأن من يعد مؤهلاً للحكومة من بين الناس ينبغي أن يكون معصوماً لأن المعصوم هو ذلك الإنسان الذي تكفل الله به في كافة شؤونه العلمية والعملية، ففي المسائل العلمية ما يفهمه هو علم الله، وفي المسائل العلمية ما يفهمه هو علم الله، وفي المسائل العملية ما يؤديه هو فعل الله. ومن يستند في كل ما يفهمه وفي كل ما يقوم به إلى الله تعالى تكون حاكميته هي الحاكمية الإلهية.
ويؤيد هذا الاستدلال العقلي على ضرورة عصمة ولاة أمور المسلمين الآيات القرآنية، ففي الآية 59 من سورة النساء يقول تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً﴾.
وقد مر في الأبحاث السابقة أن لهذه الآية ثلاثة أقسام، ففي قسمها الأول، يأتي الحديث عن ثلاثة من الذين ينبغي إطاعتهم: الله تعالى، الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأولو الأمر. وفي القسم الثاني يأتي الحديث عن مرجعية الله ورسوله، وفي القسم الثالث ينحصر الحديث في التوحيد ورجوع الإنسان إلى الله عز وجل، وهذا يدل على أن ذلك التثليث وتلك التثنية إنما تعود في الحقيقة إلى التوحيد في العبادة والطاعة، فكل طاعة للرسول أو أولي الأمر إنما تعود إلى طاعة الله سبحانه.
وأما ما يدل على عصمة أولي الأمر في هذا الآية المباركة، فهو الأمر بطاعتهم الذي صدر بصورة مطلقة وبدون تقييد، فلو لم يكن ولي أمر الأمة معصوماً أو لو احتمل خطؤه في القول أو الفعل ـ حتى لو كانت عدالته محرزة ـ لا يمكن طاعته مطلقاً. لأن العدالة مانعة من المعصية المتعمّدة، لكنها لا تمنع من السهو والنسيان، والشخص الذي يُحتمل الخطأ العلمي أو العملي في عمله، لا بد من قياس فعله وقوله بالميزان العلمي والعملي، وفي هذه الصورة لا يكون هذا الإنسان مطاعاً بالمطلق، بل المطاع مطلقاً هو ذلك الذي أصبح قوله وفعله ميزاناً بحد ذاته.
هذا الميزان لا يمكن أن يكون القرآن فقط، فألفاظ وظواهر القرآن ليست إلا سواداً على بياض، ويمكن أن تصبح معرضاً لتنوع آراء الناس وأهوائهم بحيث تُطبق على أساس التصورات المختلفة عندهم. بل الميزان هو القرآن الناطق، لأنه أدرك حقائق القرآن، فصارت سيرته، سكوته وسكونه، قوله وفعله، ساحة تعرض عليها آراء وأفعال الآخرين.
والشخص الوحيد الذي يمتلك هذه الخاصية هو ما يعبر عنه بالمعصوم وهو الذي يمكن أن يكون مطاعاً بالمطلق. من هنا كانت الطاعة المطلقة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام من جهة عصمتهم، وإن كانت عصمتهم، في ظل عصمة حضرة الحق تعالى التي هي عصمة بالأصالة وبالذات، عصمة بالتبع والعرض.
معنى عرض أخبار الأئمة عليهم السلام على القرآن
يمكن أن يعرض هذا الإشكال على الذهن، وهو أنه لو كان أولو الأمر بأنفسهم ميزاناً للفكر والعمل ويترتب عليه إطاعتهم المطلقة بنحو اللزوم والضرورة، فما هو سبب عرض أخبار الأئمة عليهم السلام على القرآن المجيد؟
إن باعث هذا الإشكال هو تلك النصوص الكثيرة في باب حجية الخير الواحد، وأيضاً في باب ترجيح رواية واحدة من متعارضتين، وجواب هذه الشبهة: هو أن عرض روايات المعصومين عليهم السلام على القرآن هو لأجل إثبات كلام الإمام وتحديد أصل صدوره، أو جهة صدوره. فإذا لم نشك في صدور رواية ما عن الإمام عليه السلام ولن نحتمل في أن سبب صدورها هو وجود التقية، فلا لزوم لعرض كلامه وقياسه على الكتاب الشريف. لأن القرآن ميزان وكذلك، المعصوم، ولو كان أحدهما فقط ميزاناً والآخر يوزن به ويقاس عليه لكان الميزان هو الأصل والآخر فرع له. ولأن الفرع لا يوازي الأصل ـ فعند حضور الأصل لا يتدخل الفرع ـ يلزم التفكيك بينهما، والحال أن القرآن وسنة المعصومين عليهم السلام ثقلان لا يتصور الانفصال بينهما.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشأن هذين الثقلين: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" إذاً، كل ما ورد بشأن عرض الأخبار على القرآن مرتبط بمقام الإثبات، لأنهما (القرآن والعترة) في مقام الثبوت: ميزان واحد، وإن تكثّر في نشأة الثالوث وعالم الطبيعة ذلك النور الواحد في القرآن بعنوان الثقل الأكبر، وفي الإمام المعصوم بعنوان الثقل الأصغر.
والاختلاف الذي ظهر في عالم الطبيعة من هذه الجهة بين هذين الثقلين أدى إلى تفاضل أحدهما على الآخر، وبدليل هذا التفاضل الجسماني، يقوم أحدهما ـ أي الإمام ـ بحفظ الآخر الذي هو القرآن والثقل الأكبر. وفي هذا المسير يبذل الإمام (الثقل الأصغر) قصارى جهده وهمه حتى لو كان يؤدي ذلك إلى أن يضّحي ببدنه (لا بروحه) فداء للثقل الأكبر لأن ما يفتدى في الجهاد هو البدن، وإلا فإن الروح أمر أبدي، وعن هذه الأبدية تحكي الآية الشريفة: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ [آل عمران ـ 169].
وهذا لأن ما يقدمه الشهيد يقع في حدود الجسم، أما الذي يقدم روحه فهو من الأموات.
والنتيجة، أن الذي يعرف الحق كميزان، لا بد أن يعرف حقانية القرآن وحقانية الإمام، ومن وصل إلى هذا المقام فإنه لا يقع في الشك والتردد مهما واجه من مخالفين ولن يسأل إمامه المعصوم عن حقانيته. وكما ورد في جواب أمير المؤمنين عليه السلام لسائل سأله عن الأعداء: أيكون كل هؤلاء على باطل، فقال له: أعرف الحق تعرف أهله.
الحق بالذات هو الله سبحانه، وتلك الحقوق التي نجدها في عالم الإمكان تكون من الله تعالى. فالحق من الله، ويكون المعصوم مع هذا الحق. ومن هنا جاء الفرق ما بين هذا القول: ﴿الحق من ربك﴾ [البقرة ـ 147] وقول "علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار". لأن الله لا نظير له لا يمكن أن يكون أحد معه، بل الجميع من الله، وأما المقصود من هذا الكلام "الحق مع علي وعلي مع الحق" فهو أن الذي يعرف الحق سوف يعرف علياً.
المصدر:مجلة بقية الله