قبسات من حياة خديجة بنت خويلد
هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة عامر بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وأمها: فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر(1).
وتلتقي مع النبي الأعظم (ص) في هذا النسب الجليل في قصي من جهة الأب، وفي لؤي من جهة الأم، فهي قرشية الأصل
أباً وأماً .
ولدت السيدة خديجة في السنة الثامنة والستين قبل الهجرة النبوية الشريفة (2)، في بيت من أشرف بيوت قريش وأعزها، ونشأت على الخير والصلاح، وصانت نفسها من كل قبيح من شأنه أن يدنس كرامتها، أو يسىء إلى عزتها وشرفها
حتى عرفت في الجاهلية بالطاهرة (3).
ولرفيع مقامها، وعظيم منزلتها بين قومها، خطبها أشراف قريش وساداتهم، وكلهم أملوا أن يكون لهم شرف الزواج من هذه المرأة العظيمة، إلاّ أنها رفضت الجميع مفضلة الاقتران بأشرف الخلق وسيد الكائنات رسول الله (ص) الذي كانت قد سمعت عما ينتظره من مستقبل عظيم (4).
وبقيت مع النبي (ص) في أسعد عيش، وأهنأ حياة إلى أن أكرمه الله بالرسالة فكانت رضي الله عنها أول امرأة صدقت به وآمنت برسالته بإجماع المؤرخين.
فلم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وعلي بن أبي طالب ثالثهما، يرى عليه السلام نور الوحي والرسالة، ويشم ريح النبوة كما ورد في مضمون كلامه صلوات الله عليه (5).
وقد روي عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي، عن أبيه عن جده قال:
كنت امرأً تاجراً فقدمت الحج، فأتيت العباس بن عبدالمطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امرأً تاجراً، فوالله إني لعنده بمنى، إذ خرج رجل من خباء قريب منه،فنظر إلى الشمس فلما رآها قد مالت قام يصلي، ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام قد راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه يصلي.
فقلت للعباس: ماهذا ياعباس؟.
قال: هذا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، ابن أخي.
قلت: من هذه المرأة؟.
قال: امرأته خديجة بنت خويلد.
قلت: من هذا الفتى؟.
قال: علي بن أبي طالب، ابن عمه.
قلت: ما هذا الذي يصنع؟.
قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام.. (6).
وبعد مجيء النبي(ص) بدعوته، وتصديقها به وإيمانها برسالته، نذرت نفسها لخدمته، وأوقفتها لمؤازرته ومناصرته، فكانت له (ص) الزوجة الوفية الصادقة المخلصة الناصحة ... المعينة له (ص) على أداء الرسالة وتبليغها، والمخففة عنه كل آلامه وأتعابه، وما يعانيه من عنت قومه، وكفرهم به، وإيذائهم له (ص).
روى هشام بن عروة عن أبيه قال: « أول من آمن بالنبي (ص) من الرجال والنساء خديجه رضي الله عنها، وكانت للنبي (ص) وزير صدق عندما بُعث، فكان لايسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردٍّ عليه، وتكذيب له إلا فرّج الله بها عنه، تُثّبته وتصدّقه وتخفّف عنه وتهوّن عليه ما يلقى من قومه واختارها الله لنبيه (ص) لما أراد بها من كرامته» (7).
كما أنها سخّرت أموالها الطائلة ـ وكانت أثرى وأغنى امرأة في مكة ـ لخدمة الإسلام، وبذلتها بسخاء في سبيل انتشاره، بل أنها وضعت كل ثروتها بين يدي النبي (ص) يتصرف بها كيف شاء، فقد قالت لابن عمها ورقة بن نوفل: أعلن بأن جميع ماتحت يدي من مال وعبيد فقد وهبته لمحمد يتصرف فيه كيف شاء.
فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته: « يامعشر العرب، إن خديجة تشهدكم أنها وهبت لمحمد نفسها ومالها وعبيدها وجميع ماتملكه يمينها، إجلالاً له، وإعظاماً لمقامه، ورغبة فيه ..» (8).
وبهذه المواقف المشكورة نالت السيدة خديجة أعلى المقامات وأشرفها، ووصلت إلى درجة رفيعة جداً من عظمة الجلال وجلال العظمة، مما أهلها إلى أن يسلّم عليها الباري سبحانه وتعالى، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب لاصخب فيه ولا نصب.
فقد أتى جبريل (ع) إلى النبي (ص) فقال له: « يارسول الله، هذه خديجة قد أتت ومعها إناء فيه أدم أو طعام أوشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لاصخب فيه ولا نصب ».
فأخبر الرسول (ص) السيدة خديجة بما قال جبريل فقالت: « الله هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام » (9).
قال السهيلي: « وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب ـ يعني قصب اللؤلؤ ـ لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب لأنها لم ترفع صوتها على النبي (ص)، ولم تتعبه يوماً من الدهر، فلم تصخب عليه يوماً، ولا آذته أبدا » (10).
لذا كان النبي (ص) يعتبرها أفضل زوجاته وأقربهن إليه، وأحبهن إلى قلبه، كما تكاثرت بذلك الأخبار عن النبي المختار (ص) (11).
والتي من بينها مارواه الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله (ص) لايكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت: « هل كانت إلا عجوزاً؟!، فقد أبدلك الله خيراً منها.
فغضب (ص) حتى اهتزّ مٌقدّم شعره من الغضب ثم قال (ص). لا والله، ما أبدلني خيراً منها آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها ولداً إذ حرمني أولاد النساء » (12).
ولم يكن النبي (ص) يعتبرها أفضل نسائه فقط، بل يعتبرها ووصيفاتها الثلاث أفضل نساء العالمين، وسيدات نساء الجنة.
فقد قال (ص): « خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد بن عبدالله » (13).
وقد انتقلت السيدة خديجة إلى جوار ربها راضية مرضية في اليوم العاشر من شهر رمضان المبارك، السنة العاشرة من البعثة النبوية الشريفة، وهما نفس الشهر والعام اللذان انتقل فيهما أبوطالب إلى رحمة الله تعالى، فحزن النبي (ص) عليهما حزناً كبيراً، وسمى العام الذي توفيا فيه عام الأحزان (14).
المصادر والمراجع:
1ـ سيرة ابن هشام المجلد الأول الجزء الأول ص 174
2ـ خديجة بنت خويلد لعلي دخيل ص 12
3ـ نفس المصدر ص13 و ص 26 وعلموا أولادكم محبة آل بيت النبي ص59 وفاطمة الزهراء والفاطميون ص 10 .
4ـ راجع عن زواج خديجة بالنبي (ص) كتاب فاطمة من المهد إلى اللحد ص41 - 46 والكامل في التاريخ ج1 ص569 - 570 وسيرة المصطفى ص 57 - 59 .
5ـ انظر نهج البلاغة فهرسة د.صبحي الصالح ص 300 - 301 .
6ـ شرح ابن أبي الحديد ج1 ص821 وقريب منه في كتاب خديجة بنت خويلد ص15 وكذا في سيرة ابن كثير
ج1 ص211 - 212 .
7ـ الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة ج2 ص60 .
8ـ خديجة بنت خويلد ص 19 .
9ـ انظر علموا أولادكم محبة آل بيت النبي ص 69 - 70 وخديجة بنت خويلد ص23 والجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة ج2 ص60 والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص312 وينابيع المودة الجزء الأول الباب الخامس والخمسون ص167
10ـ السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص312 .
11ـ للوقوف على بعضها راجع سيرة ابن كثير ج1 ص312 - 314 والجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة ج2 ص60 وعلموا أولادكم محبة آل بيت النبي ص71 - 72 وخديجة بنت خويلد ص 20 - 21 .
12ـ الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة ج2 ص60 .
13ـ ذخائر العقبى ص44 وقد ورد هذا الحديث من طرق كثيرة وبألفاظ متقاربة ، وللوقوف على ذلك راجع نفس المصدر ص42 - 44 ومناقب ابن المغازلي ص 363 والينابيع الجزء الأول الباب الخامس والخمسون ص167 - 171 وخديجة بنت خويلد ص23-25 وبهجة قلب المصطفى ج1 ص93 - 96 وفاطمة من المهد إلى اللحد ص270 .
14ـ انظر عن وفاة خديجة وأبي طالب سيرة المصطفى ص201 - 205 .