الكوثر - فلسطين
في صباحٍ خريفيٍّ من عام 1962، وفي أزقّة خان يونس التي كانت تحمل آثار الحصار والاحتلال، وُلد طفلٌ سيُكتب اسمه مقرونًا بالصبر والثبات. لم يكن اسمه قد سُجّل بعد في دفتر الأحوال، لكن القدَر خطّ له كلمةً سترافقه أبد الدهر: المقاومة.
نشأ يحيى السنوار في مخيّمٍ اعتاد أصوات الدبابات وصرخات الأمهات، وتعلّم منذ صغره معنى الاحتلال من جراح الجدران ودموع البيوت.
في شبابه، انضمّ إلى الحلقات الأولى للحركة الإسلامية الفلسطينية، التي شكّلت فيما بعد النواة الأولى لحركة حماس. كان ذا بصيرةٍ حادّة وصوتٍ جهوريٍّ وهيبةٍ تنظيميّةٍ لافتة، سرعان ما جعلته من أبرز القادة الميدانيين. وكانت مهمّته واضحة: إنشاء جهازٍ أمنيٍّ داخليٍّ للمقاومة، وكشف عملاء العدوّ، وحماية صفوف المجاهدين من الاختراق.
لكنّ هذا الطريق لم يكن بلا ثمن. ففي عام 1988، اعتقله الاحتلال الصهيوني وحكم عليه بالسجن المؤبّد. قضى ثلاثةً وعشرين عامًا خلف القضبان، فيما كانت أفكاره تحلّق حرّةً فوق جدران الزنازين. هناك عُرف بلقب قائد الأسرى، إذ تولّى قيادة المعتقلين السياسيين الفلسطينيين. أنهكته الأمراض والتعذيب، ولا سيّما آلام الجهاز العصبي، لكنّ إرادته بقيت أصلب من الحديد.
إقرأ أيضاً:
في عام 2011، وفي إطار صفقة تبادل الأسرى التي أُفرج فيها عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، خرج يحيى السنوار إلى شمس غزة من جديد. عاد أكثر هدوءًا ونضجًا، لكنه أكثر صلابةً من أيّ وقتٍ مضى. لم يلبث أن استعاد موقعه في الصفوف القيادية لحركة حماس، حتى انتُخب عام 2017 رئيسًا للمكتب السياسي للحركة في قطاع غزة. ومنذ ذلك الحين، صار صوته نبض المقاومة، في الميدان وفي المفاوضات وفي دهاليز الأنفاق وبين أبناء شعبه.
وكانت المنعطف الأبرز في حياته صباحَ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، يوم دوّى في العالم صدى «طوفان الأقصى»، العملية التي هزّت معادلات المنطقة وقلبت مسار التاريخ. كان اسمه حاضراً خلف الستار، كالتوقيع المخفيّ على صفحة التاريخ. فقد تولّى من أعماق الأنفاق التخطيط والإشراف على هذه العملية الكبرى. كان يؤمن بأنّ «طوفان الأقصى» ليس بداية حرب، بل نهاية صمتٍ طويل، وردًّا تاريخيًّا على عقودٍ من الاحتلال والإذلال والحصار. هذا الإيمان هو الذي أبقاه بين المقاتلين حتى آخر لحظة، في آخر موقع، ومع آخر طلقةٍ وآخر نفس.
خلال العدوان الصهيوني على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، ظلّ في قلب المعركة، بين الخطوط الأمامية، في الأنفاق والملاجئ، مع الشباب والقادة. ورغم اشتداد الحصار، ظلّ صوته يردّد: «حتى آخر نفس».
وفي السادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أطبق رصاص العدوّ على صمته الأبديّ في جنوب غزة. ارتقاؤه أشعل موجةً من الحزن والغضب في فلسطين والعالم الإسلامي. كان بالنسبة للعدوّ «عقبةً»، ولشعبه عموداً لا ينكسر، حتى حين كانت السماء تمطر ناراً.
دُفن جثمانه في خان يونس، حيث بدأ الحكاية، ليزرع التراب نفسه بذرةً جديدةً لقصةٍ أخرى من قصص المقاومة. من الطفولة إلى الشهادة، لم يبحث يحيى السنوار عن حياةٍ سهلة، بل عن حياةٍ ذات معنى — معنىً خلّدته ذاكرة فلسطين: المقاومة.. لا تموت.