شاركوا هذا الخبر

الوداع الأخير..

كان كيلومتر واحد فقط يفصل بين الحياة والموت. قبل أن تنهال القنابل على أسطح غزة، كان بيت إيناس أبو معمار يعجّ بضحكات ثلاثة أطفال: أحمد، صبا، وسالي. لم يكونوا أبناءها، بل أبناء أخيها رامز، لكنهم منذ لحظة ولادتهم سكنوا قلبها. بالنسبة لإيناس، كانت لحظات اللعب معهم، جريهم في الأزقة، وضحكاتهم البريئة هي معنى الحياة.

الوداع الأخير..

الكوثر - فلسطين

بعد السابع من أكتوبر، اقترب دويّ القنابل أكثر فأكثر من البيوت. كان دفاع المقاومة عن الأرض والناس حقاً مشروعاً وقانونياً، لكن العدوّ لم يحتمل ذلك؛ فقد اعتاد أن يهاجم بلا مقاومة، أما هذه المرّة ففوجئ وازداد غضباً. إنّ الاحتلال في ذاته «هجوم دائم»، لذا فإنّ طوفان الأقصى لم يكن إلا جزءاً من دفاع الشعب المستمر وردّاً على عقود من الاحتلال والخراب. لقد اشتعلت نيران غضب العدوّ بعد طوفان الأقصى حتى أحرقت جدران كل البيوت ودمّرتها. فقرّر رامز أن ينقل زوجته وأطفاله إلى بيت والديها، على بُعد كيلومتر واحد فقط. لم يكن أحد يدرك أن هذه المسافة القصيرة ستكون الحدّ الفاصل بين النفس والصمت.

في صباح اليوم التالي، انشقّت السماء. دويّ انفجار أشدّ من كل كابوس ابتلع الحيّ. وصل الخبر إلى إيناس: بيت عائلة زوجة رامز قد دمّر. ركضت بلا توقّف، من زقاق إلى آخر، حتى وصلت إلى مستشفى ناصر في خان يونس. هناك، وسط رائحة الدم والدخان، وجدت أحمد ذا الأربع سنوات، جريحاً لكنه حيّ. احتضنته واندفعت به بين الزحام نحو المشرحة. وهناك رأت سالي… صغيرة، ساكنة، ملفوفة بكفن أبيض ابتلع كل الألوان. لم تصدّق… بلهفة صدرها حاولت أن تُجبر السماء على أن تعيد لها ملاكها: «انهضي يا عروستي، هذه ليست لعبة…» لكن الصمت وحده كان الجواب.

في تلك اللحظة، ضغط المصوّر محمد سالم (من وكالة رويترز) على زرّ الكاميرا، مسجّلاً اللحظة التي ضمّت فيها عمّة جثمان ابنة أخيها بكل كيانها. صورة هزّت العالم، ونالت جائزة بوليتزر، لكنها بالنسبة لإيناس لم تكن سوى وثيقة على سرقة الحياة بلا رحمة.

حتى السابع عشر من أكتوبر، كان قد جرى قصف خمسة آلاف هدف في غزة، وسقط ثلاثة آلاف شهيد، بينهم تسعمائة وأربعون طفلاً. كل رقم منهم اسم، وبيت، وحكاية...

بعد ستة أيام على رحيل سالي، لجأت إيناس ومن بقي من العائلة من خان يونس إلى منطقة المواصي الساحلية، حيث احتمت مئات العائلات الأخرى في خيام. المطر كان يغمر الخيام، والريح تسلب النوم، لكن القصف لم يتوقف. نزحوا مرّتين أخريين، وهذه المرّة إلى رفح، حيث لحقت بهم الحرب مجدداً.

وبعد أشهر، عادوا إلى خان يونس. البيت نصف مهدّم، والجدران المكسورة تحرس الذكريات. دخلت إيناس إلى الخزانة وأخرجت ثوب سالي المفضّل: فستان أسود مطرّز باللون الأحمر الفلسطيني. ضغطته إلى وجهها، كما ضغطت يوماً جسد سالي الصغير… وهمست: «نحن لا نريد سوى شيء واحد… نهاية هذا الحمّام الدموي».

لكن العالم ما زال يرى صورة سالي. الإطار الخالد الذي يروي صرخة صامتة لطفلة، تختصر حكاية آلاف الأطفال الآخرين الذين رحلوا في حضن أحبّتهم.

بقلم: السيدة مريم بيشنمازي

أهم الأخبار

الأكثر مشاهدة