شاركوا هذا الخبر

السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (ع).. سيدة الصبر

السيدة العظيمة، عقيلة بني هاشم، ثالث ريحانة للمصطفى تفوح في بيت علي، وأول حفيدة للنبي أنجبتها الزهراء، غمرت بيت الوحي الفرحة بمولدها، ورافقت حياتها الدمعة حتى فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها.

 السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (ع).. سيدة الصبر

الكوثر_مناسبات

أشرق نورها في السنة الخامسة من هجرة جدها، وغابت شمسها في السنة الخامسة والستين، وما بينهما، كانت زينب...

دمعة لم ترقأ.. وأنّة لم تهدأ.. وحسرة لم تخفت.. ولوعة لم تسكن.. وحرقة لم تبرد...

كما كانت.. جذوة لا تطفأ.. وشعلة لا تخمد.. وصرخة لا تُسكت.. وقمّة لا تُطال...

نشأت في أحضان النبوة.. وترعرعت في حجر الإمامة.. ونهلت من معين الوحي..

وتغذّت من علوم وآداب أصحاب الكساء... ولبست كساء الحزن عليهم طوال عمرها الشريف.

اقرأ ايضا:

وعت منذ طفولتها على فاجعة وفاة جدها (صلى الله عليه وآله)، ثم شهدت مأساة أمها (صلوات الله عليها)، ثم شهادة أبيها (عليه السلام)، ثم رأت أخاها الحسن (عليه السلام) وهو يودّع الدنيا مسموماً شهيداً، وأخيراً ختمت حياتها وهي تشاهد مقتل أخيها سيد الشهداء (عليه السلام)، ومقتل أخوتها وبني عمومتها وأبنائهم في كربلاء.

شهدت يوم عاشوراء، وعاشته بكل تفاصيله الدامية، والذي فقدت فيه أخوتها وولديها وبني عمومتها وأهل بيتها، فلم تزعزعها كل هذه النكبات، ووقفت كالطود الأشم وهي تجمع بنات الوحي وربائب الرسالة وهنّ يبكينَ وينحنَ ويندبنَ ويلذنَ بها ممَّا دهاهنّ، وتجمّع حولها النساء والأطفال وهم يبكون ويتصارخون وقد أصبحوا الآن ثكالى وأرامل ويتامى.

أما هي ..

فقد كان وجهها يفيض بالطمأنينة واليقين رغم الحزن الشديد، وكأنها لم ترَ كل هذه المآسي والفواجع !!

نهضت وراحت تخطو وسط الجيش إلى حيث جسد الحسين ..! حتى الذي لم يعرفها رأى في مشيتها صفات علي فأخذته الرهبة وتراجع ..!!

أكملت زينب مشيها حتى وقفت على جسد أخيها فجلست ورفعت رأس الحسين بيدها ووضعته في حجرها واستقبلت السماء وقالت:

ــ اللهم تقبل منا هذا القربان ...

ثم رجعت إلى مكانها استعداداً لرحلة السبي إلى الكوفة...

لا يمكن وصف ذلك المشهد المأساوي ..

فالكلمات تعجز عن إدراك تلك المشاعر الملتهبة، والأنفاس المحترقة باللوعة والأسى.

كان فجراً أسوداً طلع عليها وعلى حرائر الوحي وهنّ على الإبل يطاف بهنّ على قتلاهن ...

دماء ..

أشلاء مقطعة ..

أيادٍ وأرجل مطروحة على الأرض...

رؤوس مرفوعة على الرماح ...

وهن ينظرن إليها ويبكين .. !!

ها هي القافلة التي جاءت معها هي وبنات الحسين (عليه السلام) وأخواته ونسائه من المدينة إلى كربلاء عزيزات كريمات تعود بهن إلى الكوفة وهن أسيرات مسبيات مع النساء والأطفال فقط ..

وها هم رجال القافلة على الأرض صرعى وها هي رؤوسهم أمامهنَّ فوق الرماح !!

وسارت القافلة وسط صياح القتلة وأسواطهم وهم يصعّدون الأطفال والنساء على الإبل بالعنف والقسوة.

ولكن نظرها وأنظار النساء لم تفارق جسد الحسين (عليه السلام) حتى غاب عنهنَّ فاختنقنَ بعبرتهنَّ والدموعُ ملء عيونهنَّ.

وبعد رحلة مضنية وصلت قافلة الحزن إلى الكوفة المدينة التي كانت عاصمة أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) وها هم أهلها يتنكرون لهم ويصفونهم بالخوارج !!

لقد سلبت السياسة الأموية الناس دينهم كما سلبتهم حريتهم وكرامتهم فتنكروا لآل النبي !!

النبي الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور وحررهم من الذل والعبودية إلى حرية الطاعة لله فرجعوا الآن إلى استعباد بعضهم لبعض ليكونوا تحت نير العبودية الأموية !!

خطبت السيدة زينب خطبتها الخالدة التي شابهت كلام أبيها سيد البلغاء والمتكلمين، فقرعت بخطبتها رؤوس أهل الكوفة بالتقريع واللوم على قتلهم سيد شباب أهل الجنة وخذلانه ورجوعهم إلى الجاهلية الأولى بنسختها الأموية.

فانطلق صوت زينب ليدحض أكاذيب الأمويين وإعلامهم الضَّال المُضلّ ويؤكد للرأي العام على أن هذه الثورة هي تجسيد للإسلام المحمدي وامتداد لمنهج النبي (صلى الله عليه وآله) في كل المراحل التي مرت بها (عليها السلام) في رحلة الأسر.

وأول صوت لها كان في الكوفة من خلال خطبتها العظيمة التي بيّنت فيها بشاعة الجريمة النكراء التي ارتكبها الأمويون بقتلهم سبط رسول الله وغدر أهل الكوفة به وفيها من التقريع لهم ما أجَّجَ في النفوس مشاعر السخط والغضب على يزيد وكان مما قالته في ذلك اليوم وقد أومأت الى الناس أن اسكتوا. فارتدت الأنفاس وسكنت الأصوات:

الحمد لله والصلاة على محمد وآله الطيبين الاخيار، اما بعد يا اهل الكوفة يا اهل الختر والغدر..

أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف والكذب والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء أو كمرعى على دمنة أو كقصة على ملحودة 

ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم، سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون وتنتحبون؟ إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار محجتكم ومدرة سنتكم.

ألا ساء ما تزرون وبُعْداً لكم وسحقا، فلقد خاب السعي وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة وبؤتم بغضبٍ من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة، ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أيَّ كبدٍ لرسول الله فريتم، وأيّ كريمة له أبرزتم، وأيَّ دم له سفكتم، وأيَّ حرمة له انتهكتم، ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء، سوداء، فقماء، خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملأ السماء، أفعجبتم إن أمطرت السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنظرون، فلا يستخفنكم المهل فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف قوت الثار وإن ربكم لبالمرصاد.

كان لهذه الكلمات دويّ، وضجيج، واستفاقة، ووجوم، وغضب، وسخط على السلطة، وتأنيب للضمير، وتقريع للنفس، وجلد للذات: فارتفعت أصوات الناس من كل ناحية ويقول بعضهم لبعض هلكتم وما تعلمون !!

ورغم الحالة المأساوية التي كانت عليها فقد استأنفت خطبتها.

كما وقفت بتلك الشجاعة والصلابة أمام الطاغية ابن زياد وهي أسيرة فنظرت إليه وهو ينكث بالقضيب ثنايا أخيها تشفُّياً وانتقاماً فلم تمنعها شدة الحزن من التصدّي له والوقوف بوجهه، فعندما يسألها ابن زياد:

ــ كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟؟

تجيبه بكل شجاعة:

ــ ما رأيت إلا جميلاً ..

هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتُحاجّ وتُخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ

ثكلتك أمك يا ابن مرجانة !

ولم يمنعها أسرها وطول الرحلة الشاقة من أن تقف في مجلس يزيد وتصدع بالحق وتفضح الظالمين بتلك الخطبة المدوِّية التي زلزلت عروش الأمويين وبقيت اصداؤها تجوب في البلاد وأحدثت انقلاباً فكرياً في أذهان الناس ضد يزيد، وألبت الرأي العام ضده ...

وقد استنكر جريمته البشعة حتى رُوّاد مجلسه وأتباعه.

فعندما رأت يزيد وهو يضرب بعصاه ثنايا الحسين قالت:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله محمد وآله اجمعين. صدق الله سبحانه حيث يقول: ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّـهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطار الارض وآفاق السماء فأصبحنا نُساقُ كما تُساق الإماء، أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة، وإن ذلك لعِظم خطرك عنده، فشمختَ بأنفك، ونظرتَ في عِطْفك، تضربُ أصدريك فرحاً، وتنفض مذرويك مرحاً، جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والامور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً، لا تُطش جهلاً، أنسيتَ قول الله تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)

أمنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرَك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا. قد هُتكت ستورهن، وأبديت وجوههنَّ، وصحلت أصواتهنّ، تحدو بهنّ الاعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهنَّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والشريف والدنيّ، ليس معهن من رجالهن وليٌّ ولا من حُماتهن حميّ، وكيف تُرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء وكيف يستبطأ في بغضنا اهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثّم ولا مستعظم داعياً بأشياخك ـ ليت أشياخي ببدر شهدوا ـ منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب.

أتهتف باشياخك؟ زعمتَ أنك تناديهم فلتردنَّ وشيكاً موردهم، ولتودنّ أنك شللتَ وبكمْتَ ولم تكن قلتَ ما قلتَ وفعلتَ ما فعلتَ . اللهم خُذْ لنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا. واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حُماتنا.

فوالله يا يزيد ما فريتَ إلا جلدك ولا حززتَ إلا لحمك، ولتردّن على رسول الله بما تحمّلتَ من سفك دماء ذريّته وانتهكتَ من حرمته في عترته ولُحمته حيث يجمع الله شملَهم ويُلمّ شعثهم ويأخذ بحقهم (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وحسبُك بالله حاكماً، وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً.

وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً وأيّكم شرَّ مكاناً وأضعف جندا. ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك . لكن العيون عبرى والصدور حرّى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النُجباء بحزب الشيطان الطلقاء. وهذه الايدي تَنْطِفُ من دمائنا والافواهُ تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتُعفّرها أمّهاتُ الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدننا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلا ما قدّمت يداك وما ربك بظلّام للعبيد.

فإلى الله المشتكى، وعليه المعوَّل، فكدْ كيدك. واسْعَ سعيك، وناصبْ جُهدك فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا تدرك أمدَنا، ولا يُرحض عنك عارُها، وهل رأيك إلا فَنَد وأيامُك إلا عددْ، وجمعُك إلا بَددْ، يوم ينادى المنادى ألا لعنة الله على الظالمين.

فالحمد لله رب العالمين. الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويُوجب لهم المزيد، ويُحسنْ علينا الخلافة، إنه رحيم ودود وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال السيد جواد شبر بعد إيراده هذه الخطبة: (أرأيت ابنة علي وموقفها الذي تعجز عنه أبطال الرجال؟ تأمل في كلامها الطافح بالعزة والإباء. والمملوء جرأةً وإقداماً، والمشحون بالأبهة والعظمة، بعدم المبالاة بكل ما مرّ عليها من المصائب والنوائب) (1)

كان صوت الحق والحقيقة ..

الصوت الذي انبثق من صوت السماء ودعوة النبوة، إنه صوت بنت علي والزهراء ومحمد ..

وها هي شمس الحقيقة تسطع وسط الظلام ...

ها هو لسان الثورة الحسينية الهادر، وربيبة النبوة، وسليلة الإمامة، وعقيلة بني هاشم، تخطب في مجلس عدو الإسلام وعدو نبيه، فأحالت سرور يزيد بقتل الحسين إلى حالة من الهلع والخوف، وأطارت فعل الخمر من رأسه، وأحدثت انقلاباً في الرأي العام ضده حتى اضطر يزيد إلى التنصّل من جريمته وإلقاء تبعتها كلها على المجرم ابن زياد

ولكن ذلك لم ينفعه ..

هكذا جرّدت عقيلة الطالبيين السلطة الأموية الجائرة من الصبغة الشرعية التي أوهموا الناس بها وخدعوا بها الرأي العام، وفضحت جريمتهم النكراء بحق آل الرسول في كربلاء، وأوضحت وبيّنت أعمالهم الوحشية بقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه وهم ظِماء، وأسرهم وسبيهم بنات الرسول والطواف بهنَّ من بلد إلى بلد.

لقنت الطاغية يزيد درساً في الشموخ والتحدي:

ــ ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، فإني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك .. !

لقد كانت صفعة قوية توجهها بنت علي لهذا الطاغية الأحمق الذي ظنّ بأنه يخاطب امرأة عادية ثكلى مسبية أذلها الأسر، وأذهلها الثكل ...

وفجأة أحسّ كأن صاعقة نزلت على رأسه من وقع هذه الكلمات، بل إن الصاعقة كانت أهون عليه منها، وأدرك أنه قد نسج نعش دولته بيده بقتله الحسين (عليه السلام).

كانت زينب لسان الثورة الحسينية وصرخة وآهة في مسمع الدهر لن يخفت صداها فكان لخطبها وكلماتها أثرهما العميق ودلالتهما الواضحة بأن كربلاء باقية مع تعاقب الأزمان، وأن النهضة الحسينية المباركة ستبقى خالدة في الأجيال، فقد عكس دورها مبادئ الثورة الحسينية وفضح جرائم الأمويين.

فكانت خطبها هي وسيلة إعلام الثورة الحسينية الضخمة التي قادتها وأدارتها ومثلتها بأعظم دور في نشر الهدف الرسالي المقدّس الذي سعى إلى تحقيقه الامام الحسين (عليه السلام) في كربلاء.

تقول الدكتورة بنت الشاطئ:

(كانت زينب عقيلة بني هاشم في تاريخ الإسلام وتاريخ الإنسانية بطلة، استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد، وأن تسلط معاول الهدم على دولة بني أمية، وأن تغيِّر مجرى التاريخ). (2).

نعم لقد استطاعت هذه السيدة العظيمة التي كانت (تفرغ عن لسان أبيها سيد البلغاء) أن تزلزل عروش الأمويين بخطبها ورثائها لسيد الشهداء.

لقد أدت زينب (صلوات الله عليها) دورها العظيم على أتم وجه، وأثبتت للأمويين إنهم استطاعوا قتل الحسين ولكنهم لا يستطيعون قتل صوته الذي لم ولن يموت..

لقد قطعوا رأسه لكن هذا الرأس المقطوع روّى شريعة الإسلام التي ستبقى مشعَّة ومضيئة بتضحياته ودمه..

لقد سلبوه ثوبه ورداءه لكنه كسا الدنيا ثوب الحرية والكرامة ..

لقد داسوا على صدره بحوافر الخيول لكنه زرع في الصدور معنى الإباء ورفض الظلم والتجبّر والاستبداد، وسيبقى صرخة مدوّية إلى الأبد بوجه الظلمِ والجبروت.

بعد رحلة شاقة مليئة بالمشاق والدموع وصلت زينب مع قافلة السبايا إلى المدينة.

لقد غمرت الدنيا حياتها بالأحزان والمآسي والمصائب، فغمرتها بالصبر والعطاء والبذل والخير.

وجابهتها الدنيا بظلمها وظلامها، فشعّت عليها بإيمانها ويقينها ونورها النبوي.

وواجهتها بزعازعها، فوجدتها جبلاً شامخاً راسخاً لا تزعزعه الأعاصير ولا تثنه الأهوال.

لقد رافقتها المآسي والمصائب وهي تشارك سيد الشهداء نهضته، وشاركته في ثورته العظيمة خطوة بخطوة حتى استشهاده في كربلاء فأوقدت مشعل المبادئ التي سعى الإمام الحسين إلى تحقيقها، وأدت دورها العظيم في ترسيخ تلك المبادئ وفضحت السياسة الأموية الظالمة وسلطت صواعق التقريع على رؤوس عبدة الدينار والدرهم.

ارتقت شخصية السيدة العظيمة زينب على الأقوال وفاقت عن إدراك العقول بصبرها وشجاعتها وصلابتها فهي حفيدة سيد الخلق وابنة علي سيد البلغاء وابنة سيدة النساء وورثت منها صفات المجد والعظمة وقد قال لها الإمام زين العابدين عليه السلام: (ياعمة، أنت بحمد الله عالمةٌ غيرُ معلّمة، فهمةٌ غير مفهَّمة) (3)

وهذه بعض المقتطفات من أقوال الأعلام فيها:

الشيخ المامقاني: (حازت من الصفات الحميدة ما لم يَحُزْها بعد أمّها أحد، حتّى حقّ أن يُقال: هي الصدّيقة الصغرى، زينب في الصبر والتقوى وقوة الإيمان والثبات وحيدة، وهي في الفصاحة والبلاغة كأنها تفرغ عن أمير المؤمنين، كما لا يخفى على من أنعم النظر في خطبتها، ولو قلنا بعصمتها لم يكن لأحد أن ينكر إن كان عارفاً بأحوالها في الطف وما بعده...) (4)

ابن الأثير: (كانت زينب امرأة عاقلة، لبيبة، جزلة... وكلامها ليزيد حين طلب الشامي أختها فاطمة بنت علي من يزيد مشهور، ومذكور في التواريخ، وهو يدل على عقل وقوة جنان). (5)

السيد محسن الأمين: (من فضليات النساء. وفضلها أشهر من أن يذكر وأبين من أن يسطر. وتعلم جلالة شانها وعلو مكانها وقوة حجتها ورجاحة عقلها وثبات جنانها وفصاحة لسانها وبلاغة مقالها حتى كأنها تفرع عن لسان أبيها أمير المؤمنين (ع) من خطبها بالكوفة والشام واحتجاجها على يزيد وابن زياد بما فحمهما حتى لجا إلى سوء القول والشتم واظهار الشماتة والسباب الذي هو سلاح العاجز عن إقامة الحجة وليس عجيبا من زينب ان تكون كذلك وهي فرع من فروع الشجرة الطيبة النبوية والأرومة الهاشمية جدها الرسول وأبوها الوصي وأمها البتول وأخواها لأبيها وأمها الحسنان ولا بدع ان جاء الفرع على منهاج أصله) (6)

كامل البنّا المصري: (كانت ـ زينب ـ فصيحة أريبة، عاقلة أديبة، ذربة اللسان، حاضرة البديهة، لها قوّة جنان، ما فوجئتْ بأمر إلاّ ردّتْ عليه .. ولقد كان أخوها الحسين يحبّها حبّاً شديداً، ولا يفارقها في سفر ولا في إقامة، وكان يستشيرها دائماً في جميع أموره، ويحترم رَأْيها ومشورتها، ولقد صاحبتْه في خروجه من مكّة إلى العراق، وظلّتْ مرافقته حتى استشهد في واقعة كربلاء المشؤومة (7)

وجيه بيضون: (أمّا مِن حديث الشجاعة، فمِن آيتها ما أبدتْه يوم الطفّ في كربلاء من مكابدة فائقة، ومجاهدة خارقة، وعزيمة صادقة، وصبر لا طاقة بالصبر على مثله، وقد جاوز حدّ الطاقة، كأنّها قد تلبّستْ بين تجاليدها عدّة أرواح من عدّة بطولات، تخيّل في جماعها مِن تضاعيفها كأنّها الجيش اللَجِب بحياله في موفور قوّته وكماله، أو كأنّها أوتيتْ من إرادة الصبر والثبات في إرادتها مثل روح النبات لا يُقطع من جهة حتى يظهر في غيرها، ولولا ذلك لَمَا كانت تنتاشها سهامُ القوم منثالة منهالة تردّها من تواردها متكسّرة متثلّمة، كأنّما لا تصيب منها إلاّ القلعة المحصّنة، ويحوم من حيالها الردى كالوحش طال به الجوع فاستطال يلتهم الأرواح ما يشبع ويعبّ الدماء ما يقنع، وإنّها الرابضة من دونه ربضة الآساد جريئة عليه في جرأته ، ظاهرة عليه في غلبته.

تلك كانت شجاعتها ـ زينب ـ في مواقف الكريهة والحرب، ولها عديلها وما يفوقها من شجاعتها الأدبية في مواقف الخطابية والخطب، حتى كأنّها كانت تستملي بلاغة جدّها وأبيها، وتنزع عنهما في براهينها وإعجازها من العالم الآخر

أهم الأخبار

الأكثر مشاهدة