كيف عوّدتِ أولادكِ على القراءة؟!

الثلاثاء 13 نوفمبر 2018 - 12:30 بتوقيت مكة
كيف عوّدتِ أولادكِ على القراءة؟!

فتحوا أعينهم على الحياة وللكتاب في المنزل مكان ومكانة تزداد قيمتها مع الأيّام، وفهموا بفطرتهم أنه شيءٌ مهم كونه يرافقُ والديهم لأوقات طويلة، ربّما غاروا من الكتاب قليلاً لأنه قاسمهم أوقات عمرهم مع والديهم...

نور الجندلي

سؤالٌ يطرح كثيراً عليّ في اللقاءات العامة ولقاءات الأصدقاء وفي كثير من الأحايث الخاصّة مع الأمهات، وأجيبُ عن تجربة خاصّة مؤمنة أن التجارب كفيلة بترك الأثر أكثر من مجرّد التّنظير، فأخبرهم بأنني لم أتعمّد تعويد أولادي على القراءة بشكل مباشر، بقدر عملي على جعل القراءة بالنّسبة إليهم أمراً أشبه بالهواء الذي يتنفسونه، أو حاجة ضروريّة لا تقل أهميّة عن الطّعام والشّراب والمستلزمات الهامة في حياتهم..
فتحوا أعينهم على الحياة وللكتاب في المنزل مكان ومكانة تزداد قيمتها مع الأيّام، وفهموا بفطرتهم أنه شيءٌ مهم كونه يرافقُ والديهم لأوقات طويلة، ربّما غاروا من الكتاب قليلاً لأنه قاسمهم أوقات عمرهم مع والديهم، وقد ظنّوا بأن الأوقات لن تقضى معهم إلا باللعب والمرح، فاكتشفوا وجود شيء أكثر متعة من ألعابهم هو الكتاب، وربما اقتنعوا بوجوده كأمر مسلّم به، فعملوا على اكتشافه، وأشبعوا فضلوهم بالتفتيش في طيّاته، فأحبّوه، وبات أيضاً بالنسبة إليهم أمراً مهماً، أفقاً ممتداً في حياتهم، شمساً تضيء عقولهم، أو قمراً يبدد وحشة الجهل بالعلم والمعرفة...
كثيراً ما سمعوا نقاشات تدور في بيتهم حول فكرة كتاب ممتعة، أو مشروع متميز، وقرؤوا ما بين الكلمات حماس وحب، تلك الملاحظات والقراءة التي لا يتقنها إلا الأطفال ببراءتهم وبقوة ملاحظتهم، فتحمسوا أيضاً وتعزز في عقولهم أن الكتاب شيء مقدس، والكتاب شيء عظيم، بأن الكتاب يقدم المفاتيح لكنوز وفيرة، وما على المرء سوى أن يبذل جهداً وصبراً في سبيل تحصيله...
وكثيراً ما تغيبتُ في السوق وفي نيّتي شراء بعض الكماليات، لأعود ومعي حقائب بلاستيكية مليئة بالكتب، ولأخبرهم بأنني قد غيّرت الخطة، ووجدت بأن الكتاب أهمّ، وبأن العقل لا ينضج إلا برفقته، فساعدوني بإخراج الكتب وتصفح عناوينها، وأبدوا إعجابهم بالعناوين أو الأغلفة، أو لعلهم ألقوا نظرة على بعض الفصول في الداخل، وباتوا يحلمون بأن تهبهم المدرسة فسحة من الوقت ليعيشوا مع الكتب كما يتمنّون..
وكثيراً ما عبّرت ابنتي الكبرى عن دهشتها بحجم الكتب الكبيرة التي أتصفحها، وأقرأ في لهجتها أن الأمر قد يكون دافعاً للسأم أو التعب والإرهاق، فأحدثها وإخوتها قليلاً عمّا أقرأ، وأخبرها بعد أيّام أنني قد أنهيت المجلد الكبير في وقت قصير ووجدته ممتعاً وغنيّاً، فأقرأ في عينيها فرحي وانتصاري، وأسمع تعبيراتها بغبطة عن رغبتها في سباق معي على أن يكون سباق الفهم والفائدة...
وكم من كتب وجدتها تتسلل من مكتبتي إلى مكتبة أولادي الخاصة فيدفعني الأمر لمعرفة ميولهم في القراءة واهتمامهم، ويدفعني لإغناء مكتبتهم بما يحتاجونه..
تسألني ابنتي التي تستقبل ربيعها الثاني عشر مع بداية العطلة الصيفية ماذا أقرأ، فأنتقي لها ما أعرف يقينا بأنه شائق وممتع وغنيّ بالنسبة لسنّها، وأراقبها عن بعد، ولما أجدها قد قطعت فيه شوطاً كبيراً أدرك أنه قد أعجبها، فأسأل عن انطباعاتها ورأيها، وما راق لها، وما لم تستسغه لأشكل لديها ذائقة النقد، ولكيلا أجعلها تسلّم عقلها بالكلّية لآراء الكاتب أياً كان، فتؤسس لنفسها فلسفة ونظريات، وتفسح في عقلها مكاناً للتشاور والتفاوض والحرب والسّلام، لتصل بالنهاية إلى برّ الأمان..
وأوصي لصغيري ذو الأعوام التسعة بقصص طريفة ومضحكة عن عالم الحيوان أو الحشرات، فأجده يتناول القصة الأولى فالثانية فالثالثة حتى ينهي المجموعة، ولا يتردد لحظة بأن يحكي لي كل الطرائف التي حصلت، ولا أملك إلا أن أجاريه في الضحك وأستفسر عن مضمون القصة التالية حتى أطمئن بأنه إلتهم الوجبة بشهية مفتوحة...
أما آخر العنقود فقد فاجأني عندما ولد بأنه يبتسم ويهدأ على صوت تقليب الصفحات، ولم أشك لحظة بأنه قد شاركني متعة القراءة قبل أن يأتي إلى الحياة، كانت التجربة مدهشة بالنسبة لي، وكدت أشكك فيما أراه، لكنه كان يكف عن بكائه وتشنجه عندما أفتح له كتاباً حتى وإن كان خالياً من الرسوم والألوان، فأجده يدقق في الصفحة الأولى ثم ينتقل إلى الثانية يدقق فيها أيضاً، ويلتفت إليّ لأقلب الصفحة، فأفعل، فيفعل كما كان مع التي قبلها، مع كثير من الابتسامات... وإلى الآن أجده يفضل مجموعة تعليمية ملونة عن بقية الألعاب..
كيف وقع في حب الكتب والكلمات، أمرٌ لا أعرف حقيقته لكنني أبتهل إلى الله كثيرا بأن يكون الجيل القادم جيل العلم والفهم، جيل البناء والعطاء، ولعل الله يجيب هذا الدعاء..
ولكي أكون منصفة وواقعية أعترف بأن قراءتهم ليست بالغزيرة أو المكثفة، لكنها قراءة فهم ووعي وإدراك، قراءة شغف واهتمام، وتوفر هذه الأمور مهم جداً في نظري كبداية في رحلة القراءة التي ليس لها نهاية لأنها ترافق المرء طوال العمر...
في نهاية الأمر أقول بأنه ليست لديّ طريقة أو وصفة أو نقاط متعددة لدفع الطفل إلى القراءة، لأنه أمر يعتاده بغريزته، ويتشربه ممن حوله، يعيش به أكثر مما يعيش معه، يتأصل حبه في داخله تماماً كما هو الأمر مع الاعتياد على الصلاة أو الصوم أو سائر العبادات... أولم نؤمر بالقراءة كما أمرنا بسائر العبادات؟!!

المصدر:دار الفكر

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأحد 11 نوفمبر 2018 - 07:44 بتوقيت مكة
المزيد