العلامة السيد محمد حسين فضل الله
في هذه المقالة و نحن نعيش ذكرى الإمام عليّ بن محمَّد الهادي(ع)، وهو الإمام العاشر من أئمَّة أهل البيت(ع) و الذي تصادف ولادته الخامس عشر من ذي الحجة، نحاول في خطِّ الإمامة أن نلتقي ببعض الأوضاع الّتي كانوا يعيشونها. من المسائل التي يمكن أن نتطرق اليها قصة الإمام الهادي مع بريحة العباسي الذي بُهر بأخلاق الامام عليه السلام.
عندما نقرأ تاريخ الإمام الهادي(ع)، فإنَّنا نستوحي منه أنّه كان محلّ احترام الناس وتقديرهم في الحرمين (مكّة والمدينة)، ومن الطبيعي أن يكون هذا التّقدير وهذا الاحترام بمستوى استثنائيّ، إذ لا بدَّ من أن يكون ناشئاً من خلال القيادة الفكريّة والروحيّة والحركيّة الّتي كانت تدخل إلى كلّ عقل وإلى كلّ قلب، لأنه ليس من الطبيعيّ أن يأخذ إنسان هذا المستوى من الإكبار والتّعظيم بدون أن يترك تأثيره الكبير في عقول الناس وقلوبهم وحياتهم، مع ملاحظة أنَّ الناس في الحرمين لم يكونوا على رأيٍ واحدٍ في المذهبيَّة، بل كانوا يختلفون، فلم يعهد أنَّ النّاس في مكّة والمدينة آنذاك كانوا إماميّين يتشيَّعون لأهل البيت، بل كانوا مختلفين في آرائهم المذهبيَّة، ومع ذلك، نجدهم يلتقون على احترام شخصيّة الإمام الهادي(ع).
فمن أين نعرف هذا النّوع من الشعبيَّة الواسعة؟ ـ كما هو التّعبير السّائد في هذه الأيام ـ إنّنا نعرف ذلك من خلال رسالة بعث بها أحد المسؤولين في المدينة إلى الخليفة العباسي (المتوكِّل)، ثم من خلال ردود الفعل الّتي حدثت عندما أريد للإمام أن ينتقل من المدينة إلى بغداد أو إلى سامرّاء.
ففيما رواه (المسعودي) قال: "إنَّ بريحة العباسي، صاحب الصّلاة بالحرمين، كتب إلى المتوكّل: إن كان لك بالحرمين حاجة، فأخرج عليّ بن محمّد منهما، فإنّه قد دعا إلى نفسه، واتّبعه خلقٌ كثير، وتابع إليه، ثم كتب إليه بهذا المعنى. فوجّه المتوكّل بيحيى بن هرثمة، وكتب معه إلى أبي الحسن كتاباً جميلاً يعرِّفه أنّه قد اشتاقه وسأله القدوم عليه، وأمر يحيى بالسّير معه كما يحبّ، وكتب إلى بريحة يعرِّفه ذلك".
من هذا نعرف أنّ بريحة من بني العباس، وهو من عائلة الخلافة، وهو يكتب إلى المتوكِّل أنّ الحرمين كادا أن يكونا تحت إمرة الإمام الهادي(ع)، ونحن نعرف أنَّ الإمام الهادي(ع) لم يكن في موقع الدّعوة إلى الثّورة ضدّ الخلافة العباسيّة، لأنّ الظروف الموجودة آنذاك لم تكن تسمح بمثل هذا العمل، ولكنّ هذا الرّجل عندما رأى أنَّ الناس تلتفّ حول الإمام التفافاً يوحي أن الناس يرون فيه ذلك، ويعتقدون أنه الشَّخص المفضَّل في إدارة أمور الناس، أرسل هذه الرسالة ليشعر مركز السلطة بالخطر الّذي تحسّسه، مما دعاه إلى متابعة الكتابة إلى المتوكل.
وكان دور المتوكِّل هو استدعاء الإمام(ع) إلى مدينة الخلافة، من أجل أن يكون تحت رقابته، لهذا كتب كتاباً حمَّله إلى يحيى بن هرثمة: "فقدم يحيى بن هرثمة المدينة وبدأ ببريحة، وأوصل الكتاب إليه، ثم ركبا جميعاً إلى أبي الحسن، وأوصلا إليه كتاب المتوكّل، فاستأجلهما ثلاثة أيّام، فلما كان بعد ثلاث، عادا إلى داره، فوجدا الدّوابّ مسرجةً والأثقال مشدودةً قد فرغ منها، فخرج متوجِّهاً نحو العراق..."(1).
هنا نلاحظ أنَّ بريحة شعر ـ وهذا ما يستفيده كلّ من يتجسَّس لصالح الظّالمين ـ من خلال كتاب المتوكّل الّذي كان مليئاً بالاحترام للإمام الهادي(ع)، شعر بأنَّ الإمام موضع احترام عند المتوكّل، وخاف أن يتحدَّث معه ضدّه، وربما يعاقبه المتوكّل على ما فعله ضدّه، فحاول أن يهدّده بأنّه إذا تكلّم إلى المتوكّل ضدّه، فإنّه سوف يتفرّغ لكلّ أملاكه وأهله في المدينة، لأنّه في موقع القوّة، فهو صاحب الصلاة، كما علمنا قبل قليل.. ونتابع النّصّ: "فلمّا صار في بعض الطريق، قال له بريحة: قد علمت وقوفك على أني كنت السَّبب في حملك، وعليَّ حَلفٌ بأيمان مغلَّظة لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين، أو أحد من خاصَّته، لأجمّرن نخلك، ولأقتلنَّ مواليك، ولأغورنّ عيون ضيعتك، ولأفعلنّ ولأصنعنّ".
كلّ ذلك من أجل أن يحمي نفسه بهذا التَّهديد من وشاية الإمام به عند المتوكِّل، فلنلاحظ عظمة الإمام وأخلاقيّته من خلال ردِّ فعله. فالتفت إليه أبو الحسن فقال له: "إنَّ أقربَ عَرضي إيّاك على الله البارحة، ما كنت لأعرضك عليه، ثم أشكوك إلى غيره من خلقه".
فالإمام هنا يقول له: لقد عرضت أمرك على الله إذ دعوته عليك أمس، وعندما يسيء إليّ أحد، فأنا أعرض أمره على الله، لأنَّه هو القادر على أن يقتصّ منه، فلا يمكن أن أشكوك إلى أحد من خلقه، فمن كانت علاقته مع الله تعالى في كلّ ما يهمّه وما يعرض عليه، لا يمكن أن يدخل المخلوقين فيما طرحه على الله.
ويبدو أنَّ بريحة اهتزَّ من كلام الإمام(ع) وارتعد، قال: "فانكبَّ عليه بريحة، وضرع إليه، واستعفاه، فقال له: قد عفوتُ عنك(2)، وهذا هو خُلُق أهل البيت(ع) مع كلّ من أساؤوا إليهم.
المصدر:موقع بينات بتصرف
إقرأ أيضا:من سيرة الإمام الهادي(ع)...إضاءات سريعة على شخصيته الرفيعة