شاركوا هذا الخبر

الأنبياء وعلم الغيب الموهوب

صنع هذا المخلوق، وأودع فيه من العلم بما يتلائم مع مهامه الإلهية والتي تعينه على تحقيق الغايات، فعلم الإنسان بالأسماء كلها هبة منه سبحانه، لقد أطلعه على حقائق الأشياء وأطلعه على الكون كله وعلى الأنظمة الحاكمة فيه.

الأنبياء وعلم الغيب الموهوب

المخلوقات في هذا الوجود لم تخلق على وجه الاستقلال، وإنما لوحظ فيها المخلوقات الأخرى التي تحيط بها، فالكون كل مترابط ويتحرك بطريقة منظمة وهدي إلهي مقدر: { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } (1)، وقال تعالى: { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم  والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم  لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } (2).
بناء على ذلك، فالموجودات في المجموعة الكونية يؤثر بعضها في البعض الآخر، والإنسان لا يستثنى من هذا القانون، فهو مخلوق ضمن هذا القانون، وبالتالي خاضع إلى قانونيته، فمن جهة أنه يتأثر في هذا الكون فواضح؛ لأن الشمس إذا ارتفعت أو اقتربت سوف تؤثر على الحياة بما فيها الإنسان،
ومن الجهة الثانية أن الإنسان يؤثر على من حوله من الموجودات، فهذه الجهة تحتاج إلى مزيد من البيان، قال تعالى: { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } (3).
مفهوم الآية أن الاستقرار والهدوء والحركة الهادفة في العلاقة وبين أفراد الجماعة والعمل والإنتاج والرخاء ووفرة السلع وسيادة الأمن في كل صوره، كل هذه الأمور وغيرها تشكل ظواهر سليمة جاءت بسبب كون أهل القرية قد التزموا الشكر بمفرداته العملية، كالعدالة والمحبة والمساواة، ولما تخلت القرية عن هذه القيم ولم تجعل الله محورا لنشاطها وحياتها، وكفرت بماضيها التوحيدي المشرق واستبدلته بالآلهة المتعددة كالتبعية للإنسان القوي، أو طاعة النفس والشيطان وحب المال والسلطة، هذه الارتباطات ستؤول إلى: سوء التوزيع وسيادة الظلم وعدم الاطمئنان وشيوع الخوف والفقر والطبقية، فلم يعد العيش في هذه القرية بعد ذلك سعيدا أبدا.
الكفر والفسق والنفاق، وأي موقف فكري أو سلوكي صادر من الإنسان، بالنتيجة له امتداد وتأثير بما حوله، وليس بصحيح حصر المسألة بالجانب المادي من فعل الإنسان، وإنما تدخل المواقف القلبية والاعتقادية في هذا الإطار أيضا، لأن الاعتقاد فعل، فالكفر الذي هو عمل باطني له مؤثرات خارجية على من حوله من المخلوقات الأخرى، ومسيرة الإنسان نفسه خاضعة لقراراته الاعتقادية الباطنية، ولذا تسأل الملائكة عن هذا المخلوق الجديد آدم ـ من خلال ربطها بين الفسق وفعل سفك الدماء، الناتج عن الإرادة ـ وعن مصيره وحياته وحركته في الأرض وكيفية تعامله مع المجموعة الكونية؛ لأنهم ضمن معلوماتهم أن الكون خاضع لنظام كوني واحد حسبما يعمل به الجميع، ولابد لهذا المخلوق الطارئ على الكون أن يكون منسجما مع نظامه، ولما كان قد صمم بطريقة تجعله يخالف النظام الكوني، لذا سوف ينتج سفك الدماء والخراب والدمار في هذا الكون، لأن الفوضى تحدث بوجود الإرادة التي تؤدي إلى الكفر أحيانا وإمكانية اختراق النظام والالتفاف عليه، فهذا المخلوق الجديد وجوده خطر لا على نفسه فحسب، بل على الكون كله: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء... } (4).
لكن الله سبحانه وتعالى أجاب على التساؤل الذي صرحت به الملائكة؛ لتخوفها من تولي هذا المخلوق مقاليد الخلافة، فقال: { إني أعلم ما لا تعلمون  وعلم آدم الأسماء كلها } (5). صنع هذا المخلوق، وأودع فيه من العلم بما يتلائم مع مهامه الإلهية والتي تعينه على تحقيق الغايات، فعلم الإنسان بالأسماء كلها هبة منه سبحانه، لقد أطلعه على حقائق الأشياء وأطلعه على الكون كله وعلى الأنظمة الحاكمة فيه، ثم ما هو موقعه من هذا الوجود وكيف يؤثر فيه لغرض استخدامه لصالح أهدافه وغاياته: { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } (6)، وإيداع هذا العلم ممن بعده إلى سلسلة الأنبياء عليهم السلام حتى خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله، وبعده السلسلة الطاهرة من آله عليهم السلام.
وهذا العلم هو الذي يدرك بواسطته المعصوم حقائق الأشياء، كما هي وبرؤية واضحة، وبشكل لا يقبل الشك، فالعلم الذي يتصف بهذه الميزة يؤدي إلى العصمة حتما. وتقريب هذا التصور مثاله:
هناك قانون له مردوداته على حياة الإنسان، قد يدركه الإنسان ولكن قد لا يدرك آثاره ومردوداته؛ لأنه لا يمتلك علما ورؤية بالآثار المترتبة على مخالفته، مثل أكل مال اليتيم، يقول القرآن الكريم: { إنما يأكلون في بطونهم نارا } (7).
المعصوم يمتلك علما يرى فيه أن مال اليتيم نار، وغير المعصوم قد يراه مالا يتلذذ به فلا يرى أنه نار محرقة، فالمعصوم عنده علم ووضوح بتأثير هذا التصرف ومردوداته، كما نرى نحن ونعلم بقانون الجاذبية الذي جعلنا نمتنع عن المخالفة مع وجود القدرة على المخالفة فينا. أما الأثر المترتب على أكل مال اليتيم فلا نعلم به، أي إننا لا نمتلك علما نرى من خلاله قوانين الوجودات كلها. يوسف عليه السلام يستطيع أن يعمل الفاحشة؛ لأنه يمتلك الإرادة الحرة في ممارستها، إلا أن يوسف عليه السلام يرى الزنا فاحشة بحكم وضوحه وعلمه بهذه القانونية، فليس معناه أنه لا يمتلك اللذة ولا الإرادة، بل إن لديه علما بآثار هذا القانون، فلا يخالفه إطلاقا.
من هنا نجد أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام يقولون بعصمة أئمتهم جميعا،بما فيهم الإمام الجواد عليه السلام وإن كان صبيا ابن سبع سنين،فهو عالم بكل شيء ليس فقط بأحكام الصلاة أو الحج، بل بكل شيء، ولا يعصي الله تعالى، بل ولا يخطئ.
والدولة بأجهزتها مع محاولاتها، كلما حاولت تكذيب هذه الحقيقة فإنها لم تنجح، جاؤوا بالإمام الجواد عليه السلام وهو صبي، وجمعوا العلماء وعلى رأسهم القاضي يحيى بن أكثم، ويجلس في مكانه (كقاض) ويلتفت إلى الإمام الجواد عليه السلام قائلا: يا ابن رسول الله، أسألك؟ فقال له الإمام عليه السلام: قم واجلس مجلس السائل من المسؤول؟ ويقوم يحيى بن أكثم بشيبته ويجلس متأدبا بين يدي الإمام عليه السلام جلسة السائل من المسؤول.. فكر يحيى بن أكثم، ماذا يسأل الإمام عليه السلام؟ هل يسأله عن الصلاة وأحكامها؟ وهو عالم بأن الإمام عليه السلام وعائلته يؤدون الصلاة يوميا، فإذا هو عارف بالصلاة وأحكامها، فكر بأن هذا الصبي في بغداد ولم يذهب إلى الحج، فقال له: يا ابن رسول الله، ما قولك في محرم قتل صيدا؟ فأجابه الإمام عليه السلام: قتله في حل أو حرم، عالما كان المحرم أم جاهلا، قتله عمدا أو خطأ، حرا كان المحرم أم عبدا، صغيرا كان أو كبيرا، مبتدئا بالقتل أم معيدا، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد كان أم من كباره، مصرا على ما فعل أو نادما، في الليل كان قتله للصيد أم نهارا، محرما كان بالعمرة إذ قتله، أو بالحج كان محرما؟
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز، ثم أجاب الإمام عن المسألة كما هو مفصل ذلك في الكتب أحمد بن علي الطبرسي 444 ـ 445." (8).
وهذه الحادثة تشير إلى امتلاك الإمام عليه السلام للعصمة المسددة المتضمنة للعلم الحضوري (9).
والعلم الذي يمتلكه الإمام المعصوم ويتسلط بواسطته على معرفة الأشياء، وبه تتم أغراض الرسالة، موهوب منه سبحانه بدون كسب من الإمام، بهدف أن تكون للإمام قدرة تامة لتحقيق الغرض الإلهي الذي ينبغي إنجازه على أكمل وجه، ويظهره على الدين كله: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا  إلا من آرتضى من رسول } (10).
والعلم المفاض للإمام بأي سبب كان، سواء بإلهام أو نقر في الأسماع، أو بتعليم من الرسول ـ ويمتد إلى معرفة الغيب ـ فهو غير العلم الذي يختص به سبحانه، فذاك مكفوف عمن سوى الله، وحتى الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، وهو الغيب المطلق.
ولذا، فالعلم المفاض يتم إما بشكل تعليمي غير طبيعي، كما هو في الكتب الإلهية المنزلة على رسله بواسطة أمين الوحي، وهي تتضمن الأحكام والإخبار بالأحداث السالفة والحاضرة وحتى المستقبلية، لكل نبي بحسب نوع رسالته، قال تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات... } سورة البقرة: 253. (11).
وإما أن يتم بشكل عملي، مثل المعجزات، فتجري على يديه ولا ينال الرسول إلا قيمتها العملية، أما حقيقتها العلمية فقد لا يملكها ولا يقف عليها، وقد يحصل عليها كحقيقة إحياء الموتى فإنها من الغيب الخاص به سبحانه. ولكن لا مانع من تعليمه لغيره وإفاضته على بعض رسله، كما ورد في حق إبراهيم الخليل عليه السلام سورة البقرة: 260." (12)، قال تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى... } (13).
ويفترق علم الإمام عن علم الله سبحانه، بأن علمه سبحانه قديم وسابق على المعلومات، وهو عين ذاته. أما العلم الحضوري للإمام، فلا يشارك علم الله في  شيئ من هذه الأمور؛ لأن علم الإمام حادث ومسبوق بالمعلومات، وهو غير الذات فيه وإنما حضوره عند الإمام بمعنى انكشاف المعلومات فعلا لديه، فلا يشارك الله في علمه.

وخلاصة القول، إن علمه سبحانه ذاتي، وعلم الإمام عرضي موهوب وممنوح منه جل شأنه.

موقف القرآن والسنة من علم الغيب

العلم الذي يمتلكه الإمام المعصوم ومقداره ومستنده، لا يمكن إثباته إلا من خلال الطرق النقلية الواردة في الكتاب والسنة الشريفة؛ لأنه ليس بوسع العقل وبمفرده أن يتناوله بالنفي والإثبات؛ لأن الإثبات يتوقف على إخبار غيبي بذلك.من هنا سوف نتناول هذه المسألة بإطارها النقلي ضمن عدة أمور:
الأمر الأول: الآيات التي تتحدث عن علم الغيب في حياة الأنبياء والصالحين:
تناول القرآن الكريم هذه الظاهرة في حياة الأنبياء والصالحين بالنص وبالتأكيد عليها، حيث نجدهم عليهم السلام قد امتلكوا القدرة على العلم بالغيب بإذنه سبحانه واستخدموه لمصلحة الرسالة، وهذه نماذج من ذلك:
1 ـ قال يوسف عليه السلام لإخوته: { إذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا... } ثم أخبر تعالى عما جرى بعد ذلك، فقال: {... فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا } سورة يوسف 93 و96. (14).
إن ظاهر هذه الآية يدل على أن النبي يعقوب عليه السلام قد استعاد بصره بالشكل الكامل بالقدرة الغيبية التي علمها واستخدمها يوسف عليه السلام من أجل ذلك، ومن الواضح أن استعادة يعقوب عليه السلام بصره لم يكن من الله بصورة مباشرة، بل تحققت بإذنه سبحانه بواسطة النبي يوسف عليه السلام.
إن النبي يوسف عليه السلام كان السبب في عودة بصر أبيه، ولولا ذلك لما أمر إخوته بأن يذهبوا بقميصه ويلقوه على وجه أبيه، بل كان يكفي أن يدعو الله تعالى لذلك فقط.
إن هذا تصرف غيبي صدر من أحد أولياء الله ـ وهو يوسف عليه السلام ـ وغير المجرى الطبيعي بإذنه سبحانه، ولا يقدر على هذا التصرف إلا من منحه الله السلطة الغيبية.
2 ـ نقرأ أن موسى عليه السلام يضرب بعصاه الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، قال تعالى: { فقلنا آضرب بعصاك الحجر فآنفجرت منه اثنتا عشرة عينا } سورة البقرة: 60 (15).
كما استخدم موسى عليه السلام قدرته الغيبية مرة أخرى حينما ضرب بعصاه البحر؛ ليفتح في عمق البحر وعلى أرضه اثني عشر طريقا يابسا لبني إسرائيل، كي يمروا فيه ويعبروا البحر.
قال تعالى: { فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم } سورة الشعراء: 63 (16)..
في هذين الموقفين قد استفاد النبي موسى عليه السلام من قدرته الغيبية الممنوحة له، والتي تحققت كلها بإذن الله وإرادته.
3 ـ لقد كان النبي سليمان عليه السلام يتمتع بقدرات غيبية متعددة.. وكانت له سلطة على الجن والطيور، وكان يعرف منطق الطير ولغات الحشرات.
قال تعالى: { وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين  وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون  حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل آدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون  فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي... } سورة النمل: 16 ـ 19 وما بعدها(17).
وكان للنبي سليمان عليه السلام قدرة غيبية خارقة على الريح، حيث كانت تجري بأمره حيث يشاء..،
قال تعالى: { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها، وكنا بكل شيء عالمين } سورة الأنبياء: 81.(18)
والملفت للنظر أن الريح (تجري بأمره)، فهذا دليل على تحكم سليمان عليه السلام في مسير الريح ومجراها.
إن قدرة الأنبياء وامتلاكهم لعلم الغيب الموهوب يكون على نحو الدوام والاستمرار، وتوجد أكثر من آية تثبت ذلك، منها:
1 ـ قوله تعالى: { أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص واحيي الموتى بإذن الله } سورة آل عمران: 49. (19)
هذه الآية تثبت أن قدرة عيسى عليه السلام على فعل المعجزات وتمكنه منها ليس بخصوص حادثة معينة، فإنه لم يقل خلقت لكم طيرا وأبرأت لكم الأكمه والأبرص وأحييت لكم ميتا، لكي نفهم أنه يريد واقعة معينة قد حصلت في الماضي، وكذلك لم يقل سأخلق لكم طيرا وأبرئ لكم الأكمه والأبرص وأحيي لكم ميتا، لكي نفهم بأنه سيقوم بهذه الأشياء في وقت معين في المستقبل وبشكل طارئ، بل عبر بصيغة الحال وجعل المتعلق جنس الطير والأكمه والأبرص والموتى، فقال عليه السلام: أخلق من الطين طيرا وأبرئ الأكمه وأحيي الموتى، مما يفيد أنه متلبس بهذه الحالة على الدوام، وأنه قادر على فعل هذه الأشياء في أي وقت أراد الولاية التكوينية بين الكتاب والسنة .لهشام شري العاملي/ 107. (20).
2
ـ وقال تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: { قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب  فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب } سورة ص: 35 و36. (21)
فتسخير الريح لسليمان عليه السلام كان استجابة لدعائه وطلبه، حيث قال: { وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي }، ومن الطبيعي أن الله تعالى لم يستجب دعاء سليمان عليه السلام للحظة واحدة أو في حادثة واحدة معينة، فتسخير الريح كان من ضمن الملك الذي وهبه الله تعالى لسليمان عليه السلام نتيجة دعائه، والذي ذكره الله تعالى بعد ذلك بقوله: { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } سورة ص: 39. (22).
وعليه، فقدرة سليمان على حركة الرياح وسيرها بأمره، كانت ثابتة له على الدوام بإذن الله تعالى.
3 ـ وقال تعالى: { وألنا له الحديد }.
فإن إلانة الحديد لداود عليه السلام لم تكن بشكل طارئ وفي واقعة معينة ولسبب خاص، وإنما كان ذلك فضلا دائما آتاه الله تعالى إياه، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة: { ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد } سورة سبأ: 10.(23).
بقي أن نعرف أن هذا العطاء الإلهي الدائم لعلم الغيب، هل يقتصر في هبته على الأنبياء، أم يمتد لغيرهم من عباده الصالحين؟
صرح القرآن المجيد بأن هذا العطاء الإلهي لا يقتصر على الأنبياء فقط، وإنما قد منحه الله سبحانه لمن ارتضى من عباده الصالحين، إذ قال تعالى: { قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ... قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.. } سورة النمل: 38 ـ 40.(24).
فإن آصف كان يخبر عن قدرته على ذلك بقوله تعالى: { أنا آتيك به } أي أنا القادر على الإتيان به، خصوصا مع ملاحظة سؤال سليمان عليه السلام وطلبه القادر على ذلك بقوله: { أيكم يأتيني بعرشها }، بالإضافة إلى أن الله تعالى قد ذكره بوصفه فقال: { قال الذي عنده علم من الكتاب } وذكره بهذا الوصف مشعر بأن سبب القدرة هو نفس العلم بالكتاب، وهو ما تؤكده روايات أهل البيت عليهم السلام، فإذا لم ينس آصف هذا العلم فهو قادر على ذلك دائما وكلما أراد الولاية التكوينية بين الكتاب والسنة 107.(25).
الأمر الثاني: الآيات التي تحصر علم الغيب به تعالى وتنفيه عن غيره؛
إن علم الغيب يشكل ظاهرة في حياة الأنبياء والصالحين، إذا ماذا تعني الآيات التي تحصر علم الغيب به سبحانه وتنفيه عن غيره؟
قال تعالى: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } سورة النمل: 65.(26).
وقال: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } سورة الأنعام: 59.(27).
وقال: { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب } سورة هود: 31.(28).
وقال: { ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله } سورة هود: 123.(29).
وقال: { يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أجبتم؟ قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } سورة المائدة: 109.(30).
هذا القسم من الآيات التي تحصر علم الغيب به، لا تتعارض مع الآيات التي تثبت علم الغيب لغيره؛ لأن الأسلوب القرآني الشائع في بيان الأفعال الإلهية ـ كالخلق والرزق والموت ـ يعتمد على النفي من جهة والإثبات من جهة أخرى. مثال ذلك قوله تعالى: { الله يتوفى الأنفس } سورة الزمر: 42.(31) بما يفيد ظاهرا المباشرة ونفي الواسطة، وقوله تعالى: { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } سورة السجدة: 11.(32) الذي يفيد وجود الواسطة، إلا أن التأمل يجعلنا نعتقد أن الآية الأولى تثبت جهة والثانية تثبت جهة أخرى، فلا يوجد تعارض، وليس هناك نفي وإثبات؛ إذ الآية الأولى تثبت أن الله يتوفى الأنفس على نحو الأصالة، والآية الثانية تثبت أن ملك الموت يتوفى الأنفس على نحو التبعية لله سبحانه وتعالى، فالله يتوفى الأنفس بواسطة ملك الموت بموجب الآيتين معا.
وهكذا الأمر بالنسبة لعلم الغيب، فالطائفة التي تحصر علم الغيب به تعالى فإنها تنظر إلى علمه الذاتي الأزلي الذي يختص به تعالى، وأما الطائفة التي تتحدث عن علم الغيب عند غير الله تعالى فهي تتحدث عن علم غير ذاتي، وهو ما يفيضه الله من العلم بالغيب على من يختاره من عباده ليطلعه على بعض الحقائق، فلا تعارض بين الطائفتين.
الأمر الثالث: الآيات التي تثبت إمكان علم الغيب لغيره تعالى
جاءت في القرآن الكريم طائفة من الآيات تتحدث حول إمكان علم الغيب لغيره تعالى، مثل قوله تعالى:
{ هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا } سورة الكهف: 66.(33).
{ قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا } سورة الكهف: 67، 68.(34).
{ ولو كنت أعلم الغيب لآستكثرت من الخير } سورة الأعراف: 188.(35).
{ وقل ربي زدني علما } سورة طه: 114.(36).
حيث توصلنا قبل قليل إلى أن علم الغيب خاص به سبحانه، وهو يهب منه لمن يشاء، ولا تعارض في النفي والإثبات بين العلمين، فبنفس هذا التحليل ينحل التعارض بين الآيات التي تحصر علم الغيب به والآيات التي تتحدث عن إمكان علم الغيب لغيره.
إن الآيات التي تتحدث عن إفاضته علم الغيب لغيره، تفيد بأنه علم حاصل بإذنه وإرادته ورضاه، وليس خارجا عن شؤونه تعالى على كل حال.
الأمر الرابع: الآيات التي تثبت إعطاء علم الغيب لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله؛
ذكرنا طائفة من الآيات تثبت إمكان الحصول على علم الغيب لبعض العباد، وذكرنا أيضا ما يثبت إفاضته علم الغيب لغيره سبحانه، مثل قوله تعالى: { وعلم آدم الأسماء كلها } سورة البقرة: 31.(37)، وقوله: { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } سورة يوسف: 37.(38)، وقوله: { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } سورة آل عمران: 7.(39).
وبنفس هذا السياق توجد طائفة من الآيات تذكر إفاضة علم الغيب لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله، مثل قوله تعالى: { وما ينطق عن الهوى  إن هو إلا وحي يوحى } سورة النجم: 3 ـ 4.(40)، وقوله تعالى: { سنقرئك فلا تنسى } سورة الأعلى: 6.(41)، وقوله تعالى: { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } سورة آل عمران: 44.(42).
عن الإمام الباقر عليه السلام، أنه قال: " لا والله لا يكون عالم جاهلا أبدا، عالما بشيء جاهلا بشيء، الله أجل وأعز وأكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه سماءه وأرضه ." أصول الكافي للشيخ الكليني 262: 1 / ح 6(43).
وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «إن الله أدب نبيه فأحسن أدبه»، فلما أكمل له الأدب قال: { وإنك لعلى خلق عظيم } ث

أهم الأخبار

الأكثر مشاهدة