بعد عاشوراء...

الثلاثاء 3 أكتوبر 2017 - 14:43 بتوقيت مكة
 بعد عاشوراء...

الكوثر _ الشعائر الدينية الاسلامية


 مسيرة الأسر والسبي من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام
وما أن ذبح سيد الشهداء واحتز رأسه حتى بكت السماء عليه1 وظهرت آيات ذلك في السماء والأرض، فتجلى الغضب الإلهي لقتله عليه السلام ، و هذه الآيات وردت في كثير من مختصات الشيعة، بل وردت في كثير من مصادر الخاصة والعامة.

لقد صرخ جبريل في القتلة2، وكسفت الشمس حتى بدت الكواكب نصف النهار3، واسودت السماء وسقط التراب الأحمر4. واحمرت السماء، كأنها الدم 5. وأمطرت السماء دماً ورماداً6. وما كشف أو رفع حجر في ذلك اليوم إلا وكان تحته دم عبيط 7

وبكت السماء على الإمام الحسين عليه السلام وصلّت عليه8. وعجّت السماوات والأرض والملائكة 9، حتى الجن ناح عليه عليه السلام10، والطير 11. وبكى جميع ما خلق الله، إلا بنو أمية12 وآل الحكم بن أبي العاص13، لأنهم الشجرة الملعونة في القرآن. وإلاّ أهل البصرة، لأنها البلدة التي اتخذها الناكثون مركزاً للوقوف في وجه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ولما تركته معركة الجمل من آثار. وأهالي دمشق، لطول زمان تسلط بني أمية عليهم وبث الفتنة والدعايات الكاذبة ضد آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم، فراحوا يهنئون يزيد بالفتح14

نهب مخيم أهل البيت عليهم السلام 
بعد أن استشهد الإمام الحسين عليه السلام ، وحزّ رأسه ورضّ جسده الشريف بحوافر الخيل، أمر عمر بن سعد أوباش أهل الكوفة بنهب الخيام، فمالوا على الورس الذي كان أخذه الإمام الحسين من العير فانتهبوه، ثم مالوا على النساء فكانوا ينتزعون ملحفة المرأة عن ظهرها وهي تنازعهم حتى تغلب عليه، وجعلوا يسلبون حتى لباس الأطفال، وخرموا أذن أم كلثوم من أجل قرطٍ في أذنيها، ثم قطعوا الخيام بالسيوف وأضرموا فيها النيران. 

قالت فاطمة15 بنت الحسين: "كنت واقفة بباب الخيمة، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه مجزّرين كالأضاحي على الرمال، والخيول على أجسادهم تجول، وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي من بني أمية أيقتلوننا أم يأسروننا؟ فإذا برجلٍ على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه، وهن يلذن بعضهنّ ببعض وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة، وهنَّ يصحن: واجداه، وأبتاه، واعلياه، وقلة ناصراه، واحسيناه! أما من مجيرٍ يجيرنا؟ أما ذائدٍ يذود عنّا ؟ فطار فؤادي وارتعدت فرائصي، فجعلت أجيل بطرفي يميناًً وشمالاًً على عمتي أم كلثوم خشية منه أن يأتيني، فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني ففررت منهزمة، وأنا أظن أني أسلم منه، وإذا به قد تبعني فذهلت خشية منه، وإذا بكعب الرمح بين كتفيّ فسقطت على وجهي، فخرم أذني وأخذ قرطي ومقنعتي، وترك الدماء تسيل على خدّي، ورأسي تصهره الشمس، وولى راجعاً إلى الخيم، وأنا مغشي عليّ، وإذا بعمتي عندي تبكي وهي تقول: قومي نمضي!... فما رجعنا إلى الخيمة إلا وهي قد نُهبت وما فيها، وأخي علي بن الحسين مكبوب على وجهه لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا".

وقالت: "دخلت الغاغة علينا الفسطاط وأنا جارية صغيرة، وفي رجليّ خلخالان من ذهب، فجعل رجلٌ يفضّ الخلخالين من رجلي وهو يبكي! فقلت: ما يبكيك يا عدو الله!؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله!
فقلت: لا تسلبني. 
قال: أخاف أن يجيء غيري فيأخذه!
قالت: وانتهبوا ما في الأبنية حتى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا!"16.

وروى ابن شهر آشوب عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: "إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون القتال فيه، فاستُحلت فيه دماؤنا! وهُتك فيه حُرمتنا! وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا! وأضرمت النيران في مضاربنا! وانتهب ما فيها من ثقلنا"17.

وكان على رأس النهابين السلاّبين شمر بن ذي الجوشن18، الذي ما أن وصل إلى خيمة الإمام زين العابدين عليه السلام ورآه حتى أمر بقتله19 ولكن عمته زينب عليه السلام تعلقت به وقالت للشمر: "حسبك من دمائنا، والله لا أفارقه، فإن قتلته فأقتلني معه"، كما ساعدت حالته الصحية في تشجيع هؤلاء الأوباش على رفض تنفيذ أوامر الشمر، حيث بدا الإمام نحيلاً ضعيفاً من شدة المرض غير قادر على النهوض، وكأنهم اعتقدوا أن مرضه كافٍ في التسبب بموته بدون أن يقتلوه هم. كما ظهر كأنه صبي لشدة هزاله20، وكان الشمر مصمماً على قتله لأن عبيد الله بن زياد أمره بقتل جميع أولاد الإمام الحسين عليه السلام.

وهكذا أفلح موقف السيدة زينب عليه السلام ومرض الإمام وهزاله، وتردد عمر بن سعد وبقية القتلة في ثني الشمر عن قتله. وكأن الله عزّ وجلّ قد جمع كل هذه الأسباب ليبقيه حياً لأنه بقية الله وفيه سوف تكون الذرية الطاهرة21.

ولا يلتفت في هذا المقام إلى ما حاول الراوي، حميد بن مسلم، أن يروّجه لنفسه، بأنه لعب دوراً إيجابياً في الذود عن حياة الإمام زين العابدين عليه السلام وفي صرف شمر بن ذي الجوشن عن قتله، وهذا ضمن سياق عام من الأدوار الإيجابية الأخرى التي حاول رسمها لنفسه في روايات الطبري الذي تبعه آخرون وأخذوا عنه بدون تأمل. 

ولكن هذا الموقف لا ينطلي على متأمل، فإن حميد بن مسلم الأزدي هذا كان في جيش عمر بن سعد يوم عاشوراء‍، بل كان وجيهاً من وجهاء هذا الجيش معروفاً عند قادته وقريباً منهم، ويدل على ذلك أنه وخولّي بن يزيد الأصبحي حملا رأس الإمام عليه السلام إلى ابن زياد22بتكليف من عمر بن سعد. كما كان الرسول الخاص لعمر بن سعد إلى اهله لكي يبشرهم بالنصر المؤزر على الإمام الحسين في كربلاء23. ‍‍

كما أننا نرتاب في حقيقة ما حاول إظهاره في رواياته من التأثر لأهل البيت عليه السلام ، لأن كل هذه الروايات إنما رويت من طريقه نفسه فهو يحدث عن نفسه بنفسه !!

وعلى كل حال، فقد أضرمت النار في مضارب أهل البيت بعد إخراجهم منها، فخرجت النساء هاربات مسلّبات حافيات باكيات24، وكان يوم العاشر من المحرّم طويلاًً عليهم، وما انقضى اليوم حتى كان حرم الحسين عليه السلام وبناته وأطفاله في أسر الأعداء، يلوذون ببعضهم، مشغولون بالحزن والهموم والبكاء، وانقضى عليهم آخر ذلك النهار وهم فيما لا يحيط به قلب من الحزن والإنكسار، وباتوا تلك الليلة فاقدين لحماتهم ورجالهم25. وسرّح عمر بن سعد من يومه ذلك، وهو يوم عاشوراء، برأس الحسين عليه السلام مع خوليّ بن يزيد الأصبحي، وحميد بن مسلم الأزدي، إلى عبيد الله بن زياد. 26 

فأقبل خولي بالرأس فأراد القصر فوجد باب القصر مغلقاً، فأتى منزله 27 فوضعه تحت أجانة في منزله، وله امرأتان، امرأة من بني أسد، والأخرى من الحضرميين يُقال لها النوَّار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرمية. 

قال هشام: فحدّثني أبي عن النوّار بنت مالك قالت: أقبل خوّلي برأس الحسين عليه السلام فوضعه تحت أجانة في الدار، ثمّ دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقلت له: ما الخبر عندك؟ قال: جئتك بغنى الدهر! هذا رأس الحسين معك في الدار! قالت: فقلت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيتٌ أبداًً! 

قالت: فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إليه، وجلستُ أنظر، قالت: فوالله ما زلت أنظر على نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الأجانة! ورأيت طيراً بيضاً ترفرف حولها!

قال هشام: فلمّا أصبح غداً بالرأس إلى عبيد الله بن زياد 28

وأقام عمر بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين عليه السلام يومين، بقيّة يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ودفن القتلى من جيشه وصلّى عليهم29. ثم أذّن في الناس بالرحيل، وأمر برؤوس أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته فنظّفت، وكانت اثنين وسبعين رأساً، وسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجاج، وعزرة بن قيس، وحُملت الرؤوس على أطراف الرماح30. فأقبلوا حتى قدموا بها على ابن زياد31

وتنافست القبائل في تقاسم الرؤوس حتى تنال الحظية عند ابن زياد، فجاءت هوازن منها بإثنين وعشرين رأساً، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً مع الحصين بن نمير، وجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً مع قيس بن الأشعث، وجاءت بنو أسد بستّة رؤوس مع هلال الأعور، وجاءت الأزد بخمسة رؤوس مع عهيمة بن زهير، وجاءت ثقيف باثني عشر رأساً مع الوليد بن عمرو"32

وبقي جسد الإمام الحسين عليه السلام مع أجساد الشهداء الآخرين من أهل بيته وأصحابه عليه السلام في العراء لا تُوارى، تصهرها حرارة الشمس، وتسفّ عليها الرياح السوافي. وكانت بين وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قتل الحسين عليه السلام خمسون عاما33

ثمّ أخرجوا النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار، فخرجن مسلّبات حافيات باكيات يمشين سبايا في الأسر، وحملوهن على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء! مكشّفات الوجوه بين الأعداء وهنّ ودائع خير الأنبياء! وساقوهنّ كما يُساق سبي الترك والروم في أسر المصائب والهموم 34

فلمّا نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن، قال الراوي: فوالله لا أنسى زينب ابنة علي وهي تندب الحسين عليه السلام وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب: يا محمّداه يا محمّداه، صلّى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين عليه السلام بالعرا، مرمل بالدما، مقطع الأعضاء يا محمّداه وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفى عليها الصبا، قال الراوي: فأبكت والله كل عدوٍّ وصديق35

ثم إن سكينة اعتنقت جسد الحسين عليه السلام ! فاجتمع عدّة من الأغراب حتى جرّوها عنه!36

ولمّا نظرت أم كلثوم أخاها الحسين تسفي عليه الرياح! وهو مكبوب! وقعت من أعلى البعير إلى الأرض، وحضنت أخاها وهي تقول ببكاء وعويل: يا رسول الله ! انظر إلى جسد ولدك ملقى على الأرض بغير دفن! كفنه الرمل السافي عليه! وغسله الدمّ الجاري من وريديه! وهؤلاء أهل بيته يُساقون أسارى في أسر الذل! ليس لهم من يمانع عنهم! ورؤوس أولاده مع رأسه الشريف37 على الرماح كالأقمار! يا محمّد المصطفى هذه بناتك سبايا وذرّيتك مقتّلة! 

في الطريق إلى الكوفة
لم يفلت من أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام الذين معه إلا خمسة: علي بن الحسين، زين العابدين، وكان له في ذلك اليوم اثنان وعشرون سنة، وهو أبو بقية ولد الحسين بن علي اليوم، وكان مريضاً فكان مع النساء، وكان لولده محمّد الباقر أربع سنوات39

وحسن بن حسن بن عليّ 40، وله بقيّة، وعمرو بن حسن بن عليّ ولا بقية له، والقاسم بن عبد الله بن جعفر، ومحمّد بن عقيل الأصغر، فإن هؤلاء استضعفوا فقدم بهم وبنساء الحسين بن عليّ وهنّ: زينب وفاطمة ابنتا علي بن أبي طالب، وفاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن علي، والرباب بنت أنيف41 الكلبية امرأة الحسين ابن علي، وهي أم سكينة وعبد الله المقتول ابني الحسين بن علي. وأم محمّد بنت حسن بن علي امرأة علي بن حسين. ولكن الاصبهاني في مقاتل الطالبيين يضيف زيد بن الحسن وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عليه السلام 42

وكان معهم موالي لهم ومماليك عبيد وإماء قدم بهم على عبيد الله بن زياد، مع رأس الحسين بن علي عليه السلام ورؤوس من قُتل معه سلام الله عليهم أجمعين 43

كذلك كان مع السبايا ممن ذُكر زوجة الشهيد جنادة بن الحرث السلماني الغلام ذي الإحدى عشرة سنة من العمر، وكذلك كانت عائلة الشهيد مسلم بن عوسجة 44 في هذا الركب، وأمُّ الشهيد وهب الذي كان نصرانياً 45

وسار هذا الموكب الذي حفر في كل خطوة خطاها في ذاكرة التاريخ باتجاه الكوفة، ولكنه لم يدخلها، ولعل ذلك كان محاولة من ابن سعد للظهور بمظهر المنتصر، فانتظر خارج الكوفة، في منزل من منازل الطريق القريبة جداًً من الكوفة، أو على مشارفها، ولم يدخلها، وأجّل دخوله إلى نهار اليوم التالي، فبات موكب السبايا والأسرى من أهل البيت عليه السلام ليلة الثاني عشر في صحبة عسكر ابن سعد خارج الكوفة، وفي نهار اليوم الثاني عشر دخل عمر بن سعد الكوفة مع عسكره وبقية موكب الأسرى والسبايا. 

وكانت البوقات تضرب، والرايات تخفق قد أقبلت46، والأسواق معطّلة، والدكاكين مغلقة، والناس مجتمعون خلقاً كثيراً، حلقاً حلقاً، منهم من يبكي سراًً، فإن من أهل الكوفة من كان يعلم بحقيقة مجرى الأحداث، ويُدرك عِظم المصاب وفظاعة الجناية التي ارتكبتها الكوفة بالأساس، ويدري أن السبايا المحمولين مع عمر بن سعد هم بقيّة آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الرؤوس التي على أطراف الأسنة هي رؤوس ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، وهم خير أهل الأرض يومذاك، فكان يبكي لعظم الرزيّة!

ومنهم من يضحك جهراً، فإن من أهل الكوفة من كان أمويّ الميل والهوى، أو جاهلاً لم يعلم بحقائق الأحداث، متوهماً أن والي الكوفة وأميرها قد فتح فتحاً جديداً على ثغر من ثغور المسلمين! وجيء إليه بسبايا من غير المسلمين، فكان يضحك جهراً ويهنّئ من يلقاه بهذه المناسبة!!47.

لمّا وصل إلى ابن زياد خبر عودة جيشه بقيادة عمر بن سعد إلى الكوفة، أمر أن لا يحمل أحدٌ من الناس السلاح في الكوفة، كما أمر أن يأخذوا السكك والأسواق، والطرق والشوارع، خوفاً من الناس أن تحصل ردة فعل عفوية غير محسوبة تأثراً بمنظر أهل البيت عليه السلام إذا رأوا بقيّتهم بتلك الحالة من الأسر والسبي، وأمر أن تُجعل الرؤوس في أوساط المحامل أمام النساء، وأن يُطاف بهم في الشوارع والأسواق حتى يغلب على الناس الخوف والخشية48. كما أمر عبيد الله بن زياد أن يضعوا الرأس المقدّس على الرمح ويُطاف به في سكك الكوفة وقبائلها49

وطاف موكب الأسرى والسبايا على الجمال بغير وطاء في أزقة الكوفة، ومعهم الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فجعل نساء الكوفة يبكين ويلتدمن!50 وما مروا بزقاق إلا وهو قد امتلأ رجالاً ونساء يضربون وجوههم ويبكون51، فسُمِعَ علي بن الحسين عليه السلام وهو يقول بصوت ضئيل، وقد نهكته العلة، وفي عنقه الجامعة! ويده مغلولة إلى عنقهّ!: "إن هؤلاء النسوة يبكين! فمن قتلنا!."52

فأشرفت امرأة من الكوفيات فقالت: "من أي الأسارى أنتن؟ فقلن: نحن أسارى آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم !!. فنزلت المرأة من سطحها فجمعت لهنّ ملاء وأُزُراً ومقانع، وأعطتهن فتغطين" 53

وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أم كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة! إنّ الصدقة علينا حرام! وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض. كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم! فقالت لهم أم كلثوم: صه يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم!؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء! 54

قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرتُ إلى زينب بنت علي يومئذٍ، ولم أرَ خفرةً والله أنطق منها! كأنها تُفرغ من لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ! وقد أومأت إلى الناس أنِ اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس!! ثم قالت: 
الحمد الله، والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار! أما بعدُ يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر! أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة! إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم! ألا وهل فيكم إلا الصَّلَفُ النَّطِفُ، والعجب والكذب والشَّنِف، وملق الإماء، وغمز الأعداء55، أو كمرعى على دمنة، أو كفضة(قصة)على ملحودة 56!؟ ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسك أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!

أتبكون وتنتحبون!؟ إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاًً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغُسل بعدها أبداًً! وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدرة ألسنتكم!؟ ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسُحقاً، فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلة والمسكنة!

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم!؟ وأي كريمة له أبرزتم!؟ وأيّ دم له سفكتم!؟ وأيّ حرمة له انتهكتم!؟ ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء (خرقاء شوهاء) كطلاع الأرض أو ملاء السماء! أفعجبتم أن مطرت السماء دماً!؟ ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون! فلا يستخفنّكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإن ربكم لبالمرصاد!57

قال الراوي: فوالله لقد رأيت الناس يومئذٍ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلَّت لحيته، وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يبزى58.

وروى زيد بن موسى قال: حدّثني أبي، عن جدّي عليه السلام قال: خطبت فاطمة الصغرى بعد أن وردت من كربلاء فقالت: الحمدُ لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله، وأن أولاده ذُبحوا بشطِّ الفرات بغير ذُحل ولا ترات!

اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، المسلوب حقّه، المقتول من غير ذنب كما قتل ولده بالأمس، في بيت من بيوت الله في معشر مسلمة بألسنتهم! تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته، حتى قبضته إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك اللهم لومة لائم ولا عذل عاذل، هديته اللهم للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبضته إليك زاهداً في الدنيا غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته فهديته إلى صراطٍ مستقيم. 

أما بعدُ يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ! فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لديناً، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجَّته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم على كثير ممّن خلق تفضيلاً بيّناً، فكذّبتمونا وكفرتمونا! ورأيتم قتالنا حلالاً! وأموالنا نهباً! كأننا أولاد ترك وكابل! كما قتلتم جدّنا بالأمس59، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدّم! قرّت لذلك عيونكم وفرحت قلوبكم، افتراءً على الله ومكراً مكرتم، والله خير الماكرين. فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة  ﴿فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير* ِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، تباً لكم! فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حلَّ بكم وتواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذاب ويُذيق بعضكم بأس بعض، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم!؟ وأية نفس نزعت إلى قتالنا!؟ أم بأي رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا!؟ قست والله قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على أفئدتكم، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجُعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون!فتباً لكم يا أهل الكوفة! أي تراتٍ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قِبَلكم، وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات الله وسلامه عليهم!؟ وافتخر بذلك مفتخركم فقال: 
 نحن قتلنا علياً وبني علي بسيوف هندية ورماح 
                              وسبينا نساءهم سبي ترك ونطحناهم فأيُّ نطاح 

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب! افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً! فاكظِمْ وأقع كما أقعى أبوك، فإنما لكل امرء ما اكتسب وما قدمت يداه، أحسدتمونا، ويلاً لكم، على ما فضّلنا الله!؟ فما ذنبنا إن جاش دهراً بحورنا وبحرك ساجٍ لا يواري الدّعامصا ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. 
قال: وارتفعت الأصوات بالبكاء! وقالوا: حسبك يا ابنة الطيبين! فقد أحرقت قلوبنا، وأنضجت نحورنا، وأضرمت أجوافنا. فسكتت"60

وخطبت أم كلثوم61 بنت علي عليه السلام في ذلك اليوم من وراء كلّتها، رافعة صوتها  بالبكاء فقالت: 
يا أهل الكوفة! سوأة لكم! خذلتم حسيناًً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه!؟ وسبيتم نساءه ونكبتموه!؟ فتباً لكم وسحقاً. ويلكم! أتدرون أي دواهٍ دهتكم!؟ وأيّ وزرٍ على ظهوركم حملتم!؟ وأيّ دماءٍ سفكتم!؟ وأيّ كريمة أصبتموها!؟ وأيّ صبية سلبتموها!؟ وأيّ أموال انتهبتموها!؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ! ونُزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إن حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون. 

فضج الناس بالبكاء، والحنين والنوح، ونشر النساء شعورهن ووضعن التراب على رؤوسهن، وخمشن وجوههن، وضربن خدودهن، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال، فلم ير باكية وباك أكثر من ذلك اليوم 62

ثم إن زين العابدين عليه السلام أومأ إلى الناس أن اسكتوا، فسكتوا، فقام قائماً، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم صلّى عليه، ثم قال: 

"أيها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتهب ماله، وسُبي عياله! أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذُحلٍ ولا ترات! أنا ابن من قُتل صبراً، فكفى بذلك فخراً! 
أيها الناس! فأنشدكم الله، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه!؟ وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه!؟
فتباً لما قدّمتم لأنفسكم! وسوأة لرأيكم! بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمّتي!؟
فارتفعت الأصوات من كل ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون!!

فقال عليه السلام: رحم الله امرءً قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وأهل بيته، فإنّ لنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة. 

فقالوا بأجمعهم: نحن كلنا يا ابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك! فمرنا بأمرك يرحمك الله! فإنا حربٌ لحربك! وسلم لسلمك! لنأخذنَّ يزيد لعنه الله ونبرأ ممّن ظلمك! 

فقال عليه السلام: هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم! أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل!؟ 

كلا وربِّ الراقصات! فإن الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه، ولم ينسني ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه يجري في فراش صدري، ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا!

رضينا منكم رأساً برأس! فلا يوم لنا ولا يوم علينا!" 63


يقول الشيخ محمّد جعفر الطبسي: لقد صبّ الإمام زين العابدين وعمته وأخواته جام غضبهم على مجموع أمة أهل الكوفة وحمّلوهم أوزار جريمة فاجعة عاشوراء.. إذ لولا أمّة "أهل الكوفة" لكان ابن زياد وجلاوزته أعجز من أن يقوموا بما قاموا به!
فالأمة هنا هي وقود النار التي اقتدح شرارتها الجبابرة الظالمون، وهي أداة القتل، بل هي التي باشرت ارتكاب الجريمة العظمى بيدها! فهي التي تستحق اللعن الدائم إلى قيام الساعة وفي هذا وردت نصوص كثيرة عن أهل بيت العصمة عليه السلام منها هذه الفقرة من زيارة عاشوراء: 
"... فلعن الله أمة أسست أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت، ولعن الله أمة دفعتكم عن مقامكم وأزالتكم عن مراتبكم التي رتّبكم الله فيها، ولعن الله أمّة قتلتكم..." 64. 

إن دور الأمة، في مجموعة العلل والأسباب الإجتماعية، هو الدور الفاعل الرئيس، فبالأمة يستطيع قادة الخير أن يحققوا كلّ مشاريع الخير والصلاح، وبدونها يعجز هؤلاء القادة عن تحقيق أي هدف من أهداف الإصلاح والخير، وكذلك فإنّ أئمة الضلال إنما يستطيعون بلوغ أهدافهم الشريرة المشؤومة ما أطاعتهم الأمّة فيما يريدون، ويعجزون عن تحقيق أي مطمع من مطامعهم إذا خالفتهم الأمة في الرأي والعمل. 

نعم، في البدء يكون سامريٌّ وعجل! لكنهما لا أثر لهما ما لم تطعهما الأمة وتقتف أثرهما!! فالأمة وإن كانت تابعة لكنها ذات الدور الفاعل الأساس!65

وقد بات أهل البيت عليهم السلام ليلتهم تلك في سجن عبيد الله بن زياد، وحتى وهم يسحبون إلى السجن كانوا كلما مروا بزقاق يجدونه قد امتلأ رجالاً ونساء يضربون وجوههم ويبكون66. ثم حبسوا في سجن وطبّق عليهم 67.

فبينا هم محتبسون إذ وقع حجر في السجن معه كتاب مربوط، وفي الكتاب: خرج البريد بأمركم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية، وهو سائر كذا وكذا يوماً، وراجع في كذا وكذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل! وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إن شاء الله. 

فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجرٌ ألقي في السجن ومعه كتاب مربوط وموسى، وفي الكتاب: أوصوا واعهدوا فإنما ينتظر البريد يوم كذا وكذا، فجاء البريد ولم يُسمع التكبير، وجاء كتابٌ بأن سرّح الأسارى إليّ 68.

في قصر عبيد الله بن زياد
في اليوم التالي لوصول رأس الحسين عليه السلام ووصول ابن سعد، ومعه بنات الحسين عليه السلام وأهله، جلس ابن زياد للناس في قصر الامارة وأذن للناس إذناً عاماً، وأمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه، فجعل ينظر إليه ويتبسم وفي يده قضيب (أوخيزرانة) يضرب به ثناياه 69، وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهو شيخ كبير.

فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب قال له:اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين(الشفتين)، فوالله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما (أو يلثمها، أوما لا أحصيه كثرة تقبلهما). ثم خنقته العبرة وانتحب باكياً، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، أتبكي لفتح الله ؟ فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك! فنهض فخرج، وهو يقول، بحيث يسمعه الناس ولا يسمعه ابن زياد: ملك عبد عبداً، فاتخذهم تلداً، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل فبعداً لمن رضي بالذل70.

ولكن سبط ابن الجوزي ينقل عن ابن أبي الدنيا كلاماً يظهر فيه زيد بن أرقم أكثر شجاعة، فقد نهض ثم قال: "يا ابن زياد لأحدثنّك حديثاً أغلظ من هذا! رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقعد حسناً على فخذه اليمنى، وحسيناًً على فخذه اليسرى، ثمّ وضع يده على يافوخيهما، ثم قال: اللهم إني أستودعك إياهما وصالح المؤمنين. فكيف كانت وديعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندك يا ابن زياد!؟"71

وروى ابن عساكر بأسانيد إلى أنس بن مالك الصحابي أنه قال: "لما أُتي برأس الحسين، يعني إلى عبيد الله بن زياد، فجعل ينكت بقضيب في يده ويقول: إن كان لحسن الثغر! فقلت والله لأسوءنّك! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبّل موضع قضيبك منه"72

بين الحوراء عليها السلام والطاغية ابن زياد

لما دخل برأس الإمام الحسين عليه السلام وصبيانه وأخواته ونسائه على عبيدالله بن زياد، لبست زينب عليه السلام أرذل ثيابها، وتنكرت، وحفّ بها إماؤها، فلما دخلت مضت حتى جلست ناحية من القصر، فقال عبيدالله ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها ؟؟ فلم تكلّمه !! فقال ذلك ثلاثاً، يسأل عنها، كل ذلك لا تكلمه! فقال بعض إمائها: هذه زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله ! فقال لها عبيد الله: الحمد لله الذى فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم !!
فقالت: الحمد لله الذى أكرمنا بنبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وطهَّرنا من الرجس تطهيراً، لا كما تقول أنت، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله !! 
قال: فكيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتك ؟!
قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجون إليه وتخاصمون عنده ! فانظر لمن الفلج يومئذٍ !! ثكلتك أمك يا ابن مرجانة!!

فغضب ابن زياد واستشاط، وكأنَّه همَّ بها. فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير، إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها ؟ إنها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل، ولا تذم على خطابها !!

فقال لها ابن زياد: قد أشفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك !!
فرقت زينب عليه السلام وبكت، ثم قالت: لعمري !! لقد قتلت كهلي، وأَبَدْتَ أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت !! 
فقال لها عبيد الله هذه الشجاعة(السجاعة)، قد لعمري كان أبوك شاعرا شجاعاً(سجاعاً). 
قالت: ما للمرأة والشجاعة(السجاعة)، إنّ لي عن الشجاعة(السجاعة)، لشغلا، ولكني نفثي ما أقول73، وإني لأعجب ممن يشتفي بقتل أئمته، ويعلم أنهم منتقمون منه في آخرته74.

بين الإمام زين العابدين عليه السلام والطاغية

حين عرض علي بن الحسين عليه السلام على عبيد الله بن زياد قال له: ما اسمك؟ قال عليه السلام: أنا علي بن الحسين.
قال: أولم يقتل الله عليَّ بن الحسين ؟ 
فسكت عليه السلام.
فقال له ابن زياد: مالك لا تتكلم ؟ 
قال عليه السلام: قد كان لي أخ يقال له أيضاً علي، فقتله الناس !! 
قال: بل الله قتله !! 
فسكت عليه السلام. 
فقال له ابن زياد: مالك لا تتكلم ؟
قال عليه السلام:  ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا75، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله76 !! 

فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للرد علي ؟ أنت والله منهم !! انطلقوا به فاضربوا عنقه ! فتعلقت به عمته زينب عليه السلام واعتنقته وقالت: والله لا أفارقه، يا ابن زياد حسبك منا، أما رويت من دمائنا؟ وهل أبقيت منا أحداًً؟ أسألك بالله إن كنت مؤمناً إن قتلته لمّا قتلتني معه !

'فقال عليه السلام: أبالقتل تهددني يا ابن زياد ؟ أما علمت أن القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة77 ؟ 
فسكت ابن زياد ونظر إليها ساعة، ثم نظر إلى القوم، فقال: أخرجوهم عني78، عجباً للرحم ! والله إني لأظنها ودَّت لو أني قتلته أنّي قتلتها معه!! دعوا الغلام، فإني أراه لما به، إنطلق مع نسائك. فبعثه معهن.79

ثم أمر ابن زياد بردّ علي بن الحسين عليه السلام وأهله إلى السجن، فحملوا إلى دار إلى جنب المسجد الأعظم80، فقالت زينب عليه السلام: لا يدخلن علينا عربية إلا أم ولد أو مملوكة فإنهن سبين وقد سبينا81. وبعث ابن زياد البشائر إلى النواحي بقتل الحسين عليه السلام82.

والظاهر أن ابن زياد كان قد حبسهم في سجن على بُعد من القصر ومن المسجد، قبل أن تقع بينه وبينهم المحاورات الجريئة الساخنة، ثم بعد أن استدعاهم فحاورهم وحاوروه، وصار الناس يولولون ويلغط أهل المجلس خاف ابن زياد فأمر بردّهم إلى الحبس مرة أخرى ولكن في دار إلى جنب المسجد.

ثورة الأزدي
لما دخل عبيد الله القصر، ودخل الناس، نودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد الأعظم، ثم قام من مجلسه حتى خرج من القصر، ودخل المسجد فصعد المنبر فقال: الحمد لله الذى أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذّاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته...

فلم يفرغ ابن زياد من مقالته، حتى وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي، وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي عليه السلام ، فلما كان يوم صفين، ضرب على رأسه ضربة، وأخرى على حاجبه، فذهبت عينه الأخرى، فكان لا يكاد يفارق المسجد الاعظم يصلّي فيه إلى الليل ثم ينصرف. 

فلما سمع مقالة ابن زياد، قال: يا عدو الله! يا ابن مرجانة ! إن الكذَّاب ابن الكذَّاب أنت وأبوك والذي ولاّك وأبوه !! يا ابن مرجانة أتقتلون أبناء النبيين وتكلمون بكلام الصدّيقين(وتقوم على المنبر مقام الصديقين) ؟؟ 

فقال ابن زياد: عليَّ به ! 
فوثبت عليه الجلاوزة، فأخذوه ! فنادى بشعار الأزد: يا مبرور !!
وكان عبد الرحمن بن مخنف الأزدي جالساً، فقال: ويح غيرك! أهلكت نفسك وأهلكت قومك ! وحاضر الكوفة يومئذٍ من الأزد سبعمائة مقاتل، فوثب إليه فتية من الأزد فانتزعوه، فأتوا به أهله، فأرسل إليه عبيد الله بن زياد من أتاه به، فقتله وأمر بصلبه في السبخة فصلب هنالك.83

صلب الرأس

ولما أصبح عبيد الله بن زياد بعث برأس الحسين عليه السلام فنصبه، وجعل يدار به في سكك الكوفة84 كلها وقبائلها، فروي عن زيد بن أرقم أنه قال: مر به علي وهو على رمح وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ:  "أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا"85 فقف 86، والله، شعري وناديت: رأسك والله، يا ابن رسول الله، أعجب وأعجب 87

إرسال الرأس إلى الشام
ولما فرغ القوم من التطواف برأس الحسين بالكوفة، ردوه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرحه إلى يزيد بن معاوية، وكان مع زحر أبو بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبى ظبيان الأزدي في جماعة من أهل الكوفة، فخرجوا حتى وردوا بها على يزيد بن معاوية بدمشق 88.

إرسال البشارة بقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام إلى المدينة !!!
ولما أنفذ ابن زياد برأس الحسين عليه السلام إلى يزيد، تقدم إلى عبد الملك بن أبي الحديث السلمي فقال: انطلق حتى تأتي عمرو بن سعيد ابن العاص بالمدينة، فبشره بقتل الحسين، فقال عبد الملك: فركبت راحلتي وسرت نحو المدنية، فلقيني رجل من قريش فقال: ما الخبر ؟ فقلت: الخبر عند الأمير تسمعه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قتل ــ والله ــ الحسين. ولما دخلت على عمرو بن سعيد قال: ما وراءك ؟ فقلت: ما سر الأمير، قتل الحسين بن علي، فقال: اخرج فنادِ بقتله، فناديت، فلم أسمع والله واعية قط مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين ابن علي عليه السلام حين سمعوا النداء بقتله، فدخلت على عمرو بن سعيد، فلما رآني تبسَّم إليَّ ضاحكاً ثم أنشأ متمثلاً بقول عمرو بن معدي كرب:عجـت نسـاء بني زيـاد عـجـة كعجيج نسوتنا غداًة الأرنـب 89  

ثم قال عمرو: هذه واعية بواعية عثمان. ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتل الحسين بن علي عليه السلام ودعا ليزيد بن معاوية ونزل90.

ودخل بعض موالي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام فنعى إليه ابنيه فاسترجع، فقال أبو السلاسل مولى عبد الله: هذا ما لقينا من الحسين بن علي، فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله ثم قال: يا ابن اللخناء، أللحسين تقول هذا ؟ ! والله لو شهدته لأحببت ألا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لممَّا يسخي بنفسي عنهما ويعزّيني عن المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له، صابرين معه. ثم أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله، عزَّ عليَّ مصرع الحسين، إن لا أكن آسيت حسيناً بيدي فقد آساه ولدي91

وخرجت أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين عليه السلام حاسرة ومعها أخواتها: أم هانيء، وأسماء، ورملة، وزينب، بنات عقيل بن أبي طالب رحمة الله عليهن تبكي قتلاها بالطف، وهي تقول: 
مـاذا تقــولون إذ قـال النبي لكم مـاذا فعـلتـم وأنـــتــم آخـر الأمم 
                                       بعتـرتي وبأهــلي بعـد مفتـقدي منـهم أســارى ومنهــم ضرجوا بدم 

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلّفوني بسوء في ذوي رحمي92 

دفن الإمام الحسين عليه السلام وبقية الشهداء 

"وفي اليوم الثالث" 93، بعد رحيل ابن سعد، خرج قوم من بني أسد كانوا نزولاً بالغاضرية إلى الحسين عليه السلام وأصحابه، وهم سبعة عشر نفساً، غير الحسين بن علي عليه السلام ، وهم:
العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان، وعبيد الله، وأبو بكر، بنو أمير المؤمنين عليه السلام. وعلي، وعبد الله، ابنا الحسين بن علي عليهم السلام. والقاسم، وأبو بكر، وعبد الله، بنو الحسن بن علي عليه السلام. ومحمّد، وعون، ابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وعبد الله، وجعفر، وعبد الرحمن، بنو عقيل بن أبي طالب. ومحمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب. فهؤلاء سبعة عشر نفساً من بني هاشم، وهم إخوة الحسين وبنو أخيه وبنو عمه جعفر وعقيل.

ولم يكن بنو أسد هؤلاء، وهم من أهل القرى الذين لم يشهدوا المعركة، قادرين على التحقق من شخصية كل شهيد من هؤلاء الشهداء، بدون أن يكون هناك عارف بهؤلاء الشهداء شخصياً، فيرشدهم إلى شخصية كل واحد منهم، خصوصاً وأن أجسادهم كانت بلا رؤوس، كما أن طريقة دفنهم على النحو والتوزيع المعروف من خلال قبورهم، والمتسالم عليه بلا خلاف، لا يمكن لبني أسد بدون من يرشدهم إلى ذلك.

فلولاه لما أمكن لبني أسد من أهل الغاضرية التمييز بين الإمام الحسين عليه السلام وولده وأصحابه، ولكان الدفن عشوائياً، ولم يكن ليتحقق هذا الفصل وهذا التوزيع بين القبور على ما هي عليه الآن. 

إن الروايات المأثورة عن أهل البيت عليه السلام ، تؤكد أنّ هذا العارف الذي أرشد بني أسد من اهل الغاضرية وحضر معهم عملية الدفن، لم يكن سوى الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام ، فقد ورد في رواية إثبات الوصية عن سهل بن زياد عن منصور بن العباس عن إسماعيل بن سهل عن بعض أصحابه قال: "كنت عند الرضا عليه السلام ، فدخل عليه عليّ بن أبي حمزة، وابن السرّاج، وابن المكاري، فقال عليٌّ بعد كلام جرى بينهم وبينه عليه السلام في إمامته: إنّا روينا عن آبائك عليه السلام أنّ الإمام لا يلي أمره إلا الإمام مثله. 

فقال له أبو الحسن عليه السلام: فأخبرني عن الحسين بن عليّ كان إماماً أو غير إمام؟ 
قال: كان إماماً. 
قال: فمن ولِيَ أمره؟ 
قال: علي بن الحسين! 
قال: وأين كان علي بن الحسين؟ 
قال: كان محبوساً بالكوفة في يد عبيد الله بن زياد. 
قال: كيف ولِيَ أمر أبيه وهو محبوس؟ 
قال له: روينا أنه خرج وهم لا يعلمون حتّى ولِيَ أمر أبيه، ثمّ انصرف إلى موضعه. 
فقال له أبو الحسن: إنّ هذا الذي أمكن عليَّ بن الحسين وهو معتقل، فهو يمكّن صاحب هذا الأمر وهو غير معتقل أن يأتي بغداد ويلي أمر أبيه وينصرف وليس هو محبوس ولا مأسور!"94

إذن، بل لابد، أن يكون الإمام السجاد عليه السلام ، الذي كان محبوساً بالكوفة في يد عبيد الله بن زياد، قد خرج وهم لا يعلمون حتّى ولِيَ أمر أبيه الإمام الحسين عليه السلام ، لأن الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله 95، ولا بد أن يكون حضوره عليه السلام ساحة كربلاء حضوراً إعجازياً خارقاً للعادة في الأسباب! لأنه عليه السلام حينذاك كان لم يزل في قيد الأسر بيد الأعداء. فحضر وصلّى على أبيه الإمام الحسين عليه السلام وعلى أخيه علي الأكبر عليه السلام ، وبقية الشهداء، ثم عاونه أهل الغاضرية على حفر القبور فدفن الإمام عليه السلام حيث قبره الآن، ثم دفن أخاه علياً الأكبر عند رجليه، ثم حفروا حفيرة للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين عليه السلام في مشهده، وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العباس بن علي عليه السلام في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن ظاهر96.

وبما أن خروجه عليه السلام إلى كربلاء لم يكن في اليوم الحادي عشر، لأنه لم يدخل المحبس إلا في آخر اليوم الثاني عشر، لأن عمر بن سعد دخل بعسكره وبالسبايا الكوفة في نهار اليوم الثاني عشر الذي انقضى على بقية أهل البيت عليه السلام وهم يعرضون على الناس، وفي مجلس ابن زياد، فيكون حبسهم قد ابتدأ آخر نهار اليوم الثاني عشر، أي في ليلة اليوم الثالث عشر، وبهذا تكون ليلة الدفن هي ليلة اليوم الثالث عشر، أوّل ليلة لهم في السجن حيث بقوا فيه إلى اليوم الذي أرسلهم ابن زياد فيه إلى يزيد. 

وإذا كان الدفن قد تحقق نهاراً، أي في اليوم الثالث عشر، فيكون عليه السلام قد خرج من محبسه إلى كربلاء لدفن أبيه عليه السلام وهم لا يعلمون، في وقت كان قد فرغ ابن زياد من التحقيق معهم فلا يعود إلى استدعائهم، فيطمئن الإمام السجّاد عليه السلام إلى أنه إذا غاب فإنّه لا يُفتقد. 

ندم المجرمين
روي عن حميد بن مسلم قال: كان عمر بن سعد لي صديقاً، فأتيته عند منصرفه من قتال الحسين، فسألته عن حاله، فقال: " لا تسأل عن حالي، فإنه ما رجع غائب إلى منزله بشرٍّ مما رجعت به، قطعت القرابة القريبة، وارتكبت الأمر العظيم ".97 

وعن عوانة قال: قال عبيد الله بن زياد لعمر بن سعد بعد قتله الحسين: يا عمر أين الكتاب الذي كتبت به إليك في قتل الحسين؟
قال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب. 
قال: لتجيئن به !!
قال: ضاع !!
قال: والله لتجيئني به !!
قال ترك والله يقرأ علي عجائز قريش اعتذاراً إليهن بالمدينة، أما والله لقد نصحتك في حسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص كنت قد أديت حقه 98.

رأس الحسين عليه السلام في قصر يزيد

ولما أُدخلوا على يزيد، وكان بالخضراء 99، أقبل زحر بن قيس يقول: 

وقــر ركـابـي فـضـة أو ذهبـا فقــد قتـلـتُ السيِّـد المحجّـبا 
                               قتـلـت أزكـى النـاسِ أمـاً وأبـا وخيـرهم إذ يـذكرون النَّسَبا 100 

فقال له يزيد: ويلك ما وراءك وما عندك ؟ قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حكم الأمير عبيدالله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال على الإستسلام، فغدونا عليهم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم، جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر لواذاً كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله يا أمير المؤمنين ما كانوا إلا جزر جزور أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس وتسفي عليهم الرياح، زوارهم العقبان والرخم101، فتمثل يزيد: نفـلـق هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما102فلما وضع الرأس بين يديه قهقه حتى سمعه من كان بالمسجد، ويُقال إنه كبّر تكبيرة عظيمة!"103

إرسال الرؤوس والأسرى إلى الشام
ثم إن عبيد الله بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين عليه السلام أمر بنسائه وصبيانه، وفيهم عمر والحسن ابنا الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وكان الحسن بن الحسن بن علي قد ارتث جريحاً فحُمل معهم، وعلي بن الحسين، زين العابدين، وزينب العقيلة، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وسكينة بنت الحسين فجهزوا، وأمر بعلي بن الحسين فغُل بغل إلى عنقه، ثم سرح بهم في أثر الرأس مع محفز بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن104، فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس105

وبعد مسيرة طويلة، من بلدٍ إلى بلد، ومن منزلٍ إلى منزل، كما تُساق أسارى الترك والديلم، وصلت قافلة الأسرى والسبايا إلى الشام، مشدودين على أقتاب الجمال موثوقين بالحبال، يساقون كما تساق الأنعام، وعلى رأسهم زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام ، وقد جُعل الغلُّ في عنقه ويده 106، يحمله بعير يطلع بغير وطاء، والأسارى من أهل بيت الرسول من النساء والصبيان راكبين أقتاباً107يابسة، يتصفح وجوههنَّ أهل الأقطار108، ورأس الحسين عليه السلام على علَم، وحولهم الجنود بالرماح، إن دمعت عين أحدهم قُرع على رأسه بالرمح 109.

ودخل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دمشق نهاراً، وأهلها غارقون في جهلهم بما يجري، قد علّقوا الستور والحجب والديباج، فرحين مستبشرين، ونساؤهم يلعبن بالدفوف، ويضربن على الطبول، في حالة الفرح والانبساط والاشتغال باللهو، وكأنه العيد الأكبر عندهم. 

وكان أعظم أمر اهتم به السبايا من حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلال مسيرة الاسر والسبي هو مسألة الحجاب، مع كونهم في مأساة كبيرة، وذكرى مفجعة، تهز كيانهم وعواطفهم ولا تكاد تنقطع. فعندما اقتربوا من دمشق، دنت أم كلثوم من الشمر، فقالت: لي إليك حاجة! 

فقال: وما حاجتك؟ 
قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليلة النظارة، وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال! 
فأمر اللعين في جواب سؤالها أن تُجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل، بغياً منه وكفراً، وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة، حتى أتى بهم إلى باب دمشق. 

وكان سهل بن سعد قد خرج إلى بيت المقدس حتى توسّط الشام، فإذا هو بمدينة مطّردة الأنهار كثيرة الأشجار، قد علّق أهلها الستور والحجب والديباج، وهم فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقال في نفسه: لعل لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن! فرأى قوماً يتحدثون، وصادف أنهم كانوا من
300 أصحاب الضمائر الحيّة التي بقيت تعرف الأمور، وتميّز الحقّ من الباطل، فقال لهم: يا هؤلاء ألكم عيد لا نعرفه نحن؟ 
قالوا: ياشيخ نراك غريباً ! 
فقال: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحملت حديثه! 
قالوا: يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تخسف بأهلها! قال: ولمَ ذلك؟ 
قالوا: هذا رأس الحسين، عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يهدى من أرض العراق إلى الشام، وسيأتي الآن110!! 

قال: واعجباه! يهدى رأس الحسين والناس يفرحون111؟! فمن أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات، فسار نحو الباب، فبينما هو هنالك إذ جاءت الرايات يتلو بعضها بعضاً وإذا بفارس بيده رمح منزوع السنان وعليه رأس أشبه الناس وجهاً برسول الله، وإذا النسوة من ورائه على جمالٍ بغير وطاء، فدنا من إحداهنّ فقال لها: يا جارية، من أنت؟ 
فقالت: أنا سكينة بنت الحسين! 
فقال لها: ألكِ حاجة إليّ، فأنا سهل بن سعد، ممن رأى جدك وسمع حديثه؟ 
قالت: يا سهل، قل لصاحب الرأس أن يتقدم بالرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه، فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول الله. 
فدنا من صاحب الرأس وقال له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمائة ديناًر؟ 
قال: وما هي؟ 
قال: تقدّم الرأس أمام الحرم!! ففعل ذلك ودفع له ما وعده..."112.

"وروي أن السبايا لما وردوا مدينة دمشق أُدخلوا من باب يقال له باب"توما"113، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام الأسارى والسبي" 114. و"إن رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً"115

رأس الحسين عليه السلام يتكلّم بدمشق ويتلو القرآن
ولقد أقسم بالله كلٌّ راوٍ رأى رأس الحسين بن علي عليه السلام على القنا وهو يقول: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم116، فكل راوٍ لهذا الحديث قال لمن رواه له: اللهِ إنك سمعته من فلان؟ قال: اللهِ إني سمعته منه، إلى الأعمش، قال الأعمش: فقلت لسلمة بن كهيل: الله إنك سمعته منه؟ قال: اللهِ إني سمعته منه بباب الفراديس بدمشق لا مُثِّل لي ولا شُبِّه لي وهو يقول:  ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ117

وأخرج ابن عساكر بإسناده عن المنهال بن عمرو قال: أنا والله رأيت رأس الحسين بن علي حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف حتى بلغ قوله:  ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾118، قال: فأنطق الرأس بلسان ذرب فقال:"أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي" 119.

وروى ابن شهر آشوب عن الحافظ السروي أنه قال: "وسمع أيضاً صوته عليه السلام بدمشق: لا قوة إلا بالله"120

على درج المسجد
وأُتيَ بحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أُدخلوا من مدينة دمشق من باب يقال له "باب توما"، ثم أُتيَ بهم حتى وقفوا على درج باب المسجد، فأمر يزيد عليه اللعنة بإيقاف الأسارى من أسرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هناك، حيث توقف الأسارى121، وحيث يقام السبي، لينظر الناس إليهم.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 3 أكتوبر 2017 - 14:43 بتوقيت مكة