الإمام الحسين عليه السلام: في كربلاء‏

الثلاثاء 3 أكتوبر 2017 - 14:39 بتوقيت مكة
 الإمام الحسين عليه السلام: في كربلاء‏

الكوثر _ الشعائر الدينية الاسلامية


 كربلاء
ذكر "ياقوت" أنها لفظة عربية مشتقة من "الكربلة"، وهي رخاوة في القدمين أي الرخوة، أو من التهذيب والنقاوة، أي الأرض المنقاة من الحصى والدغل. أو لأن فيها الكثير من نبات "الكربل" وهو اسم نبات 
الحمّاض 1. 
وذكر "الشهرستاني" أن كربلاء معرّبة من كور بابل أي (قرى بابلية)، وقال الكرملي إنها مؤلفة من كلمتين كرب وإل أي حرم الله. 

وكانت معروفة قبل الفتح العربي لبلاد ما بين النهرين، وقد ذُكرت في كتب التاريخ قبل الفتح 2. فهي قطعاً ليست لفظة عربية. 

فكربلا إذن من القرى القديمة كبابل وأربيل ونينوى، فلعل الاسم بابلي أو آرامي. ثم ورثها أمراء المناذرة وسكان الحيرة بحماية الفرس. وكانت منطقة زراعية تجبى عنها الثمار وتنيخ عنها القوافل. يحدها شرقاً نهر الفرات ومدينة بابل، فهي على مشارف البادية، ومن الشمال الغربي الأنبار، ومن الجنوب الغربي الحيرة عاصمة المناذرة. 

وهي عبارة عن وهدة فسيحة محدودة بسلسلة تلال ممدودة وربوات متصلة من ثلاث جهات مدخلها الجهة الشرقية. 

ولها أسماء أخرى ذكرتها المصادرالتاريخية: مثل الطف أو الطفوف، وطف الفرات أي الشاطئ 3، ونينوى 4، والنواويس، وهي مقابر النصارى 5، والغاضرية.

من 2 محرَّم إلى فجر 10 محرَّم 61هـ
نزل الركب الحسيني أرض كربلاء في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين للهجرة، وكان ذلك في يوم الخميس، على ما هو المشهور القويّ 6. 

وقد عبّر الإمام الحسين عليه السلام عن معرفته العميقة بالأرض وبالتاريخ حيث قال: " إنزلوا، هاهنا مناخ ركابنا، هاهنا تسفك دماؤنا، هاهنا والله تُهتك حريمنا، هاهنا والله تُقتل رجالنا، هاهنا والله تُذبح أطفالنا، هاهنا والله تُزار قبورنا، وبهذه التربة وعدني جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا خُلف لقوله"، ثمّ نزل عن فرسه 7، وضُربت خيمة لأهله وبنيه، وضرب عشيرته خيامهم من حول خيمته 8، ثمّ بقية الأنصار. 

وأقبل الحر بن يزيد حتى نزل حذاء الحسين عليه السلام في ألف فارس ثم كتب إلى عبيد الله بن زياد يخبره أن الحسين نزل بأرض كربلاء 9. 

فلما كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص من الكوفة في أربعة آلاف فارس فنزل بنينوى 10 وهناك انضم إليه الحر بن يزيد الرياحي في ألف فارس، فصار في خمسة آلاف فارس، وما زال ابن  زياد يرسل إليه بالعساكر حتى وصل عدد الجيش الذي استنفر لقتال الحسين عليه السلام إلى ثلاثين ألفاً ما بين فارس وراجل 11. 

عمر بن سعد يتولى قيادة الجيش الأموي
وافق عمر بن سعد بن أبي وقاص على تولي قيادة الجيش الأموي في كربلاء مقابل الوعد بولاية الري، ولم يستمع إلى نصائح الناصحين 12، وفضَّل النار في الآخرة مع ولاية الري في الدنياعلى الجنة. 

وكان عبيد الله بن زياد قد بعث عمر بن سعد على رأس أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة إلى "دستبى" 13، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، وكتب إليه عهده على الريّ وأمره بالخروج، فخرج 
معسكراً بالناس بحمّام أعين، فلما كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان وإقباله إلى الكوفة، دعا ابن زياد عمر بن سعد فقال له: سرْ إلى الحسين، فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرتَ إلى عملك.
فقال له عمر بن سعد: إن رأيت رحمك الله أن تعفيني فافعل! 
فقال عبيد الله بن زياد: نعم على أن ترد إلينا عهدنا!
فانصرف عمر يستشير نصحاءه! فلم يكن يستشير أحداًً إلا نهاه! فأقبل إلى ابن زياد، فقال له: أصلحك الله، إنك وليتني هذا العمل وكتبت لي العهد، وسمع به الناس، فإن رأيت أن تُنفذ لي ذلك فافعل، وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة من لستُ بأغنى ولا أجزأ عنك في الحرب منه. فسمّى له أناساً. 
فقال له ابن زياد: لا تعلمني بأشراف الكوفة، ولستُ أستأمرك فيمن أريد أن أبعث! إن سِرتَ بجندنا وإلا فابعث إلينا بعهدنا. 

فلما رآه قد لجّ، قال: إنّي سائر!..." 14. 

وهكذا وافق عمر بن سعد على قيادة الحرب ضد الإمام الحسين عليه السلام برغم كل النواهي والتحذيرات التي سبق أن بلغت مسامعه الصمّاء، فقد روي أن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام قال له: 

كيف أنت إذ قُمتَ مقاماً تُخير فيه بين الجنة والنار فتختار النار!؟" 15. 

وروي أن عمر بن سعد قال يوماً للإمام الحسين عليه السلام : يا أبا عبد الله، إن قِبلنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك! فقال له الحسين عليه السلام : إنهم ليسوا بسفهاء ولكنهم حلماء، أما إنه تقرّ عيني أن لا تأكل 
من برّ العراق بعدي إلا قليلاًً!".

"وروى عبد الله بن شريك العامري، قال: كنت أسمع أصحاب علي عليه السلام إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين بن علي عليه السلام وذلك قبل أن يُقتل بزمان!"

ولم يكن عمر بن سعد عبد الدنيا فحسب! بل كان ذا ميل وهوى أموي، فقد كان ممن يتقرّب إلى سلطانهم، وكان من جملة الذين كتبوا إلى يزيد بن معاوية في ضعف والي الكوفة النعمان بن بشير أو تضعّفه في 
مواجهة مسلم بن عقيل.

وكان قد نفّذ تعاليم ابن زياد تماماً في قتل الإمام الحسين عليه السلام وفي أن يوطئ الخيل صدره وظهره! 16. 

ولمّا لم ينل، بعد عاشوراء، من ابن زياد ما كان يأمله من ولاية الريّ، والزلفى من السلطان، خرج من مجلس ابن زياد يريد منزله إلى أهله وهويقول في طريقه: ما رجع أحدٌ مثل ما رجعت! أطعتُ الفاسق ابن 
زياد، الظالم ابن الفاجر! وعصيت الحاكم العدل! وقطعت القرابة الشريفة!

وهجره الناس، وكلّما مرّ على ملأ من الناس أعرضوا عنه، وكلما دخل المسجد خرج الناس منه، وكل من رآه قد سبّه! فلزم بيته إلى أن قُتل 17. 

رُسُل عمر بن سعد إلى الإمام عليه السلام 
بعد أن استلم عمر بن سعد قيادة العمليات ضد الإمام الحسين عليه السلام ووصل إلى كربلاء، بعث إليه عزرة بن قيس الأحمسي وقال له: ائته فسله ما الذي جاء به وماذا يريد، وكان عزرة ممن كتب إلى الحسين فاستحيا منه أن يأتيه، فعرض عمر بن سعد ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه فكلهم أبى وكرهه. 
وقام إليه كثير به عبد الله الشعبي، فقال: أنا أذهب إليه !! والله لئن شئت لأفتكنّ به فقال له عمر بن سعد: ما أريد أن يفتك به ولكن ائته فسله ما الذى جاء به!!
فأقبل كثير إلى الإمام عليه السلام ، فلما رآه أبو ثمامة الصائدي قال للحسين عليه السلام : أصلحك الله أبا عبد الله، قد جاءك شر أهل الأرض وأجرأه على دم وأفتكه!! 
فقام أبو ثمامة إليه فقال له: ضع سيفك !!
قال: لا والله ولا كرامة، إنما أنا رسول فإن سمعتم مني أبلغتكم ما أرسلت به اليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم!! 
فقال له: فإني آخذ بقائم سيفك ثم تكلم بحاجتك !
قال: لا والله لا تمسه!
فقال له: أخبرني ما جئت به وأنا أبلغه عنك ولا أدعك تدنو منه فإنك فاجر! فاستبا 18 !! ثم انصرف كثير إلى عمر ابن سعد فأخبره الخبر، فدعا عمر قرة بن قيس الحنظلي فقال له: ويحك يا قرة، القَ حسيناً 
فسله ما جاء به وماذا يريد!! 
فأتاه قرة بن قيس، فلما رآه الحسين مقبلاً قال أتعرفون هذا ؟؟ 
فقال حبيب بن مظاهر: نعم !! هذا رجل من حنظلة، تميمي، وهو ابن أختنا، ولقد كنت أعرفه بحسن الرأي وما كنت أراه يشهد هذا المشهد.
فجاء حتى سلَّم على الحسين عليه السلام وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه له فقال الحسين عليه السلام : " كتب إليَّ أهل مصركم هذا أن أقدم فأما إذ كرهوني فأنا أنصرف عنهم". 
ثم قال حبيب ابن مظاهر لقرة بن قيس: ويحك يا قرة بن قيس، أنَّى ترجع إلى القوم الظالمين، انصر هذا الرجل الذى بآبائه أيدَّك الله بالكرامة وإيانا معك !!
فقال له قرة: أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي، فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر، فقال له عمر بن سعد إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله.
وكتب عمر بن سعد إلى عبيدالله بن زياد:
أمّا بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عما أقدمه وماذا يطلب ويسأل، فقال:كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم 
فأنا منصرف عنهم. 
فلما قرئ الكتاب على ابن زياد قال: 
الآن إذ عــلقـت مخالـــبنا بـــــه يرجو النجاة ولات حين مناص وكتب إلى عمر بن سعد: أما بعد، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا، والسلام.
فلما أتى عمر بن سعد الكتاب قال: قد حسبت ألا يقبل ابن زياد العافية 19. 
فأرسل عمر بن سعد بكتاب ابن زياد إلى الحسين عليه السلام ! 
فقال الحسين عليه السلام للرسول: لا أجيب ابن زياد إلى ذلك أبداًً، فهل هو إلا الموت؟ فمرحباًً به!
فكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بذلك، فغضب، فخرج بجميع أصحابه إلى النخيلة 20

الإمام الحسين عليه السلام يشتري أرض نينوى
"روي أن الحسين عليه السلام اشترى النواحي التي فيها قبره من أهل نينوى والغاضرية بستين ألف درهم، وتصدق عليهم وشرط أن يُرشدوا إلى قبره، ويُضيّفوا من زاره ثلاثة أيام"، ثم بيّن في ذيل الخبر مقدار 
مساحة تلك الأراضي، وأنها هي حرم الحسين عليه السلام بقوله: "قال الصادق عليه السلام : حرم الحسين عليه السلام الذي اشتراه أربعة أميال في أربعة أميال، فهو حلال لولده ومواليه، حرام على غيرهم ممن 
خالفهم، وفيه البركة"، وإنما صارت حلالاً بعد الصدقة لأنهم لم يفوا بالشرط 21.

ابن زياد يعبّئ الكوفة لقتال الحسين عليه السلام
كان الحر بن يزيد الرياحي قد كتب إلى ابن زياد، بعد نزول الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، يخبره بذلك، فكتب ابن زياد عندئذٍ إلى الإمام الحسين عليه السلام : "أما بعدُ يا حسين، فقد بلغني نزولك بكربلاء، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية أن لا أتوسّد الوثير ولا أشبع من الخمير، أو ألحقك اللطيف الخبير! أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية. 
فلمّا ورد الكتاب قرأه الحسين ثمّ رمى به، ثمّ قال: لا أفلح قومٌ آثروا مرضاة أنفسهم على مرضاة الخالق! فقال له الرسول: أبا عبد الله! جواب الكتاب؟ 
قال: ما له عندي جواب، لأنه قد حقَّت عليه كلمة العذاب! 
فقال الرسول لابن زياد ذلك، فغضب من ذلك أشدّ الغضب... 22. ثم جمع الناس في مسجد الكوفة، ثم خرج فصعد المنبر، فقال: أيّها الناس، إنكم قد بلوتم آل سفيان فوجدتموهم على ما تحبّون، وهذا يزيد قد عرفتموه أنه حسن السيرة، محمود الطريقة، محسن إلى الرعية، متعاهد الثغور، يعطي العطاء في حقّه، حتى أنه كان أبوه كذلك! وقد زاد أمير المؤمنين في إكرامكم، وكتب إليّ يزيد بن معاوية بأربعة آلاف ديناًر ومائتي ألف درهم 23 أفرّقها عليكم وأخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين بن علي! فاسمعوا وأطيعوا، والسلام. 

ثم إن ابن زياد أمر عمر بن سعد بتولي قيادة الجيوش لقتال الإمام عليه السلام ، فخرج، بعد ترددٍ، في أربعة آلاف حتى نزل كربلاء في الثالث من المحرّم، وانضمّ إليه الحر مع ألف فارس هناك، فصار في خمسة آلاف فارس.

"ولما سرّح ابن زياد عمر بن سعد، خرج إلى النخيلة واستخلّف على الكوفة عمرو بن حريث 24، وأمر الناس فعسكروا بالنخيلة، وأمر ألا يتخلّف أحدٌ منهم، فلا يبقين رجل من العرفاء والمناكب والتجّار والسكان إلا خرج فعسكر معي! فأيّما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلّفاً عن العسكر برئت منه الذمة!"

ثمّ دعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثي، ومحمّد بن الأشعث بن قيس، والقعقاع بن سويد، وأسماء بن خارجة الفزاري، وقال: طوفوا في الناس فمروهم بالطاعة والاستقامة، وخوّفوهم عواقب الأمور والفتنة والمعصية! وحثّوهم على العسكرة! 

فخرجوا يعذروا، وداروا بالكوفة، وفيما كان القعقاع بن سويد يتطوف بالكوفة في خيل، وجد رجلاًً من همدان قد قدم يطلب ميراثاً له بالكوفة 25، فأتى به ابن زياد فقتله! فلم يبق بالكوفة محتلم إلا خرج إلى العسكر بالنخيلة. ثم لحقوا جميعاًً بابن زياد، غير كثير بن شهاب فإنه كان مبالغاً يدور بالكوفة يأمر الناس بالجماعة ويحذّرهم الفتنة والفرقة، ويخذِّل عن الحسين! 

وبعث ابن زياد أيضاً إلى الحصين بن نمير السكوني وكان بالقادسية في أربعة آلاف، فقدم النخيلة في جميع من معه، فسرّحه ابن زياد في الأربعة آلاف الذين كانوا معه إلى الحسين عليه السلام بعد شخوص عمر بن سعد بيوم أو يومين. 

اكتمال تعبئة الكوفة لقتال الإمام عليه السلام في السادس من المحرّم
كان الشمر بن ذي الجوشن السلولي أول من خرج إلى عمر بن سعد في أربعة آلاف فارس، فصار في تسعة آلاف، ثم أتبعه زيد (يزيد) بن ركاب الكلبي في ألفين، والحصين بن نمير السكوني في أربعة آلاف، والمصاب الماري في ثلاثة آلاف، ونصر بن حربة في ألفين، فتم له عشرون ألفاً، ثم بعث ابن زياد إلى شبث بن ربعي الرياحي.. فاعتل بمرضٍ، فقال له ابن زياد: أتتمارض؟ إن كنت في طاعتنا فأخرج إلى قتال عدوّنا، فخرج إلى عمر بن سعد في ألف فارس بعد أن أكرمه ابن زياد وأعطاه وحباه، وأتبعه بحجّار بن أبجر في ألف فارس، ووجّه أيضاً يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم في ألف أو أقلّ، فصار عمر بن سعد في إثننين وعشرين ألفاً من بين فارس وراجل" 26. وكان الرجل يُبعث في ألف فلا يصل إلا في ثلاثمائة أو أربعمائة وأقلّ من ذلك كراهة منهم لهذا الوجه 27! 

ثم جعل ابن زياد يُرسل العشرين والثلاثين والخمسين إلى المائة، غدوة وضحوة ونصف النهار وعشيّة، من النخيلة يمدُّ بهم عمر بن سعد، حتى تكامل عنده، لستٍّ مضين من المحرّم، ثلاثون ألفاً ما بين فارس وراجل" 28. 

ووضع ابن زياد المناظر على الكوفة لئلاّ يجوز أحدٌ من العسكر مخافة لأن يلحق الحسين مغيثاً له! ورتّب المسالح حولها، ورتب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلاً مضمرة مقدحة! فكان خبر ما قِبَلِه يأتيه في كل وقت" 29. 

وهمّ عمّار بن أبي سلامة الدالاني أن يفتك بعبيد الله بن زياد في عسكره بالنخيلة، فلم يمكنه ذلك، فلطف حتى لحق بالحسين فقُتل معه! 30، وكان قد شهد المشاهد مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام 31.

وكان عبد الله بن عمير الكلبي قد نزل الكوفة، واتخذ عند بئر الجعد من همدان داراً وكانت معه امرأة له، يقال لها أم وهب بنت عبد، فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين، فسأل عنهم فقيل له 
يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: والله لو قد كنت على جهاد أهل الشرك حريصاً وإني لأرجو ألا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثواباً عند الله 
من ثوابه إياي في جهاد المشركين، فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع وأعلمها بما يريد، فقالت: أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك، فخرج بها ليلاً حتى أتى حسيناً عليه السلام فأقام معه 32. 

خطبة للإمام عليه السلام في أصحابه
لما نزل عمر بن سعد بالإمام الحسين عليه السلام ، وأيقن أنهم قاتلوه قام في أصحابه خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: 
"قد نزل بنا ما ترون من الأمر، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت حتى لم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء! وإلّا خسيس عيش كالمرعى الوبيل!، ألا ترون أنّ الحق لا يُعمل به! وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه! ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة! والحياة مع الظالمين إلّا برما" 33. 

حبيب بن مظاهر يستنفر حياً من بني أسد لنصرة الإمام
في السادس من محرّم، وبعد أن التأمت العساكر عند عمر بن سعد، جاء حبيب بن مظاهر الأسدي إلى الحسين عليه السلام فقال له: يا ابن رسول الله! إن هاهنا حياً من بني أسد قريباً منا، أفتأذن لي بالمسير إليهم الليلة أدعوهم إلى نصرتك، فعسى الله أن يدفع بهم عنك بعض ما تكره؟ فقال له الحسين عليه السلام : قد أذنت لك.فخرج إليهم حبيب من معسكر الحسين عليه السلام في جوف الليل متنكراً، حتى صار إليهم فحياهم وحيوه وعرفوه. 

فقالوا له: ما حاجتك ياابن عم؟

قال: حاجتي إليكم أني قد أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قومٍ قط، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت نبيّكم، فإنه في عصابة من المؤمنين، الرجل منهم خيرٌ من ألف رجل، لن يخذلوه ولن يُسلموه وفيهم عين تطرف! وهذا عمر بن سعد قد أحاط به، وأنتم قومي وعشيرتي وقد أتيتكم بهذه النصيحة، فأطيعوني اليوم تنالوا شرف الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فإني أقسم بالله لا يُقتل منكم رجل مع ابن بنت رسول الله محتسباً إلا كان رفيق محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في أعلى عليين. 

لقد نجح حبيب بن مظاهر نجاحاً جزئياً في محاولته تعبئة بني أسد لنصرة الإمام الحسين عليه السلام ، فانضم إليه ثلة منهم، ولكن جاسوساً كان بينهم أوصل خبر ذلك إلى عمر بن سعد فاختار أحد رجاله وضم إليه أربعمائة فارس، ووجه به إلى حي بني أسد مع ذلك الذي جاء بالخبر، فبينما أولئك القوم من بني أسد قد أقبلوا في جوف الليل مع حبيب يريدون عسكر الحسين إذ استقبلتهم خيل ابن سعد على شاطئ الفرات، وكان بينهم وبين معسكر الحسين اليسير، فتناوش الفريقان واقتتلوا. 

وعلمت بنو أسد أن لا طاقة لهم بخيل ابن سعد فانهزموا راجعين إلى حيّهم! ثمّ تحملوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يكبسهم، ورجع حبيب إلى الحسين عليه السلام فأخبره، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!" 34.

وفي اليوم السابع من المحرّم
رجعت تلك الخيل حتى نزلت على الفرات، وحالوا بين الحسين عليه السلام وأصحابه وبين الماء، فأضرّ العطش بالحسين وبمن معه، فأخذ الحسين عليه السلام فأساً، وجاء إلى وراء خيمة النساء، فخطا على الأرض تسع عشرة خطوة نحو القبلة، ثم احتفر هناك فنبعت له هناك عين من الماء العذب! فشرب الحسين وشرب الناس بأجمعهم! وملأوا أسقيتهم، ثم غارت العين فلم يُرَ لها أثر!. 
وبلغ ذلك إلى عبيد الله فكتب إلى عمر بن سعد: بلغني أن الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه، فانظر إذا ورد عليك كتابي هذا فحل بين الحسين عليه السلام وأصحابه وبين الماء، فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت، وضيّق عليهم ولا تدعهم أن يذوقوا من الماء قطرة! وافعل بهم كما فعلوا بالزكيّ عثمان! والسلام.

فلما ورد على عمر بن سعد ذلك أمر عمرو بن الحجاج أن يسير في خمسمائة راكب، فينيخ على الشريعة، ويحولوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، وذلك قبل مقتله عليه السلام بثلاثة أيام، فمكث أصحاب الحسين عطاشى 35. 

ونادى أحد أوباش اهل الكوفة: يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله لا تذوقون منه قطرة واحدة حتى تموتوا عطشاً، فقال الحسين عليه السلام : " اللهم أقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً ". 

وروى من رآه بعد معركة كربلاء، فقال إنه رآه يشرب الماء حتى يبغر 36 ثم يقيئه، ويصيح: العطش العطش، ثم يعود فيشرب الماء حتى يبغر ثم يقيئه ويتلظى عطشاً، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ نفسه 37. 

ولما اشتد على الحسين عليه السلام وأصحابه العطش دعا العباس 38 بن علي بن أبي طالب عليه السلام أخاه، فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حتى دنوا من الماء ليلاً، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي، فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي: من الرجل؟ فجِيءْ! ما جاء بك؟ 

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. 

قال: فاشرب هنيئاً. 

قال: لا والله، لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه! فطلعوا عليه. 

فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء! إنما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء! 

فلما دنا منه أصحابه قال لرجاله: املأوا قربكم. فدهم العباس على الشريعة بمن معه حتى أزالوهم عنها، واقتحم رجالة الحسين الماء، فملأوا قربهم، ووقف العباس في أصحابه يذبون عنهم، فثار إليهم عمروبن الحجاج وأصحابه، فحمل عليهم العباس بن علي ونافع بن هلال، فاقتتلوا على الماء قتالاًً عظيماً، فكان قومٌ يقتتلون وقوم يملؤون القرب حتى ملؤها، فقُتل من أصحاب عمرو جماعة ولم يقتل من أصحاب الحسين أحد، ثم رجع القوم إلى معسكرهم وشرب الحسين من القرب ومن كان معه 39.

المحاورة بين الإمام عليه السلام وبين عمر بن سعد
"ثم أرسل الحسين عليه السلام إلى عمر بن سعد: إني أريد أن أكلمك، فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك، فخرج إليه عمر بن سعد في عشرين فارساً، وأقبل الحسين في مثل ذلك، فلما التقيا أمر الحسين أصحابه فتنحوا عنه، وبقي معه أخوه العباس وابنه عليّ الأكبر، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحوا، وبقي معه حفص ابنه وغلام له يُقال له لاحق 40. 

فقال له الإمام الحسين عليه السلام : ويحك يا ابن سعد! أما تتقي الله الذي إليه معادك أن تقاتلني، وأنا ابن من علمت ياهذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !؟ فاترك هؤلاء وكن معي، فإني أقرّبك إلى الله عز وجل. 

فقال له عمر بن سعد: أخاف أن تُهدم داري! 

فقال له الحسين عليه السلام : أنا أبنيها لك. 

فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي! 

فقال الحسين: أنا أخلف عليك خيراًً منها من مالي بالحجاز. 

فقال: لي عيال أخاف عليهم! 

فقال: أنا أضمن سلامتهم.

قال فلم يجب عمر إلى شيء من ذلك! فانصرف عنه الحسين عليه السلام وهو يقول: مالك!؟ ذبحك الله على فراشك سريعاً عاجلاً! ولا غفر الله لك يوم حشرك ونشرك! فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلا يسيراً 41.

"فقال له عمر: يا أبا عبد الله! في الشعير عوض عن البرّ!! ثم رجع عمر إلى معسكره"42. 

"وتحدّث الناس فيما بينهما ظنّاً يظنونه أن حسيناًً قال لعمر بن سعد: أخرج معي إلى يزيد بن معاوية! وندع العسكرين! قال عمر: إذن تُهدم داري، قال: أنا أبنيها لك، قال: إذن تؤخذ ضياعي! قال: إذن أعطيك خيراًً منها من مالي بالحجاز. فتكرّه عمر، فتحدث الناس بذلك وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئاًً ولا علموه!" 43. 

ويحاول الطبري، على مذهبه في محاولة المصالحة بين الدين ودنيا السلاطين، إضفاء حالة من الصدقية على يزيد بن معاوية، وأن الإمام الحسين عليه السلام كان مستعداً لمصالحته، وأن المجرم القاتل هو عبيد الله بن زياد، ثم يجعل الطبري ذلك على عهدة المحدّثين، بل "هو ما عليه جماعة المحدّثين"! وهو أن الإمام الحسين عليه السلام قال لهم: اختاروا مني خصالاً ثلاثاً، إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه!، وإما أن تسيروني إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم، فأكون رجلاًً من أهل، لي ما لهم وعليّ ما عليهم" 44. 

لكن شاهد عيان، وهو عقبة بن سمعان مولى الرباب زوج الإمام الحسين عليه السلام ، وكان ممن صحب الإمام من المدينة إلى كربلاء، وكان في خدمة الإمام فلم يغب عن شيء مما خاطب الإمام به الناس!.. 

يروي الحقيقة، ويقول:

"صحبت حسيناًً، فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية! ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين! ولكنه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير إليه أمر الناس" 45. 

عمر بن سعد يفتري على الإمام عليه السلام لينجو
لا شك أن عمر بن سعد، كغيره من مجرمي جيش ابن زياد، كان يعلم بأحقية الإمام عليه السلام بهذا الأمر! كما كان يعلم بما لا يرتاب فيه بالعار والسقوط اللذين سيلحقانه مدى الدهر إذا ما قتل الإمام عليه السلام في هذه المواجهة التي صار هو فيها على رأس الجيش الأموي! ولكنه كان في باطنه أيضاً أسير رغبته الجامحة في ولاية الريّ! من هنا فقد سعى إلى أن يجد المخرج من هذه الورطة فيُعافى من ارتكاب جريمة قتل الإمام عليه السلام ، ولا يخسر أمنيته في ولاية الري. فكتب، بعد لقائه مع الإمام عليه السلام ، إلى ابن زياد كتاباًً نصّه: "أما بعد، فإن الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة! هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه، أو أن يسير(نسيّره) إلى (أي) ثغر من الثغور(شيئنا)، فيكون رجلاًً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضىً وللأمة صلاح" 46

فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه! نعم قبلت! 

ولكن الشمر بن ذي الجوشن، تقرباً منه إلى ابن زياد بدم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإبطاءً لخطة عمر بن سعد وطمعاً بأن يكون هو أمير الجيش في كربلاء، قال لابن زياد: أتقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك إلى جنبك!؟ والله لئن رحل من بلدك ولم يضع يده في يدك ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّ، ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت وليُّ العقوبة (أولى بالعقوبة)، وإن غفرت كان ذلك لك! والله لقد بلغني أن حسيناًً وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدّثان عامّة الليل! 

فقال له ابن زياد: نِعْم ما رأيت، الرأي رأيك!!"

ثم إن عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن، فقال له: اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد، فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي! فإن فعلوا فليبعث بهم إليّ سلماً! وإن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن هو أبى فقاتلهم فأنت أمير الناس، وَثِبْ عليه فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه!" 47.

وكان كتاب ابن زياد لعمر بن سعد: "أمّا بعدُ، فإنّي لم أبعثك إلى حسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعاً، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقون، فإن قُتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنّه عاقٌّ مشاقٌّ قاطع ظلوم، ولستُ أرى في هذا أن يضرّ بعد الموت شيئاًً، ولكن عليّ قول لو قد قتلته فعلتُ هذا له! فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام"48.

وفي اليوم التاسع من المحرّم الحرام
أقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد، فلما قدم به عليه فقرأه قال له عمر: يا أبرص ! ما لك؟ ويلك، لا قرّب الله دارك، ولا سهّل محلتك، وقبّحك، وقبّح ما قدمتَ به عليّ، والله إني لأظنّك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبتُ به إليه، أفسدت علينا أمراً كنّا رجونا أن يصلح، لا يستسلم واللهِ حسينٌ، إنّ نفساً أبية لبين جنبيه. 

فقال له شمر: أخبرني ما أنت صانع!؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوّه؟ وإلا فخلِّ بيني وبين الجند والعسكر. 

قال: لا، ولا كرامة لك، وأنا أتولّى ذلك، فدونك، فكن أنت على الرجالة 49.

ابن زياد يكتب أماناً لأبي الفضل العباس عليه السلام وإخوته 50

لما قبض شمر بن ذى الجوش الكتاب قام هو وعبد الله بن أبي المحل، وكانت عمته أم البنين ابنة حزام عند أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السلام ، فولدت له العباس وعبد الله وجعفراً وعثمان، فقال عبد الله بن أبي المحل الكلبي لعبيد الله بن زياد: أصلح الله الأمير إن بني أختنا مع الحسين، فإن رأيت أن تكتب لهم أماناً فعلت !! قال: نعم ونعمة عين !! فأمر كاتبه فكتب له أماناً. 

وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين عليه السلام فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعبدالله وعثمان بنو علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقالوا له: ما تريد؟ 

فقال: أنتم يا بني أختي آمنون. 

فقال له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك ! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له 51!؟

ثم إن عمر بن سعد نفر بجيشه لقتال الإمام عليه السلام "فنهض إليه عشيّة الخميس لتسع مضين من المحرم" 52، ونادى: يا خيل الله اركبي وأبشري! 

فركب في الناس، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر، والحسين عليه السلام جالس أمام بيته محتبياً سيفه، فقال العباس: يا أخي، أتاك القوم! فنهض الإمام عليه السلام وقال: يا عبّاس، اركب بنفسي أنت يا أخي! حتى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم، وما بدا لكم، وتسألهم عمّا جاء بهم! 

فأتاهم العباس عليه السلام ، فاستقبلهم في نحو من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العباس: ما بدا لكم وما تريدون؟ 

قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم! 

قال: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. 

فوقفوا، ثم قالوا: إلقَه فأعلمه ذلك، ثم القنا بما يقول. 

فانصرف العباس عليه السلام راجعاً يركض إلى الحسين عليه السلام يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم. 

وأتى العباس حسيناًً عليه السلام بما عرض عليه عمر بن سعد، فقال له الإمام عليه السلام : إرجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشية، لعلنا نصليّ لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والإستغفار" 53. 

ولماّ ركض العباس إلى الحسين عليه السلام يخبره بالخبر، وقف أصحابه يخاطبون القوم فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين: كلّم القوم إن شئت، وإن شئت كلمتهم !! 

فقال له زهير: أنت بدأت بهذا فكن أنت الذي تكلمهم !!

فقال لهم حبيب بن مظاهر: أما والله لبئس القوم عند الله غداً، قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه عليه السلام وعترته وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم وعباد أهل هذا المصر، المجتهدين بالأسحار، والذاكرين الله كثيرا !!

فقال له عزرة بن قيس: إنك لتزكي نفسك ما استطعت !!

فقال له زهير: يا عزرة ! إن الله قد زكاها وهداها، فاتقِ الله يا عزرة، فإني لك من الناصحين، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية! قال عزرة: يا زهير ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت إنما كنت عثمانياً !!

فقال له زهير: أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم ؟ أما والله ما كتبت إليه كتاباً قط، ولا أرسلت إليه رسولاً قط، ولا وعدته نصرتي قط !! ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رأيته ذكرت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم، فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله 54. 

وهنا، أقبل العباس عليه السلام يركض حتى انتهى إليهم، فقال لهم: يا هؤلاء! إن أبا عبدالله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتى ينظر في هذا الأمر، فإن هذا أمرٌ لم يحر بينكم وبينه فيه منطقٌ فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه! أو كرهنا فرددناه 55. 

والظاهر أن رسولاً من طليعة الجيش الأموي نقل طلب الإمام عليه السلام إلى عمر بن سعد، فقال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر ؟؟ 

قال: ما ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك !!

قال: قد أردت ألا أكون! 

ثم أقبل على الناس، فقال: ماذا ترون ؟؟ 

فقال عمرو بن الحجاج: سبحان الله ! والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها !

وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة، فوافق عمر بن سعد على طلب الإمام عليه السلام وأرسل رسولاً من قبله، فقام من معسكر الإمام الحسين عليه السلام مثل حيث يُسمع الصوت فقال: إنا قد أجّلناكم إلى غدٍ، فإن استسلمتم سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا بتاركيكم" 56. فانصرف الفريقان بعضهم من بعض 57. 

لقد سعى الإمام الحسين عليه السلام ألا يُقتل في ظروف زمانية ومكانية وبكيفية يختارها ويخطط لها ويُعدّها العدو، وسعى عليه السلام أن يتحقق مصرعه الذي لا بد منه على أرضٍ يختارها هو، وبحيث لا يتمكّن العدوّ فيها أن يعتّم على مصرعه فتختنق الأهداف المرجوّة من رواء هذا المصرع الذي سيهزّ الأعماق في وجدان الأمة ويحرّكها بالاتجاه الذي أراد الحسين عليه السلام ، كما سعى أن تجري وقائع المأساة في وضح النهار لا في ظلمة الليل، ليرى جريان وقائعها أكبر عدد من الشهود، فلا يتمكّن العدو من أن يعتّم على هذه الوقائع الفجيعة ويغطي عليها، وهذا هو الهدف المنشود من وراء العامل الإعلامي والتبليغي في طلب الإمام عليه السلام عصر تاسوعاء أن يمهلوه إلى صبيحة عاشوراء. 

لقد كان النهار عاملاً مهماً من عوامل نجاح حفظ حقيقة فاجعة الطف كما هي وبكل تفاصيلها، إذ لو كانت قد حصلت الواقعة في ليل لغطّت ظلمته على جل تفاصيلها المفجعة وبطولاتها المشرقة، ولَمَا رأى من حضرها إلا نزراً قليلاًً من وقائعها، ثمّ، لَمَا بلغنا منها إلا حكاية مبهمة وجيزة لا تحمل في طيّاتها من الفعل والتأثير إلا شيئاًً يسيراً. 

ثم كانت ليلة عاشوراء 
وفي تلك الليلة أحلّ الإمام الحسين عليه السلام أصحابه من بيعته وطلب منهم الإنسحاب على أن يسحبوا معهم أهل بيته، إلا أنهم رفضوا جميعاًً وصمّموا على القتال والإستشهاد معه.

يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام : جمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي وهو يقول لأصحابه: 

"أثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السراًء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد ! فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراًً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً خيراًً 58، ألا وإنّي أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداًً، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً 59، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإنّ القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري" !!

فقال له إخوته، وأبناؤه، وبنو أخيه، وأبناء عبد الله ابن جعفر: لم نفعل ؟ لنبقى بعدك ؟ لا أرانا الله ذلك أبداًً !! بدأهم بهذا القول العباس ابن علي عليه السلام ، ثم إنهم تكلموا بهذا ونحوه، فقال الحسين عليه السلام : يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم !! إذهبوا قد أذنت لكم !! 

قالوا: فما يقول الناس ؟؟ يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الاعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا !! لا والله !! لا نفعل ! ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا !! ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك !!

فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نخلّي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقك ؟؟ أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك !!

وقال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيك !! والله لو علمت أنّي أقتل، ثم أحيا، ثم أحرق حياً، ثم أذر !! يفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداًً. 

وقال زهير بن القين: والله لوددت أنّي قتلت ثم نشرت، ثم قتلت، حتى أقتل كذا ألف قتلة وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك 60. 

وقيل لمحمّد بن بشير الحضرمي، وهو مع الحسين عليه السلام في كربلاء: قد أسر ابنك بثغر الري. قال: عند الله أحتسبه ونفسي ما كنت أحب أن يؤسر ولا أن أبقى بعده. فسمع قوله الحسين عليه السلام فقال له: رحمك الله أنت في حل من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك ! قال: أكلتني السباع حياً إن فارقتك!!! قال: فأعط ابنك هذه الاثواب البرود تستعين بها في فداء أخيه. فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف ديناًر 61. 

وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد، فقالوا: والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيديناً فإذا نحن قتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا 62. 

فقال الحسين عليه السلام حينئذٍ لأصحابه: إنّكم تقتلون غداً كلّكم ولا يفلت منكم رجل! 

فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك، أو لا نرضى أن نكون معك في درجتك يابن رسول الله ؟ 

فقال: جزاكم الله خيراًً، ودعا لهم بخير. 

فقال له القاسم بن الحسن عليه السلام : وأنا فيمن يقتل؟ 

فاشفق عليه، فقال له: يا بنيّ كيف الموت عندك ؟! 

قال: يا عم !! أحلى من العسل. 

فقال: إي والله فداك عمك إنك لأحد من يقتل من الرجال معي، بعد أن تبلو ببلاء عظيم، وابني عبد الله. 

فقال: يا عم ويصلون إلى النساء حتى يقتل عبد الله وهو رضيع ؟ 

فقال: فداك عمك يقتل عبد الله، إذا جفت روحي عطشاً، وصرت إلى خيمنا فطلبت ماءً ولبناً فلا أجد قط فأقول: ناولوني إبني، لأشرب من فيه، فيأتوني به، فيضعونه على يدي، فأحمله لأدنيه من فيّ، فيرميه فاسق، لعنه الله، بسهم فينحره، وهو يناغي، فيفيض دمه في كفي، فارفعه إلى السماء، وأقول: اللهم صبراً واحتساباً فيك، فتعجلني الأسنة منهم، والنار تستعر في الخندق الذي فيه ظهر الخيم، فأكرّ عليهم في أمرّ أوقات في الدنيا، فيكون ما يريد الله !!

فبكى وبكينا، وارتفع البكاء والصراخ من ذراري رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم ، في الخيم، ويسأل زهير ابن القين، وحبيب بن مظاهر، عني، فيقولون: يا سيدنا ! فسيدنا علي،فيشيرون إليّ ! ماذا يكون من حاله ؟ فيقول، مستعبراً: ما كان الله ليقطع نسلي من الدنيا، فكيف يصلون إليه وهو أب ثمانية أئمة ؟ 63 

قالوا: الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك. 

ثم دعا فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا، فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنة، وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان 64. 

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له أخبرني عن أصحاب الحسين عليه السلام وإقدامهم على الموت !! فقال: إنهم كشف لهم الغطاء حتى رأوا منازلهم من الجنة، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها وإلى مكانه من الجنة. 65 فشهداء الطف إذن أعلى مقاماً وأشرف رتبة حتى من شهداء بدر 66. ولسمو منزلتهم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حفر لهم قبورهم 67!

برير يحاول التأثير في عمر بن سعد
ثم قال برير بن خضير الهمداني للحسين عليه السلام : إئذن لى يا ابن رسول الله أن آتي هذا الفاسق عمر ابن سعد فأكلمه، (في أمر الماء)، فعساه يرتدع فقال له: ذلك إليك.

فجاء برير إلى عمر بن سعد، فدخل عليه فلم يسلِّم عليه، فقال ابن سعد: يا أخا همدان ما منعك من السلام عليّ ألست مسلماًً أعرف الله ورسوله ؟ 

فقال له برير: " لو كنت مسلماًً كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول الله صلّى الله عليه وآله تريد قتلهم ! وبعد، هذا ماء الفرات تشرب منه كلاب السواد وخنازيرها وهذا الحسين بن علي وأخوته ونساؤه وأهل بيته يموتون عطشاً قد حلت بينهم وبين ماء الفرات أن يشربوه وأنت تزعم أنك تعرف الله ورسوله ؟؟ 

فأطرق عمر بن سعد (ساعة إلى الأرض، ثم رفع رأسه ثم قال: والله يا أخا همدان إني لأعلم ( يقيناً أن كل من قاتلهم وغصبهم حقهم هو في النار لا محالة) حرمة أذاهم، ولكن، (يا برير، أفتشير عليّ أن أتركلاية الري فتكون لغيري ؟ فوالله ما أجد نفسي تجيبني لذلك، ثم أنشأ يقول:

دعـاني عبيد الله من دون قومـه إلى خطة فيها خرجت لـحيني

فـو الله لا أدري وإنـي لـواقف علـى خــطر لا أرتضيه ومين

أأترك ملك الري والـري رغبة أم أرجـع مأثوماً بقتـل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب وملك الري قرة عيني


فرجع برير فقال للحسين عليه السلام : يا ابن رسول الله !! قد رضي أن يقتلك بولاية الري 68. 

يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام : إني جالس في تلك العشية التي قتل أبي صبيحتها، وعمتي زينب عندي تمرضني، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له وعنده حوي مولى أبى ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:

يا دهـر أفٍ لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيل 

من صاحبٍ أو طالبٍ قتيل والدهـر لا يقنـع بالبـديل 

وإنـما الأمـر إلى الجليل وكـل حي سالك السبيـل 

فأعادها مرتين أو ثلاثاً حتى فهمتها فعرفت ما أراد، فخنقتنى عبرتي فرددت دمعي ولزمت السكون، فعلمت أن البلاء قد نزل، فأما عمتي فإنها سمعت ما سمعت، وهي امرأة، وفى النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وإنها لحاسرة، حتى انتهت إليه فقالت: واثكلاه !! ليت الموت أعدمنى الحياة، اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي وحسن أخي!! يا خليفة الماضي وثمال الباقي !!

فنظر إليها الحسين عليه السلام فقال: يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان !! وترقرقت عيناه، وقال: لو ترك القطا لنام !!

قالت: يا ويلتى! أفتغتصب نفسك اغتصاباً، فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي!! 

فقال لها الحسين عليه السلام : " يا أخيّة اتقي الله وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأنّ أهل السماء لا يبقون، وأنّ كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته ويبعث الخلق فيعودون، وهو فرد وحده، أبي خير منّي وأميّ خير منّي وأخي خير منّي، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة". 

فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: " يا أخيّة إنّي أقسم عليك فأبري قسمي!! لا تشقّي عليّ جيباً ولا تخمشي عليّ وجهاً ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت!!

ثم جاء بها حتى أجلسها عندي، وخرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا هم بين يدي البيوت إلا الوجه الذى يأتيهم منه عدوهم، فيستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم، إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم 69.

وخرج الحسين عليه السلام في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي فسأله الحسين عليه السلام عما أخرجه ! قال: يا ابن رسول الله أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي !! 

فقال الحسين عليه السلام : إني خرجت أتفقد التلاع والروابي مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون! 

ثم رجع عليه السلام وهو قابض على يد نافع ويقول: هي هي والله وعد لا خلف فيه، ثم قال له: ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟ فوقع نافع على قدميه يقبلهما ويقول: ثكلتني أمي، إن سيفي بألف وفرسي مثله، فوالله الذي منّ بك علي لا فارقتك حتى يكلاَّ عن فري وجري. 

ثم دخل الحسين عليه السلام خيمة زينب، ووقف نافع إزاء الخيمة ينتظره فسمع زينب تقول له: هل استعلمت من أصحابك نياتهم؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة. 

فقال لها: والله لقد بلوتهم فما وجدت إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه. 

قال نافع: فلما سمعت هذا منه بكيت وأتيت حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن أخته زينب. 

قال حبيب: والله لولا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة !

قال نافع: إني خلفته عند أخته، وأظن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة ! فهل لك أن تجمع أصحابك وتواجههن بكلام يطيّب قلوبهن؟؟ 

فقام حبيب ونادى: 
يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة !! 

فتطالعوا من مضاربهم كالأسود الضارية ! فقال لبني هاشم: ارجعوا إلى مقركم لا سهرت عيونكم. ثم التفت إلى أصحابه وحكى لهم ما شاهده وسمعه نافع فقالوا بأجمعهم والله الذي منّ علينا بهذا الموقف لولا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا الساعة! فطب نفساً وقرَّ عيناً فجزاهم خيراًً. 

وقال: هلموا معي لنواجه النسوة ونطيب خاطرهن، فجاء حبيب ومعه أصحابه وقال: يا معشر حرائر رسول الله هذه صوارم فتيانكم آلوا ألا يغمدوها إلا في رقاب من يريد السوء فيكم، وهذه أسنة غلمانكم أقسموا ألا يركزوها إلا في صدور من يفرق ناديكم. 

فخرجن النساء إليهم ببكاء وعويل وقلن: أيها الطيبون حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين. 

فضجّ القوم بالبكاء حتى كأن الأرض تميد بهم 70. فجزاهم الحسين عليه السلام خيراً وانصرف إلى مضربه. 

ثم قام الحسين عليه السلام وأصحابه الليل كله يصلّون ويستغفرون ويدعون، وباتوا ولهم دويٌّ كدويّ النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، ومرّ بهم خيل لابن سعد يحرسهم، وإن حسيناًً عليه السلام ليقرأ: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين* مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فسمعها من تلك الخيل رجل فقال: نحن ورب الكعبة الطيبون، ميزنا منكم. فقال له برير بن خضير: يا فاسق أنت يجعلك الله من الطيبين؟! فقال له: من أنت ويلك ؟ قال: أنا برير بن خضير، فتسابا 71. 

وعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاًً، وكان أبو الشعثاء الكِنْدي وهو يزيد بن زيادٍ، مع ابن سعدٍ، فلما ردّوا الشروط على الحسين عليه السلام صار معه 72. ومن هؤلاء: جوين بن مالك التميمي، وزهير بن سليم الأزدي، والنعمان بن عمرو الأزدي الراسبي وأخوه الحلاّس 73.

الأنصار الملتحقون به عليه السلام في كربلاء حتى ليلة العاشر
أنس بن الحارث الكاهلي، الصحابي 74. جوين بن مالك بن قيس بن ثعلبة التميمي 75. حبيب بن مظاهر (مُظَهِّر) الأسدي الفقعسي، الصحابي 76. مسلم بن عوسجة الأسدي، الصحابي 77. مسلم أوأسلم بن 
كثير الأعرج الأزدي، الصحابي 78. رافع بن عبد الله مولى مسلم بن كثير 79. القاسم بن حبيب بن أبي بشر الأزدي 80. زهير بن سليم الأزدي 81. النعمان بن عمرو الأزدي الراسبي والحُلاس بن عمرو 
الأزدي الراسبي 82. جابر بن الحجّاج مولى عامر بن نهشل التيمي 83. مسعود بن الحجّاج التيمي. عبد الرحمن بن مسعود بن الحجّاج التيمي 84. عمر بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الضبعي التميمي، 
الصحابي 85. أمية بن سعد الطائي 86. 

الضرغامة بن مالك التغلبي 87. كنانة بن عتيق التغلبي، الصحابي 88. قاسط بن زهير بن الحرث التغلبي وكردوس بن زهير بن الحرث التغلبي ومسقط بن زهير بن الحرث التغلبي 89. سالم بن عمرو مولى 
بني المدينة الكلبي 90. حنظلة بن أسعد الشامي 91. سيف بن الحرث بن سريع بن جابر الهمداني الجابري ومالك بن عبد الله بن سريع بن جابر الهمداني الجابري 92. شبيب مولى الحرث بن سريع الهمداني 
الجابري 93. عمّار بن أبي سلامة الدالاني، الصحابي 94. حبشي بن قيس النهمي 95. زياد بن عريب الهمداني الصائدي، أبو عمرة 96. سوار بن منعم بن حابس بن أبي عمير بن نهم الهمداني النهمي 97. 
عمرو بن عبدالله الجندعي 98. عمرو بن قرظة الأنصاري 99. عبدالله بن بشر الخثعمي 100. الحارث بن امرء القيس الكندي 101. بشر بن عمرو بن الأُحدوث الحضرمي الكندي 102. عبدالله بن 

عروة بن حرّاق الغفاري وعبد الرحمن بن عروة بن حرّاق الغفاري 103. عبدالله بن عمير الكلبي 104.

أنصار الإمام الحسين عليه السلام 
إختلفت الروايات في عدد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يوم الطف، بين سبعين 105، وإثنين وسبعين 106، وإثنين وثمانين 107، وسبعة وثمانين 108، ومئة وخمسة وأربعين 109، خمسماية فارس 
ومئة راجل 110، وورد في بعض المصادر أن عددهم كان ستين 111، أو واحد وستين 112، غير أن أشهر عدد لأنصار الإمام عليه السلام يوم الطف هو إثنان وسبعون

صحابة رسول الله في أنصار الإمام الحسين عليه السلام يوم الطف
لقد شارك بعض صحابة رسول الله في القتال في كربلاء إلى جانب الإمام الحسين عليه السلام ، وهم:
أنس بن الحارث الكاهلي الأسدي، وهو ممن روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثه: "إن ابني هذا، يُقتل بأرضٍ يُقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره" 113. 
عبد الرحمن بن عبد ربّ الأنصاري الخزرجي، وهو ممن شهد حينما استشهد الإمام علي عليه السلام الناس في الرحبة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ألا إن الله عز وجل ولييّ، وأنا ولي المؤمنين، ألا فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه،
وأحبّ من أحبّه، وابغض من أبغضه، وأعنْ من أعانه" 114.
حبيب بن مظاهر (مظهّر) الأسدي 115. عبدالله بن يقطر الحميري 116. مسلم بن عوسجة الأسدي 117. كنانة بن عتيق التغلبي 118. عمّار بن أبي سلامة الدالاني الهمداني 119. زياد بن عريب الهمداني 
الصائدي 120. عمروبن ضبعة الضبعي التميمي 121. أسلم (مسلم) بن كثير الأعرج الأزدي 122. زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي 123. سعد بن الحرث مولى علي بن أبي طالب عليه السلام 124. 
يزيد بن مغفل الجعفي 125. شبيب بن عبد الله مولى الحرث بن سريع الكوفي 126. جنادة بن الحرث السلماني الأزدي الكوفي 127. جندب بن حجير الخولاني الكوفي 128. 

وأما عدد أفراد الجيش الأموي، فقد تفاوتت الروايات والمتون التاريخية في عدد الجيش الأموي الذي واجه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يوم عاشوراء، وهذه الأعداد على الترتيب من الأقلّ إلى الأكثر هي: 

ألف مقاتل 129، أربعة آلاف 130، ستة آلاف 131، ثمانية آلاف 132، إثنا عشر ألفاً، ستة عشر ألفاً 133، عشرون ألفاً 134، إثنان وعشرون ألفاً 135، ثلاثون ألفاً 136، خمسة وثلاثون ألفاً 137، أربعون 
ألفاً 138، خمسون ألفاً 139. وكان هؤلاء كما وصفتهم الروايات التاريخية من المزدلفين إلى الإمام عليه السلام لقتله 140، ومن أهل الأهواء والأطماع، ومن الانتهازيين 141، والمرتزقة 142، والفسقة 
والبطالين 143، والخوارج 144. 

والأقرب الأقوى أن عدد الجيش الأموي الذي واجه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء هو ثلاثون ألفاً، لأن هناك رواية عن الإمام الحسن عليه السلام أنه خاطب الإمام الحسين عليه السلام قائلاً: 
"ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنّهم من أمة جدّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك..." 145.
 ورواية أخرى عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال: 
"ولا يوم كيوم الحسين عليه السلام ازدلف عليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنّهم من هذه الأمّة! كلٌّ يتقرب إلى الله عزّ وجلّ بدمه!! وهو بالله يذكّرهم فلا يتّعظون حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً..." 146. 

ولكن الثابت والمشهور أن أهل الشام لم يشتركوا في واقعة الطفّ، وأن جميع من حضر مقتل الحسين من العساكر وحاربه وتولىّ قتله كانوا من أهل الكوفة خاصة، "لم يحضرهم شاميّ" 147، ولكن قد يُستفاد أن 
أفراداً متفرّقين من أهل الشام قد حضروا كربلاء يوم عاشوراء 148 في جيش ابن زياد، بل لعلّ من غير الممكن أن لا يتحقق هذا، لأنه لا بدّ للسلطة المركزية في الشام من مراسلين وجواسيس شاميين يعتمدهم 
يزيد بن معاوية، يواصلونه بكل جديد عن حركة الأحداث في العراق عامّة والكوفة خاصة. 

لكننا نقطع بأن يزيد بن معاوية لم يبعث إلى ابن زياد بأيّة قطعات عسكرية شاميّة للمساعدة في مواجهة الإمام الحسين عليه السلام .

* تاريخ النهضة الحسينية. نشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية. الطبعة الثانية. ص: 85-127.

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 3 أكتوبر 2017 - 14:39 بتوقيت مكة