الكوثر - السودان
وفي هذا السياق، كان لاختلاف توجهات القادة السودانيين في علاقاتهم الدولية تأثيرٌ مباشر على طبيعة العلاقات بين إيران والسودان، حيث شهدت هذه العلاقات تقلبات عديدة بين التقارب والتباعد، إلى أن اتجه السودان في السنوات الأخيرة نحو تعزيز علاقاته مع "إسرائيل" وأوروبا ودول الخليج الفارسي.
وفي مقابلة مع الدكتور النور الزاكي، أحد الخبراء السودانيين ومعدّ برنامج الوجه الآخر على قناة الكوثر، تم التطرق إلى دور الدول الإقليمية والدولية في الصراع السوداني، والسؤال عن ما إذا كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد لعبت دوراً في الأحداث الأخيرة في السودان، وكذلك ما هي الخطوات التي اتخذتها طهران لإعادة التواصل مع الخرطوم، وما هي السياسات والاستراتيجيات التي ينبغي أن تعتمدها مستقبلاً.
أما من الناحية التاريخية، فقد وصل عمر البشير إلى السلطة في السودان عام 1989 بمساعدة حسن الترابي بعد انقلابٍ عسكري. وبعد تسع سنوات، نشبت الخلافات بين الرجلين، فأسّس كلٌّ منهما حزباً ذي مرجعية إخوانية. كما أن الترابي أنشأ حركةً مسلحة في دارفور، فقام البشير لمواجهتها بتجنيد القبائل العربية البدوية ووعدها بملكية الأراضي، لتتحول هذه القبائل لاحقاً إلى قوة شبه عسكرية قوية عُرفت فيما بعد باسم قوات الدعم السريع.
كانت هذه القوات في بداياتها تحارب الحركات الدارفورية، لكنها مع مرور الوقت أصبحت لاعباً أساسياً في الساحة السودانية. وفي عام 2015، شاركت في حرب اليمن بدعم من الإمارات والسعودية. وبعد ذلك، ومع تصاعد أزمة الهجرة غير الشرعية من إفريقيا إلى أوروبا، تعاون الاتحاد الأوروبي مع هذه القوات من خلال تزويدها بالمعدات والتدريب للحد من تدفقات المهاجرين. كما منح عمر البشير امتيازات تجارية وحقوق استغلال المناجم لقوات الدعم السريع لتمويل نشاطها، الأمر الذي مكّن قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) من بناء قوة مالية وسياسية مستقلة في السودان.
ابتداءً من عام 2016، أدى انتشار الفساد الواسع والضغوط الاقتصادية المتزايدة إلى تصاعد حالة السخط الشعبي في السودان. وأسفرت احتجاجات عام 2019 عن سقوط نظام عمر البشير بعد ثلاثة عقود من الحكم. عقب ذلك، تم تشكيل المجلس الانتقالي برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، ووُقّعت اتفاقات بين المكوّنَين العسكري والمدني بهدف إدارة المرحلة الانتقالية، إلا أنّ تضارب المصالح وعودة بعض رموز الإخوان المسلمين إلى المشهد السياسي جعلا الأوضاع أكثر تعقيداً.
ومع مرور الوقت، احتدمت الخلافات بين البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي). كان حميدتي يتمتع بدعم مالي واسع وبعلاقات خارجية تشمل الإمارات وبعض الدول الأوروبية وروسيا، بل وحتى شركة فاغنر العسكرية الخاصة، وكان يخشى من تراجع نفوذه داخل الدولة. هذا التوتر بين الرجلين تصاعد تدريجياً إلى أن انفجر في عام 2023 في شكل حربٍ أهلية شاملة.
إقرأ أيضاً:
بدأت المعارك في الخرطوم ثم امتدت إلى ما لا يقل عن عشر ولايات أخرى، وانقسمت البلاد فعلياً إلى قسمين: قسمٌ يخضع لسيطرة الجيش بقيادة البرهان، وآخر تسيطر عليه قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.
في ظل هذه الظروف، انهار الهيكل الإداري والخدمي في السودان بالكامل؛ فلم تعد هناك دولة مركزية موحدة، وتعطّلت المؤسسات الحكومية أو توقفت عن العمل، كما واجهت البنوك والنظام المالي صعوبات كبيرة، وتعرضت خدمات الكهرباء والمياه وسائر الخدمات العامة لاضطرابات حادة.
كما أصبحت بعض المنشآت الاقتصادية مثل حقول النفط والمصافي ومرافق الإنتاج الأخرى تحت سيطرة هذا الطرف أو ذاك، سواء عبر اتفاقات ميدانية مؤقتة أو بالقوة، مما سمح باستمرار محدود لتدفق عائدات النفط والوقود، التي أصبحت لاحقاً مصدر تمويل رئيسي للأطراف المتحاربة.
هذا الواقع المزدوج جعل كلاً من الطرفين يسيطر على جزء من الجهاز الإداري وموارد الدولة. فعلى سبيل المثال، في بعض الخدمات مثل تنظيم الامتحانات العامة، أعلن كل طرف أنه سيتولى تنظيمها في المناطق الخاضعة له، وهو ما أضعف بشدة مفهوم الحكم الوطني الموحّد.
قبل عدة أشهر، حاول البرهان تشكيل حكومة جديدة، لكن الخلافات حول توزيع الحقائب الوزارية وشرط استبعاد من لم يشاركوا في القتال إلى جانبه حالت دون اكتمالها. وفي المقابل، أعلن فصيل حميدتي عن تشكيل حكومة موازية مستقلة في المناطق التي يسيطر عليها.
من الناحية التحليلية، يمكن القول إن أحد المحرّكات الأساسية لهذا الصراع هو تدخل بعض القوى والسياسات الخارجية التي تسعى إلى تفتيت أو إضعاف الدول الإسلامية الكبرى الغنية بالموارد الطبيعية. فبعض صناع القرار الدوليين يرغبون في تقسيم بلدان مثل السودان، وسوريا، والعراق، وليبيا، والجزائر، وإيران وغيرها، للحيلولة دون تراكم القوة والموارد في كيانات إقليمية موحدة.
أما على صعيد العلاقات الإيرانية-السودانية، فعلى الرغم من أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بدأت رسميًا عام 1980 بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فإنها لم تشهد تطورًا ملحوظًا بسبب دعم السودان للعراق خلال الحرب المفروضة على إيران. غير أن هذه العلاقات بدأت بالتحسن مع وصول الصادق المهدي إلى السلطة في أواخر الثمانينيات، حيث تعزز التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي بين البلدين، وأصبح السودان بعد ذلك أحد الحلفاء الرئيسيين لإيران في القارة الإفريقية.