الكوثر - فلسطين
سجين يقرأ الحرية..
كان رفاقه في السجن يقولون عنه إنه كان يقضي ساعاتٍ طويلة يقرأ — لا النصوص الدينية وسيرة النبي ﷺ وتاريخ صدر الإسلام فحسب — بل كذلك مؤلفاتٍ في الفلسفة وعلم النفس السياسي، خصوصاً تلك التي تتناول السلوك الإنساني وبناء المجتمع المقاوم. وقد أدار في السجن مراراً حلقاتٍ ودروساً في تحليل الشخصية، وتفسير القرآن، وإدارة الأزمات داخل المعتقل، وسبل الحفاظ على التماسك الفكري والروحي بين الأسرى.
على خلاف كثيرٍ من أقرانه الذين اضطرّوا إلى العمل باكراً في المهن أو التجارة، أبدى يحيى منذ صغره ميلاً واضحاً إلى الدراسة الدينية والاجتماعية. وبعد إنهاء دراسته الثانوية في خان يونس، التحق بالجامعة الإسلامية في غزة وتخصّص في الدراسات العربية والإسلامية. وكانت أجواء الجامعة آنذاك بؤرة التفاعل الفكري للحركة الإسلامية الناشئة في فلسطين، وهناك برز السنوار كأحد الطلاب المؤثرين في الحلقات المرتبطة بالشيخ أحمد ياسين.
في تلك المرحلة، تبلورت معالم فكره: مؤمنٌ متدين، لكنه غير منغلق؛ سياسيٌّ ذكيّ، لكنه غير مساوم. كان يرى في الدين «سلاح الوعي»، وفي السياسة «أداةً لتحرير الإنسان». هذا التوازن بين العقل والعقيدة جعله منذ شبابه شخصيةً بارزة في صفوف الحركة الإسلامية.
الزواج والعائلة: صمت البيت في قلب العاصفة
لم تُعرف تفاصيل كثيرة عن حياته الأسرية، إذ كان يحرص دائماً على إبقاء عائلته بعيداً عن الإعلام. غير أن المقربين منه تحدثوا عن بيتٍ يسوده الهدوء والالتزام والصبر. بعد الإفراج عنه سنة 2011، تزوّج من امرأةٍ مؤمنةٍ من أسرةٍ غزية عانت بدورها من الحصار، فعاشت معه حياةً بسيطةً وهادئة. كانت زوجته سنداً روحياً وعاطفياً له خلال سنوات قيادته لغزة، تسانده بصمتٍ خلف ضجيج السياسة والحرب.
نشأ أبناؤه في أجواء المقاومة، وتربّوا على أن حضور الأب الحقيقي هو في مبدئه لا في جسده. وكان الناس في غزة يصفونه بأنه أبٌ متواضعٌ قريب من أولاده، يخصّص لهم وقتاً رغم ازدحام مسؤولياته، يلعب مع الصغار أحياناً، أو يتجوّل في أسواق خان يونس من دون حراسة، يشتري الخبز ويحادث الناس ببساطة.
إقرأ أيضاً:
قراراتٌ بوزن الأرواح
وصفه خصومه أحياناً بالقسوة، لكنه بين رفاقه عُرف بهدوئه وصبره النادرين. صنعت منه سنوات السجن الطويلة رجلاً يفضّل الصمت على الخطابة، والتأمل على الانفعال. ذكر بعض الأسرى الذين عاشوا معه أنه كان يدرّسهم علوم الدين والفكر والفلسفة، وأنه كان يربط الإيمان بالعقل والمنهج.
وقد قال أحد رفاقه العسكريين عنه:
«كان يستغرق طويلاً قبل اتخاذ أي قرار، وكأنه يحاسب نفسه على مصير الناس.»
وفي حواره الشهير مع قناة الجزيرة (فبراير 2018)، عقب تولّيه قيادة غزة، قال:
«لا نتخذ قراراً إلا بعد محاسبةٍ دقيقة، فكل قرارٍ يعني دماء شعبنا، وهي مسؤوليتنا.»
وفي حديثٍ داخليٍّ سُرّبت مقاطع منه لاحقاً عبر قناة الميادين في فيلم «ما بعد سيف القدس»، خاطب القادة قائلاً:
«حربنا ليست مغامرة، بل مسؤولية أمام أرواح البشر.»
بهذا النهج، ظلّ طوال قيادته لغزة يوازن بين الشجاعة والعقل، فلا اندفاع بلا حساب، ولا تسوية بلا كرامة.
الصداقة والوفاء والدائرة القريبة
لم يكن له أصدقاء كثيرون بالمعنى التقليدي، بل دائرة ضيّقة من المقرّبين، معظمهم من رفاق الأسر أو من الجيل الأول لحماس — مثل روحی مشتهی، محمد الضیف، مروان عیسی. جمعتهم التجربة المشتركة لا المصلحة، والوفاء لا المنصب.
وكان، رغم مكانته، يعيش بين الناس ببساطةٍ لافتة: يمشي بلا حراسةٍ خاصة في شوارع خان يونس، يصافح الشباب، ويحضر مجالسهم العائلية. لذلك كان الناس يرونه لا مجرد قائد، بل واحداً منهم.
مثّل يحيى السنوار جسراً بين جيلين في غزة: بين ذاكرة المؤسسين الذين عايشوا الشيخ أحمد ياسين، وجيل الشباب الذي وجد فيه نموذج القائد المؤمن بعقله كما بإيمانه. وكان يردد دائماً:
«من أراد أن يعيش حرّاً، فليؤمن أولاً، فالإيمان هو الذي يمنح الإنسان القوة ليقاوم الاحتلال.»
ونُقل عنه أيضاً قوله المتكرر:
«الإيمان بالواجب هو مقدّمة الحرية.»
السكن المتواضع والنهاية المضيئة
كان مقر إقامته مع أسرته في أحد أنفاق غزة، غرفةً بسيطةً خاليةً من الزخارف، فيها علم حماس، ومروحة، وعدة كتبٍ وكرسيٌّ وطاولةٌ وسريرٌ بلاستيكي.
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2024، طوى الشهادة صفحة حياته، لكنها لم تكن نهايةً بل اكتمالًا لصورة رجلٍ عاش كما آمن: موزعاً بين العقل والإيمان، حتى اللحظة الأخيرة.
لقد رحل السنوار، لكن فكرته باقية: المقاومة لا تُقاس بالسلاح فقط، بل بوعي الإنسان وإيمانه.