خاص الكوثر_مقالات
الشهيد السيّد هادي نصرالله، الابن الذي انتمى إلى كلّ لبنان
حين قدّم الأب فلذة كبده للمقاومة في الثاني عشر من أيلول/سبتمبر 1997، وخلال عملية عسكرية في قمّة "جبل الرفيع" في جنوب لبنان، خاضت مجموعة من مجاهدي المقاومة الإسلامية اشتباكًا عنيفًا مع قوات جيش الاحتلال الصهيوني. وفي تلك المعركة ارتقى السيّد محمّد هادي نصرالله، النجل الأكبر للأمين العام لحزب الله، مع اثنين من رفاقه شهداء.
وقد وقعت أجسادهم في قبضة جيش الاحتلال، وبثّت القنوات الإسرائيلية صورهم، صور كشفت سريعًا عن هوية أحد الشهداء: ابن الأمين العام لحزب الله.
قبيل ذهابه إلى مهمّته الأخيرة، خالف هادي عادته؛ أيقظ والديه من نومهما، ألقى تحية وداع طويلة، وبقيت نظراته معلّقة بهما، كأنّه يختزن آخر لقاء في أعماقه. وما هي إلّا ساعات حتى نال مبتغاه الأسمى: الشهادة.
اقرأ أيضا:
تروي السيدة زينب والسيّد جواد نصرالله مشهد الوداع الأخير:«كان وداع الشهيد هادي مع والدتنا مختلفًا بعض الشيء. ففي العادة، عندما كان يستعدّ للذهاب إلى مهمة، لا يوقظ والدينا إذا كانا نائمَين، بل يترك رسالة يخبرهما فيها أنه غادر. أمّا هذه المرة، فقد أيقظهما، قبّل يديهما، طلب إذنهما ورحل قائلاً: هذه مهمة حساسة.
لقد شعر أنّها آخر لحظة لقاء. بقي واقفًا على الباب قرابة عشر دقائق يحدّق في أمّنا، وكأنّه يريد أن يحفظ صورتها في قلبه إلى الأبد».

شهادة السيّد جواد نصرالله عن أخيه
كتب السيّد جواد نصرالله عن الساعات الأخيرة لأخيه الشهيد:«عدنا إلى المنزل، وكان يضع اللمسات الأخيرة على بيت الزوجية، يتفحّص التفاصيل بعناية.
بعدها قصد الحلاق، وكأنّه يهيّئ شعر شهيد ليقصّ. ثم جاء الاستدعاء المستعجل؛ الإسرائيليون كانوا قد تمركزوا في "الرفيع"، وكان لا بدّ من عملية خاصة للتصدّي لهم. كان أوّل من لبّى النداء».
ويضيف:«في آخر غداء لنا معًا قبل استشهاده، كان وجهه يضيء بابتسامته المألوفة، مغمورًا بهدوء غريب. أجابني عن سؤال طرحته عليه بإشراقة كشفت بوضوح روح الشهادة التي تملّكته. كنت واثقًا أنّها ساعاته الأخيرة».
كما نقل ما رواه صديقه الشهيد طارق:«بعد الظهر، توجّه برفقة الشهيد عماد مغنية وكوثراني نحو جبل الرفيع. وقبل ساعات من استشهاده، قال لأحد إخوانه: سندخل في مواجهة مع الإسرائيليين، وسأستشهد».
لقد تركت شهادته أثرًا عميقًا في ترسيخ صمود المقاومة في وجه الاحتلال، ذاك الاحتلال الذي اضطرّ عام 2000 إلى الانسحاب من معظم الأراضي اللبنانية.
وصيّة أنارت الطريق
إنني - وبعون الله - مجاهد من مجاهدي المقاومة الإسلامية. التحقت بالمقاومة بهدف التحرير والدفاع عن دين الله تعالى، فاخترت عملي هناك، حيث الجبال العالية - جبال مليتا وصافي وعقماتا واللويزة، أبتغي الدفاع عن رايتي وولائي، عن نهجي وعن أمتي، لأبيد عدو الله وعدوي، جرثومة الفساد الكيان الصهيوني، راجياً الله تعالى أن يرزقني الشهادة في سبيله.
والدي العزيز: إلى سيدي ومولاي وأميني وقائدي وأستاذي ومرشدي، سلام لك من عمق الفؤاد، سلام عليك وشوقاً إليك وإلى رائحتك رائحة رسول الله.
يا والدي، لقد ربيتني وعلّمتني وأرشدتني، وسوف أكون بإذن الله عند حسن ظنك.
إلى إخوتي المجاهدين في المقاومة الإسلامية: أيها المجاهدون، تمنيت أن أكون معكم وفي خدمتكم، خدمة رجال الله، السلام عليكم أيها الأبطال يوم ولدتم ويوم استشهدتم. السلام على التراب الذي داسته أقدامكم، والذي ارتوى من دمائكم. يا صانعي المجد والعزة والكرامة لهذه الأمة، ويا رافعي راية العز والانتصار، راية الحق، راية الإسلام المحمدي الأصيل.. يطلع الفجر على زغاريد رصاصكم وصيحات نداء ثاراتكم الحسينية، نور الشمس نوركم، وجمال الطبيعة جمالكم، فسلام على أرواحكم التي تعرج إلى السماء والملكوت الأعلى، وسلام على أرواحكم الاستشهادية حيث أهل بيت محمد (ص).
إن طريقنا هو طريق ذات الشوكة وطريق شاق وصعب، (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ) فأرجو منكم المثابرة على ما يحبه الله، جاهدوا ورابطوا ولا يرعبْكم علو دشمهم وقوة سلاحهم، فأنتم تمتلكون قوة "الله أكبر" وقوة ذي الفقار.
أوصيكم بقراءة زيارة عاشوراء وزيارة وارث وبعض الآيات القرآنية كل يوم أو قدر المستطاع، وإهدائها إلى الشهداء. وأرجو منكم المسامحة والمعذرة، ولا تنسوني من الدعاء.
موقف السيّد حسن نصرالله
انتشر خبر استشهاد نجل الأمين العام لحزب الله بسرعة في أرجاء لبنان. وكانت العيون ترقب ردّ فعل السيّد حسن. فجاء جوابه في جملة تاريخية:«ابني واحد من أبناء هذه الأمة، ولا فرق بينه وبين باقي الشهداء».
كان ذلك الموقف رسالة واضحة: القائد، في محنته الشخصية، يسمو على العاطفة الأبوية، ويقدّم استشهاد ولده لا كخسارة فردية، بل كجزء من جهاد الأمّة.

من لوعة الفقد إلى قوّة جديدة للمقاومة
عصر الجمعة 13 أيلول/سبتمبر 1997، دارت معركة ضارية في إقليم التفاح. نصب المقاومون كمينًا ناجحًا لقوات الاحتلال. وكان السيّد هادي، المعروف باسمه الجهادي "ياسر"، في مجموعة الإسناد. فسأل قائده: «أفقط المجموعة الأولى ستقاتل؟ فما دورنا نحن؟»
وما هي إلّا لحظات حتى فاح عبير طيّب في المكان. فقال القائد: «هذا عبق شهادتك يا هادي». فأجاب مبتسمًا: «والله إنّه عبق الشهادة، وسأدعوكم إليها قريبًا».
ثم اندفع مع رفاقه نحو العدو، مطلقًا هتاف «الله أكبر» ورشقات رصاص. فأصيب برصاصة في جنبه، وشظية في عنقه، وسقط على الأرض، غارسًا يده في التراب وهو يقول: «يا جبل الرفيع، هذا دمي».
عندما بلغ الخبر والدته، رفعت يديها إلى السماء وقالت: «اللهم تقبّل هذا القربان منّا. بيّضت وجهي أمام السيّدة الزهراء عليها السلام، الحمد لله». وأدّت ركعتي شكر.
في المساء، ارتقب الجميع خطاب الأب الثاكل. لكنّ السيّد حسن اعتلى المنبر ثابتًا، بلا دمعة، ليعزّي الناس بدلاً من أن يعزّوه: «نحمد الله الذي شرّف عائلتنا بشهيد في سبيله».
ظلّ جثمان هادي مدّة لدى العدو، الذي حاول مقايضته بجثة أحد جنوده، غير أنّ السيّد حسن رفض المساومة، مؤكّدًا أنّ المفاوضات لا تكون إلّا على عودة جميع الأسرى وجثامين الشهداء. وفي 25 حزيران/يونيو 1998، عاد الجثمان إلى لبنان، حيث أُقيم له تشييع مهيب في ملعب الراية بالضاحية الجنوبية، وصلّى عليه والده قبل أن يُوارى في روضة الشهيدين.

طائر أيلول، شهيد فلسطين
يبقى السؤال: لماذا نكتب عن هادي نصرالله؟
الجواب: لأنّ هادي لم يكن شهيد لبنان فقط، ولا شهيد حزب الله وحده، بل كان قبل كل شيء شهيد فلسطين. لقد اختار أن يقف تحت راية المقاومة، دفع ثمن خياره حتى النهاية، ولم يقف على الحياد، فطريق الحياد ليس طريقًا مستقيمًا. لم يصطفّ مع المهزومين أو البائعين للقضية، بل انحاز إلى أولئك الذين تقاسموا اللقمة والرصاصة وسجادة الصلاة، كما تقاسموا الموت وشواهد القبور وغبار الأحذية التي عبرت الحدود.
رحل هادي، لكنّ عبق شهادته ظلّ عالقًا في الأرواح كالورد المحمّدي. كتب بدمه معنى الحياة وخطّ دربها للأجيال القادمة.
السلام عليه يوم وُلد، ويوم جاهد في سبيل الله، ويوم استُشهد في "جبل الرفيع"، ويوم يُبعث حيًّا، ونوره يتلألأ بين يديه.
الكاتبة: السيّدة مریم پیشنمازي