شاركوا هذا الخبر

القدر والحظ ...كيف نفسرهما؟

نحن جزءٌ من الكون، فإنّنا في الوقت الّذي نملك الإرادة والعقل، فإنّ وجودنا يخضع لقوانين في الجانب التّكوينيّ الوجوديّ، ويخضع لقوانين في الحركة النفسيّة والاجتماعيّة...

القدر والحظ ...كيف نفسرهما؟

العلامة السيد محمد حسين فضل الله

من مشاكل الإنسان، أنّه يحاول الهروب دائماً من محاولة اقتحام دائرة الغموض، الغموض الّذي يعيش الإنسان في داخله، في حالةٍ ضبابيّة من الوعي.. ومن الطبيعيّ أنّنا نعيش في كونٍ له نظمُه وقوانينه وسننه الّتي تحكُم كلّ نظامه الّذي يضع كلّ شيءٍ في موضعه، ويربط بين الأشياء في عمليّة تكاملٍ وتوازن.

ونحن جزءٌ من الكون، فإنّنا في الوقت الّذي نملك الإرادة والعقل، فإنّ وجودنا يخضع لقوانين في الجانب التّكوينيّ الوجوديّ، ويخضع لقوانين في الحركة النفسيّة والاجتماعيّة.. وإذا كنّا نواجه مثل هذا، فنحن لا نفهم معنًى للحظّ الّذي يتحرّك منفلتاً من أيّ قانون كونيّ أو إنسانيّ يعيش في داخل الواقع، كما أنّنا لا نستطيع أن نأخذ كلمة القدر ككلمة غامضة تفرض نفسها علينا، لتجعلنا نتحرّك في اللافهم وفي اللاوعي.
لو أردنا أن ندرس القدر، فإنّنا نفهم من هذه الكلمة، في معناها اللّغويّ، التّقدير، التّحديد {إنّا كلّ شيءٍ خلقْناهُ بقدَر}(1)، وكذلك {قد جعل الله لكلّ شيءٍ قدراً}(2) .. فكما نصّ الآيتين، فالله سبحانه هندس الكون من خلال ما وضعه فيه من نُظُم وقوانين وسُنن، فكلّ ظاهرة تنطلق من بداية لتكون لها نهايتها، وليكون لها دورها، بما في ذلك الظّاهرة الإنسانيّة.. لهذا فالقدَر يتحرّك في دائرتين: دائرة النّظام الكونيّ الّذي يحدّد للإنسان حركته بقدر ارتباطه بهذا الكون وخضوعه لضروراته ولمعطياته، لأنّه كائنٌ يعيش في داخله.
والدّائرة الثّانية، هي دائرة القدر في إرادة الإنسان وفي عقله.. لهذا إذا أردنا أن نواجه كلّ ما يحدث في الحياة، يمكن أن نقول، إنّ القدر يُصنع للإنسان في داخل الإنسان، كما قد يُفرَض عليه، فالإنسان يصنع قدره من خلال الأشياء المرتبطة بإرادته وبوعيه، فنحن نصنع الظّلم كما نصنع العدل، ونصنع الاستقامة كما نصنع الانحراف.. وهكذا، فإنّ الإنسان يصنع الكثير من قدَره من كلّ الأشياء الّتي تحيط به وتتحرّك في داخله، فهو يملك الحرّية في ذلك من حيث عقله الحرّ وإرادته الحرّة.
وهناك قدرٌ يُفرض على الإنسان من خلال علاقته بالكون، فنحن لا نستطيع إلا أن نخضع لضرورات الجسد، ولضرورات الجوع والبيئة، قد نستطيع أن نحمي أنفسنا من بعض نتائجها السلبيَّة، وقد نستطيع أن نصنع بعض النتائج الإيجابيّة، ولكنّنا لا نستطيع إلا أن نخضع لها في المطلق، لأنّها جزءٌ من وجودنا، والإنسان لا يملك أن يتحرَّر من وجوده، إذا تحرَّك من بعض معطيات هذا الوجود.
ونحن عندما ندرس قانون السببيّة في الكون، السببيّة الثّابتة في داخل الكون، والسببيّة المتحرّكة في داخل الإنسان، فإنّنا نستطيع أن نفسّر كلّ شيءٍ سلبيّ بأسبابه الطبيعيّة والإنسانيّة، ويمكن أن نفسّر كلّ شيء إيجابيّ بذلك، لأن قانون السببيّة في الكون قانون وجوديّ، لا يمكن أن يفلت منه أيّ شيء.
وإذا أتينا إلى مسألة الحظّ، فإنّ الحظّ قد يمثّل فرصة الإنسان الإيجابيّة، في أن يحصل على شيءٍ أفضل، ليكون حظّه سعيداً أو على واقع سلبيّ يعيش الإنسان فيه حرمان نفسه من بعض الأشياء، ليكون حظّه بائساً أو تعِساً.
وهكذا، عندما ندرس مسألة الحظّ، فإنّ علينا أن ندرس أسباب هذا الشّيء الّذي يتمثّل الحظّ فيه، فأنا عندما أكون غنيّاً، فإنّ الغنى ليس حظّاً مفصولاً عن الأسباب الداخليّة والخارجيّة الّتي يعيشها وجودي، وهكذا عندما أفتقر أو عندما تحدث أوضاع سلبيّة على مستوى اجتماعيّ أو سياسيّ أو ذاتيّ، فإنّنا نستطيع أن نفسّر ذلك تفسيراً موضوعيّاً واقعيّاً من خلال المفردات الّتي تُنتج هذه الظّاهرة الإنسانيّة أو تلك.
إذاً، فالحظّ هو حالةٌ في الوجود تنطلق من أسباب معيّنة، قد يكون الإنسان جزءاً منها، وقد لا يكون جزءاً منها، بل تُفرَض عليه، والقدَر هو حركة هذا الوجود في كلّ مفرداته ومعطياته الّتي قد تكون من صُنع الإنسان، وقد تكون من صنع الواقع الكونيّ الّذي يدبّره الله...

الهوامش:
(1) : القمر:49
(2) : الطلاق:3

المصدر: كتاب للإنسان و الحياة

أهم الأخبار

الأكثر مشاهدة