شاركوا هذا الخبر

ما لا تعرفه عن دور المرجعية في العراق...دستور العراق نموذجا

إنّ البحث في دور المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف(1)في كتابة الدستور، يقودنا بالضرورة إلى أن نسبق ذلك بالآراء السياسية لفقهاء الشيعة ونظريات الدولة في فقههم...

ما لا تعرفه عن دور المرجعية في العراق...دستور العراق نموذجا

د. الشيخ أحمد علي عبود الخفاجي

من المباحث المهمة التي نريد أن نبحثها هنا هو موقف السيد السيستاني من دستور جمهورية العراق لسنة(2005م)

إنّ البحث في دور المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف(1)في كتابة الدستور، يقودنا بالضرورة إلى أن نسبق ذلك بالآراء السياسية لفقهاء الشيعة ونظريات الدولة في فقههم.

لقد كانت مباحث الحكومة والدولة تُطرح غالباً في قالب الأحكام ووظائف الحاكم، والسؤال: مَن يكون الحاكم؟ لا أنّه كيف تجب ممارسة الحكم؟ وما هي أحكام ووظائف الدولة بعنوان كونها مؤسسة وشخصية حقوقية؟ وغالباً ما تعلل قلّة العناية هذه بأنّ الفقه الشيعي لم يجد حاجة للولوج في قضية الدولة، بواسطة الفهم الخاص بغيبة الإمام المهدي(عج)ومسألة الإمامة وارتباطها بالدولة، وتصور أنّ العصمة شرط للحاكم؛ ما أدى إلى توقف الفكر السياسي الشيعي وقبول الفقهاء بالابتعاد عن ميدان الحكومة، إلّا أنّه ومع تولي الصفويين العرش في إيران وإعلان التشيّع مذهباً رسمياً فيها، تمتع الفقهاء بسلطة نسبية وبشكلٍ تقليدي، تحت عنوان(ولاية الفقيه)، لكنّها لم تكن على الإطلاق بمعنى نظرية دولة؛ إذ اقتصرت على القضاء ولوازمه، بينما أوجدت أُولى علامات نظرية الدولة لدى المحقق الكركي الذي عَدّ الفقيه نائباً عامّاً للإمام المهدي(عج) واتفق الأردبيلي معه في ذلك، وفسح المجال بذلك أمام الفقهاء بشكلٍ كبيرٍ، وكان التحوّل في آثار الشيخ جعفر كاشف الغطاء والميرزا القمي، فيما كان أوّل مَن بحث ولاية الفقيه تفصيلاً وكمسألة مستقلة الملا أحمد النراقي، وقال: إنّ جميع وظائف السلطان في رعيته هي للفقهاء. وكانت تلك أُولى طلائع الفكر السياسي الشيعي، فيما نقده تلميذه الشيخ مرتضى الأنصاري، وتتابع بحث المسألة حتى كتب النائيني (تنبيه الأُمّة وتنزيه الملة)(2).

وكان الشيخ محمد حسين النائيني قد طرق فكرة الدولة الدستورية القائمة على تحقيق مبدأ التوازن بين الحاكم والمحكوم، وتقليص صلاحيات الحكومة وسلطاتها ومَن يقف على قمّة هرمها، وتوزيع هذه السلطات؛ منعاً للتفرد والاستبداد، وكانت أُطروحته مشاركة مهمّة وخطيرة للمرجعية الدينية الشيعية في الفكر السياسي، وتُجسّد أُطروحته شكل الدولة العصرية مع تأصيلها إسلامياً من خلال النصّ القرآني والأحاديث النبوية وأحاديث الأئمة عليهم السلام(3).

وفي الفترة التي توصّل فيها الفقه السياسي الشيعي من النظرية إلى التطبيق في ظلّ حكومة ولاية الفقيه في إيران، والتي نَظّرَ لها وطبّقها السيد الخميني ازدهر الفقه الشيعي فيما يتعلّق بالسياسة ومسألة الدولة، وقد قدّم الفقهاء الشيعة نظريات مختلفة عن نظرية السيد الخميني، وهي تبتني على المشروعية الإلهية الشعبية، وتنكر على الفقهاء أيّ امتياز سياسي ـ بسبب فقاهتهم ـ عن بقيّة الشعب، كما تُنكر عليهم أيّ ولاية شرعية في تدبير الأُمور السياسية التي جُعلت ـ وفقاً لنظرياتهم ـ في غيبة الإمام المعصوم في عهدة الشعب(4).

ومن الجدير بالذكر أنّ المرجع السيد السيستاني يحظى بتأييد واسع النطاق من قِبل جميع الفرقاء على الساحة الدينية والوطنية في العراق، كما يحظى السيد السيستاني بتأييد جماهيري كبير، وتحظى فتاواه ومواقفه السياسية من التطورات في العراق على اختلاف المستويات (سياسية، واجتماعية، واقتصادية) قبولاً وتقديراً من جميع الأطراف على المستوى الداخلي والخارجي لما يمتاز به خطابه من واقعية تحليلية ورؤية مفعمة بالنظر بالعقلانية(5).

والأهم من ذلك: تغليب مصلحة الشعب العراقي بكلّ أطيافه ورعاية حقوقه وصيانة كرامته، والحفاظ على استقلال أراضيه فوق كلّ المصالح الأُخرى، ويتضح موقف سماحته في قضية مهمّة وحيوية، وهي مهمّة كتابة الدستور العراقي الجديد(6).

وفي (13/7/2003م) أُعلن عن تأسيس مجلس الحكم الانتقالي، والذي وُلد في ظروف غير اعتيادية على جميع الصُّعُد، أمنياً، سياسياً، اقتصادياً، واجتماعياً، إذ تمّ تشكيله من أحزاب المعارضة التي كانت في خارج العراق، وهي كلّ من (المؤتمر الوطني العراقي، حركة الوفاق الوطني، حزب الدعوة الإسلامية، المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) إضافة إلى (الحزب الوطني الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني)، لتنضمّ إليه فيما بعد أربعة أحزاب عراقية أُخرى، وهي: (تجمع الديمقراطيين المستقلين، الحزب الوطني الديمقراطي، الحزب الإسلامي العراقي، الاتحاد الإسلامي الكردستاني).(7)

لقد أكّد سماحة السيد على أهمية الدستور في معرض جواب سؤال وجّه من قِبل (جمع من المؤمنين) إلى مكتب سماحته في النجف، وكان السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أعلنت سلطات الاحتلال في العراق أنّها قررت تشكيل مجلس لكتابة الدستور العراقي القادم، وأنّها ستُعيّن أعضاء هذا المجلس بالمشاورة مع الجهات السياسية والاجتماعية في البلد، ثمّ تطرح الدستور الذي يقرّه المجلس للتصويت عليه في استفتاء شعبي عام. نرجو التفضل ببيان الموقف الشرعي من هذا المشروع، وما يجب على المؤمنين أن يقوموا به في قضية إعداد الدستور العراقي.

وكان جواب السيد السيستاني بخصوص هذا الأمر ما نصّه: «إنّ تلك السلطات لا تتمتع بأيّة صلاحية في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور، كما لا ضمان أن يضع هذا المجلس دستوراً يطابق المصالح العليا للشعب العراقي، ويعبّر عن هويته الوطنية والتي من ركائزها الأساسية الدين الإسلامي الحنيف والقيم الاجتماعية النبيلة، فالمشروع المذكور غير مقبول من أساسه، ولا بدّ أوّلاً من إجراء انتخابات عامّة؛ لكي يختار كلّ عراقي مؤهل للانتخاب مَن يمثّله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثمّ يجري التصويت العام على الدستور الذي يقرّه هذا المجلس، وعلى المؤمنين كافّة المطالبة بتحقيق هذا الأمر المهم، والمساهمة في إنجازه على أحسن وجه، أخذ الله تبارك و تعالى بأيدي الجميع إلى ما فيه الخير والصلاح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».(8)

وبلغ الجدال أُوجه في أروقة مجلس الحكم، ولم يتوقع بول برايمر أنّ المسألة سوف تصل إلى ما وصلت إليه؛ ممّا استدعى سفره إلى واشنطن بصحبة الرئيس العراقي ورئيس مجلس الحكم في تلك الفترة (جلال الطالباني)، مطلعاً القيادة الأمريكية على التطورات الحاصلة، ليعود وبجعبته خطّة لحلّ هذا الوضع؛ إذ طرح آلية لوضع الدستور، والتي تُعرف بآلية كوكس (التجمعات الانتخابية) كحالة وسط بين التعيين والانتخاب لأعضاء مجلس كتابة الدستور، هذا الاقتراح جاء في محاولة من سلطات الاحتلال لتخفيف الضغط المرجعي واحتوائه، لكن السيد رفض هذا الاقتراح، وقال: إنّ الانتخابات يمكن أن تجرى من خلال آلية حقيقية وهي الانتخابات، ليكون المجلس منبثقاً من إرادة العراقيين ويمثّلهم بصورة عادلة(9).

وهنا يُثار التساؤل عن النظرية التي تبنتها مرجعية النجف الأشرف العليا المتجسّدة بسماحة السيد السيستاني، وهو ما لا يمكننا الإجابة عليه من دون البحث في جذور علاقة المرجعيات الدينية في النجف بأُمور السياسة.

وجدير بالإشارة إلى أنّ كتاب (تنبيه الأُمّة وتنزيه الملة) يُعدّ أوّل عمل في الفكر السياسي المعاصر للمرجعية الدينية في النجف الأشرف، وتمثيلاً لها في نهجها المتمثّل بالدولة الدستورية التي تفك الارتباط بين رجال الدين والسلطة السياسية، فكما يرى النائيني أنّ الاستبداد الديني أسوأ من الاستبداد السياسي، وهو إن وُجد ظهيراً قوياً وداعماً لا يقاوم للمستبد السياسي الطاغية، إلّا أنّ ذلك لم يمنع مرجعية النجف من التدخل في الشأن السياسي وإصدارهم الفتاوى المناوئة والمحرّمة لانتخابات المجلس التأسيسي لعام (1922م)؛ ما عرّض علماء الدين إلى النفي والإبعاد من قِبل الحكومة، وبرغم ذلك ومنذ عام (1921م) كان الغالب هو سيادة الاحترام والحوار في العلاقة بين الطرفين، وتمكنت المرجعية الدينية بمكانتها وهيبتها من التأثير في الحكومة وقراراتها، كما تمتعت المؤسسة الدينية باستقلالها المالي والمعنوي، وحريتها في ممارسة أنشطتها الدينية والتعليمية والإرشادية، إلّا أنّ نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين شهد توتراً في العلاقة، وساء الأمر إلى حدّ ملاحقة ابن المرجع السيد محسن الحكيم بتهمة التآمر على النظام، ثمّ تمّ الاعتداء على بيت المرجع الأعلى حينها في بغداد، والتضييق على حركة وكلائه وطلبة الحوزة، وكان ذلك جزءاً من سياسة النظام البعثي بإخضاع الجميع له.

وبعد وفاة المرجع الحكيم جاءت سياسة الحذر من قِبل المرجع السيد أبو القاسم الخوئي بابتعاده الواضح عن التدخل في الشؤون السياسية وانشغاله بالجانب الديني، إذ كان البعثيون قد نصبوا العداء للمرجعية الدينية في النجف الأشرف، وشنّوا حملات اعتقالات وتسفيرات لطلبة الحوزة العلمية، فأصبحت مهمّة الحفاظ على المرجعية الدينية وحوزتها من الأولويات، ولما كان السيد السيستاني من المقرّبين من السيد أبو القاسم الخوئي وخلفه من بعد السيد عبد الأعلى السبزواري، إذ تصدّر عام (1994م) زعامة المرجعية الدينية العليا، فقد استمد من أُستاذه التحفظ من التدخل بالشأن السياسي في كنف سلطة مستبدّة وغاشمة لم تتورع عن محاولة اغتياله في عام (1997م)، ثمّ فرضِ حصار على مكتبه وسائر المراجع الآخرين(10).

وبعد عام (2003م) وسقوط النظام السابق دخلت المرجعية الدينية في النجف مرحلة جديدة، فبغياب القيادات لم يكن أمام الناس إلّا العودة للقيادة الدينية المتمثّلة بالمرجعية التي أصبحت ملجأً وراعياً للشأن العام، وبدأت المؤشرات واضحة بالأهمية التي يحظى بها السيد السيستاني، وما ينتظره من دور في صياغة مستقبل العراق وتأثيراته القوية في الرأي العام، ولم يكن بمقدور أحد تجاوز الاعتبار المبني على شرعية شعبية واسعة؛ إذ يعُد اللجوء إلى المرجعية الدينية في النجف الأشرف في أوقات الأزمات إرثاً وجدانياً، وهكذا وجد الجميع في السيد السيستاني الخيمة التي تجتمع قوى الدولة تحت أعمدتها ولا مفرّ من أخذ رأيه والاستئناس بتوجيهاته ووصاياه وأقواله ورؤيته الفقهية والسياسية(11).

وفي تلك الأثناء وعقب تشكيل مجلس الحكم في العراق في تموز (2003م)، كان المجلس قد شكّل لجنة دستورية تحضيرية في (11/8/2003م) تتألف من (25) عضواً، وكانت مهمّة اللجنة استطلاعية عن طريق اتصالها بالقوى الفاعلة بالمجتمع والاطلاع على آرائها، ثمّ رفع توصية إلى مجلس الحكم لبيان الآلية التي ينبغي من خلالها صياغة دستور جديد للبلاد، إلّا أنّ المشاورات العامّة التي كانت اللجنة قد بدأتها أسفرت عن قوى متصارعة، حول أُسس اختيار لجنة كتابة الدستور أكثر من التركيز على مبادئ الدستور المقبل، وقد تركت تلك اللجنة القرارات الصعبة لكلّ من مجلس الحكم وسلطة الائتلاف، واللذين كانا بدورهما يحرصان على معرفة موقف السيد السيستاني من طريقة تشكيل لجنة كتابة الدستور(12). وكان الموقف الأوّل الواضح الذي صدر من المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف أن رفضت بشدّة إلغاء دور الشعب، وتعطيل إرادته الحرّة في اختيار دستور لبلاده عبر ممثلين، تضمّهم جمعية وطنية تختصّ بكتابة دستور جديد دائم للبلاد(13).

وفي حين كانت رؤية السفير (بول برايمر) تقضي بتشكيل لجنة لكتابة الدستور عبر التعيين، فإنّه وجد نفسه في موقف صعب للغاية، وشبّه رأي السيد السيستاني بالمشكلة؛ لأنّه كان يرى أنّ الانتخابات يمكن أن تستغرق سنة، وبعد ذلك يحتاج العراقيون إلى كتابة دستورهم، ليُطرح بدوره على الاستفتاء العام لإقراره، واتباع هذه العملية يعني تأخير نقل السيادة حتى وقت متأخر من سنة (2005م)، إلّا أنّه وبعد تفكير قرر أن يطرح فكرة الدستور المؤقت بدلاً من الدستور الدائم، وبناءً على قرار الأُمم المتحدة رقم (1511) في (16/10/2003م) أُلزم مجلس الحكم بوضع جدول زمني، وبرنامج لوضع مسودة الدستور المؤقت وإجراء الانتخابات، ولمّا فشل المجلس في ذلك تمّ الاتفاق بينه وبين سلطة الائتلاف على وضع قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية؛ إذ تحوّل المجلس الرئاسي لمجلس الحكم والمكون من (9) أعضاء إلى لجنة لكتابة الدستور المؤقت بمشاركة سلطة الائتلاف، وتولّت مجموعة مصُغرة من خبراء، وحقوقيين، وقضاة، وضع مسودة قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لسنة (2004م)(14).

وقد رأى السيد السيستاني في هذا القانون بأنّه سيُكبّل الجمعية الوطنية بقيود كثيرة لا تسمح لها باتخاذ ما تراه مطابقاً لمصلحة الشعب العراقي، وكان يتوقع أن تتم الانتخابات بإشراف الأُمم المتحدة، وهكذا يترك للجمعية الوطنية المنتخبة حرية إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية، وكتابة الدستور الدائم، والاستفتاء عليه وفق الآلية التي يقررها المندوبون من الأُمم المتحدة(15).

ولما كان قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية هو خارطة الطريق لكتابة الدستور الدائم، فإنّ الجمعية الوطنية شرعت بعد انتخابها باعتماد تلك الخارطة؛ ليكون الدستور هو المحدد لحركة سير الدولة ومؤسساتها وأفرادها، وهي في ذلك تعتمد لإقرار مضمون الدستور على إدارة الشعب، وهو الرأي الذي أشار إليه السيد السيستاني حينما سُئل عن شكل الحكومة التي يريدها، فكانت الإجابة: «شكل نظام الحكم في العراق يحدده الشعب العراقي، وآلية ذلك أن تجري انتخابات عامّة؛ لكي يختار كلّ عراقي مَن يمثّله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثمّ يُطرح الدستور الذي يقرّه هذا المجلس على الشعب للتصويت عليه، والمرجعية لا تمارس دوراً في السلطة والحكم»(16).

ثمّ يعود السيد السيستاني ليؤكّد أنّ شكل العراق من حيث هويته إن كانت قومية عربية أو هوية إسلامية، يُحددها الشعب العراقي بجميع قومياته ومذاهبه، من خلال جمعية وطنية منتخبة تكتب الدستور مع عدم تدخل المرجعية الدينية في ممارسة دور في السلطة والحكم، والنأي بالحوزة العلمية عن التصدي لممارسة العمل السياسي، وترى أنّه على علماء الدين النأي بأنفسهم عن تسلّم المناصب الحكومية.

والواضح لدينا أنّ الشرعية الشعبية التي يمتلكها السيد السيستاني إضافة إلى رؤاه الوقّادة، قد أرغمت سلطة الائتلاف المؤقتة والقوى السياسية على النزول إلى آرائه، وإنفاذ كثير منها في آلية كتابة الدستور وفي مضمونه، لا سيّما أنّ هذه الشرعية لا يكتسبها سماحة السيد من الطائفة الشيعية فحسب، بل تتعدى إلى كلّ ألوان الطيف العراقي.

ولما كان عام (2005م) مليئاً بالنشاطات السياسية والفكرية التي تمحورت حول قضية الدستور، وما يجب أن يتضمّن من فقرات ومواد، وما يترتب فيه من شكل الدولة ونظامها السياسي، فازداد الجدل المتعدد الاتجاهات بين مختلف النخب السياسية والفكرية، فما كان إلّا أن شهدت المدن العراقية ـ وخاصّة العاصمة بغداد ـ مسيرات كبرى مطالبة بضرورة الاستجابة لمطالب المرجعية الدينية، منها: القانونية حول الدستور الجديد الذي سيحل محل القانون الذي وضعته سلطة الائتلاف المؤقتة، وهكذا عُهدت مهمّة كتابة الدستور إلى الجمعية الوطنية بعد انتخابها، وكان الأمر بوضوح استجابة لإرادة السيد السيستاني بكتابة دستور جديد للبلاد يحظى بموافقة شعبية، ويعبّر عن تطلعات وآمال النسيج الاجتماعي العراقي بكلّ تفاصيله القومية والسياسية(17).

وهكذا ترتكز الدولة في فهم السيد السيستاني على مطلب الحرية، ففي يقين مرجع عاش تحولات السياسة لعقود طويلة من موقع المراقب والمجتهد العارف بأحوال الناس، تُعتبر الدولة حاضنة للحريات، والقوانين محددات إجرائية؛ لذلك يولي المرجع أهمية كبيرة لأهداف وتطلعات الإنسان في العراق، ويعمل ما أمكن الجهد لأن تكون الدولة بخدمة المجتمع لا العكس، وهو بذلك يدعو إلى سيادة الدولة ونفوذ القانون ومحاربة الأفكار المسيئة لمكونات المجتمع العراقي. وهو يتعامل بذلك مع نمط الدولة الوطنية التي لم يؤسس لها الاجتهاد الفقهي، بل جاءت هي إليه تستدعيه لأجل الدعم والإشراف الأخلاقي. فالدولة العراقية بعد (2003م) أفسحت المجال أمام فقيه النجف لبلورة السياسات والاعتماد عليه في دعم مسيرة السياسة، كون الدولة في هذه المرحلة لا تتعارض مع النجف ولا تختلف مع الفقيه العارف بأنّ الزمن السياسي العراقي هو زمن الوطنية، والسيد السيستاني في ذلك إنّما يحمي التجربة العراقية وصيانة حقوق الشعب العراقي دون انغلاق على الحكم إن لم يعلن الإسلام كياناً للدولة، وأنّ الأسباب التي تدعوا المرجعية لدعم هذه التجربة، هي أنّ السلطة أصبحت شرعية بصندوق الاقتراع وليست قهرية، كما أنّها تعمل وفقاً لدستور ارتضاه الشعب(18).

ولقد كان للسيد السيستاني رؤية فكرية للبناء المؤسساتي والقانوني للدولة العراقية، بعد أن أصبحت المرجعية الدينية في النجف العامل الأكثر تأثيراً في الحالة السياسية الجديدة، والتي تتطلع الأنظار إليها لمعرفة رأيها وموقفها من كلّ ما يجري، فانطلقت المرجعية من أسبابها الشرعية والوطنية والأخلاقية لتقدم أفكارها من موقع حيادي، وتعبّر من خلالها عن رؤية عصرية في بناء دولة مدنية حديثة، تستند إلى أساس المقومات المؤسساتية الشرعية الخاضعة لقانون عام ينظمها وينظم حركتها وعلاقاتها ودورها الاجتماعي، وكان السيد السيستاني قد اكتسب تلك الرؤى نتيجة اطلاعه الواسع على شتى العلوم والمعارف من التاريخ والآداب، والفلسفة، والفكر السياسي، إضافة إلى العلوم الدينية(19).

وهكذا كان السيد السيستاني حريصاً على إيجاد هوية وطنية واحدة، وبناء دولة المواطنة من خلال نظام سياسي مقبول من كلّ المكونات المتنوعة للشعب العراقي يقرّه دستور يرتضيه الشعب، فالدولة الدستورية المنظمة للعلاقات بين الحاكم والمحكوم بتوازن دقيق والتي طرحها النائيني مسبقاً كان قد تمّ استيعابها في العقل السياسي للمرجعية الدينية في النجف، وأصبحت جزءاً من تراثها في الفقه السياسي، وما حالت دونه الحكومات السابقة سنحت به الأحداث السياسية بعد (2003م)، والنظرية التي كانت حبيسة العقول وغير قابلة للطرح وجدت صداها في التطبيق من خلال آراء ورؤى السيد السيستاني، ومع أنّنا لا نجد رؤية مفصلة بعنوان الدولة للسيد السيستاني، إلّا أنّه يمكن ملاحظتها في هذه الآراء والرؤى وتظهر جلية بعد البحث والتمحيص فيها، ويمكن إجمالها في تمكين الشعب من ممارسة حقّه في اختيار دستوره ونوّابه في إطار انتخابات عامّة وضمان مشاركة أوسع القطاعات من الشعب، والتأكيد على المشتركات الجامعة للإسلام الموحد لمجموع المسلمين وحماية الأقليات الدينية، وضمان حقّها في ممارسة شعائرها بحرية وتأكيد حقوق المرأة واحترام المواثيق والهيئات الدولية(20)، وهي مقومات الدولة المدنية الدستورية الوطنية التي أسبغها السيد ما أمكنه في دستور جمهورية العراق لسنة (2005م).

الهوامش:

(1)المرجعية الدينية العليا: مصطلح مستحدث عند الشيعة يُطلق على مَن بلغ رتبة الاجتهاد والأعلمية من الفقهاء. اُنظر: القزويني، جودت، المرجعية الدينية العليا عند الشيعة الإمامية (دراسة في التطور السياسي والعلماء): ص8.

(2)اُنظر: كديور، محسن، نظريات الدولة في الفقه الشيعي: ص15ـ26.

(3)اُنظر: السيد سلمان، حيدر نزار، سلطة النصّ الديني وبناء الدولة السيد السيستاني أُنموذجاً: ص38ـ41.

(4)اُنظر: كديور، محسن، نظريات الدولة في الفقه الشيعي: ص26ـ27، وص184ـ201.

(5)اُنظر: الإمامي، محمد عباس جعفر، الدور السياسي للمرجعية الدينية في العراق الحديث: ص265.

(6)اُنظر: الخفاف، حامد، النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية: ص45.

(7)اُنظر: المصدر السابق: ص46.

(8)المصدر السابق: ص225.

(9)اُنظر: بريمر، بول، عام قضيته في العراق: ص125.

(10)اُنظر: السيد سلمان، حيدر نزار، سلطة النصّ الديني وبناء الدولة السيد السيستاني أُنموذجاً: ص26ـ29، وص38ـ42. البغدادي، عمار، مبادئ الدولة والقيادة لدى مراجع الحوزة العلمية مقاربة في رؤى الخميني ـ النائيني ـ الصدر ـ السيستاني: ص91ـ93.

(11)اُنظر: السيد سلمان، حيدر نزار، سلطة النصّ الديني وبناء الدولة السيد السيستاني أُنموذجاً: ص33، وص43ـ44. البغدادي، عمار، مبادئ الدولة والقيادة لدى مراجع الحوزة العلمية مقاربة في رؤى الخميني ـ النائيني ـ الصدر ـ السيستاني: ص94.

(12)اُنظر: علي، تغريد عبد القادر، إشكالية الصياغة التشريعية في النصّ الدستوري (دراسة عن دستور جمهورية العراق لسنة 2005م)، مجلة الحقوق (الصادرة عن كلية القانون الجامعة المستنصرية)، المجلد (4): العدد (18)، السنة (6)، 2012م: ص183.

(13)اُنظر: السيد سلمان، حيدر نزار، سلطة النصّ الديني وبناء الدولة السيد السيستاني أُنموذجاً: ص44.

(14)اُنظر: علي، تغريد عبد القادر، إشكالية الصياغة التشريعية في النصّ الدستوري (دراسة عن دستور جمهورية العراق لسنة 2005م)، مجلة الحقوق (الصادرة عن كلية القانون الجامعة المستنصرية)، المجلد(4): العدد(18)، السنة(6)، 2012م: ص183. واُنظر: عبد الجبار، فالح، العلاقات الأثنية والدينية، الموقع: https://minorityrights.org.

(15)جاء ذلك في رسالة جوابية من مكتب السيد السيستاني إلى السيد الأخضر الإبراهيمي، تتضمّن الموقف من قانون إدارة الدورة العراقية الانتقالية. اُنظر: الخفاف، حامد، النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية: ص107ـ 109.

(16)المصدر السابق: ص192، وص224ـ230.

(17)اُنظر: السيد سلمان، حيدر نزار، سلطة النصّ الديني وبناء الدولة السيد السيستاني أُنموذجاً: ص46ـ47.

(18)اُنظر: البغدادي، عمار، مبادئ الدولة والقيادة لدى مراجع الحوزة العلمية مقاربة في رؤى الخميني ـ النائيني ـ الصدر ـ السيستاني: ص97ـ113.

(19)اُنظر: السيد سلمان، حيدر نزار، سلطة النصّ الديني وبناء الدولة، السيد السيستاني أُنموذجاً: ص8، وص36.

(20)اُنظر: المصدر السابق: ص38ـ56. والبغدادي، عمار، مبادئ الدولة والقيادة لدى مراجع الحوزة العلمية مقاربة في رؤى الخميني ـ النائيني ـ الصدر ـ السيستاني: ص85ـ95.

أهم الأخبار

الأكثر مشاهدة