أنوار...من سورة القدر

الخميس 1 فبراير 2018 - 14:56 بتوقيت مكة
أنوار...من سورة القدر

إن من الغايات المطلوبة من نزول القرآن الكريم: إرتقاء العباد من حضيض الضياع والخسران إلى مدارج المعرفة والكمال، من خلال بيان كيفية السفر إلى الله تبارك وتعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم
{إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر }صدق الله العلي العظيم

النور الأول
إن من الغايات المطلوبة من نزول القرآن الكريم: إرتقاء العباد من حضيض الضياع والخسران إلى مدارج المعرفة والكمال، من خلال بيان كيفية السفر إلى الله تبارك وتعالى. وقد جاءت فصول كتاب الله عزوجل على ثلاثة مقاصد ـ هي كالدعائم والأصول والأعمدة المهمة، وعلى ثلاثة أبواب ـ هي كاللواحق والمتممات.
أما الأصول، فأولها: معرفة الحق الأول سبحانه وتعالى في صفاته وأفعاله. وثانيها: معرفة الصراط المستقيم ودرجات الارتقاء، وكيفية السلوك إلى مرضاة الله جل وعلا مع عدم الانحراف. أما ثالث تلك الأصول: فمعرفة المعاد والمرجع إلى الباري سبحانه، وما هي أحوال الوافدين على رحمته وكرامته، وأحوال المبعدين المعذبين في دار غضبه ونعمته.
وأما الثلاثة اللواحق، فأحدها: معرفة المبعوثين من عند الله تعالى بدعوة الخلق إلى الحق، ونجاة النفوس من الجحيم. وثانيها: تسفيه عقول الجاحدين في غوايتهم وضلالاتهم. وثالثها: تعليم البشر معنى العبودية لله جل وعلا، وكيفية الاستعداد لسفر الآخرة.
وسورة القدر مشتملة على معظم المقاصد القرآنية المذكورة، بل على جميعها لو نظر الباصر إلى تأويل آياتها المباركة.

النور الثاني
إن السورة اختصت بموضوع القدر، فحملت معه خواصها وبركاتها، حتى روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: « من قرأ: إنا أنزلنا في ليلة القدر، فجهر بها صوته، كان كالشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سرا كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله، ومن قرأها عشرمرات محا الله عنه ألف ذنب من ذنوبه » ( ثواب الأعمال للشيخ الصدوق:152، ومجمع البيان للطبرسي 516:5 ـ في ظل السورة المباركة )، كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: « من قرأ سورة أنزلناه في صلاة الفريضة، نادى مناد من قبل الله تعالى أن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك، فجدد العمل ». ( بحار الأنوار للشيخ المجلسي 327:92 / ح 3 ـ عن: ثواب الأعمال:112 ). كذلك ذكر من خواص هذه السورة الشريفة أن المداومة عليها تنفي الفقر.

النور الثالث
في سبب نزول هذه السورة المباركة، إذ جاءت لتسلي قلب رسول الله صلى الله عليه وآله لما أحزنه وأهمه من رؤيا رآها. قال الإمام الصادق عليه السلام: « رأى رسول الله صلى الله عليه وآله في منامه أن بني أمية يصعدون على منبره من بعده، ويضلون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيبا حزينا. قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول الله، ما لي أراك كئيبا حزينا ؟ قال: إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلون الناس عن الصراط القهقرى. فقال: والذي بعثك بالحق نبيا، إني ما اطلعت عليه. وخرج إلى السماء، فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها. قال:[أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ]سورة الشعراء:205 ـ 207 ]، وأنزل عليه: إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر ، جعل الله تعالى ليلة القدر لنبيه خيرا من ألف شهر ملك بني أمية » ( الكافي للكليني 159:4 ـ كتاب الصيام، باب في ليلة القدر / ح 10).
وفي تفسير السورة كذلك، كتب الفخرالرازي في ( التفسير الكبير ) في ظلها: روى القاسم ابن الفضل عن عيسى بن مازن قال: قلت للحسن بن علي... فقال عليه السلام: « إن رسول الله صلى الله عليه وآله رأى في منامه بني أمية يطأون منبره واحدا بعد واحد ( وفي رواية: ينزون على منبره نزو القردة ) فشق ذلك عليه، فأنزل الله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * يعني ملك بني أمية ». قال: قال القاسم بن الفضل: فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر.( رواه أيضا: الترمذي في صحيحه / ج 2 ـ عن يوسف بن سعد، والحاكم النيسابوري الشافعي في:المستدرك على الصحيحن 170:3 ـ عن يوسف بن مازن الراسبي، وابن جرير الطبري في تفسيره: جامع البيان 167:30 ـ عن عيسى بن مازن، والحافظ السيوطي الشافعي في: الدر المنثور ـ في ظل السورة ولكن عن ابن عباس أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فأوحى الله إليه: إنما هو ملك يصيبونه، ونزلت إنا أنزلناه... . ثم قال السيوطي: وأخرج الخطيب البغدادي عن ابن المسيب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " أريت بني أمية يصعدون منبري، فشق ذلك علي، فأنزل الله: إنا أنزلناه في ليلة القدر... ").

النور الرابع
إن الضمير في [إنا أنزلناه] عائد الى القرآن الكريم، فكان من الله جل وعلا أن فخم كتابه وعظمه، بإسناد إنزاله إلى نفسه، وشرف الوقت الذي أنزله فيه.

النور الخامس
نعلم جميعا أن القرآن الكريم نزل منجما آيات بعد آيات، وسورا بعد سور، وهذا يسمى تنزيلا، قال تعالى: [وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا [ سورة الإسراء:106. أما إرساله دفعة واحدة من العلو فيقال له إنزال، وقد قال تعالى في مستهل سورة القدر المباركة: إ[نا أنزلناه في ليلة القدر ]، مع علمنا أن القرآن نزل على مدى ثلاث وعشرين سنة، فما معنى ذلك ؟
إن تحقيق ذلك ـ على ما دلت عليه أخبار أهل البيت عليهم السلام أن القرآن نزل بتمامه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا على السفرة الكرام البررة، ثم كان جبريل ينزله على رسول الله صلى الله عليه وآله نجوما في ثلاثة وعشرين عاما، على حسب المقتضيات والمصالح التي يقدرها الله جل وعلا بحكمته، وبرحمته. فالمراد من إنزاله في ليلة القدر هو إنزاله الأول.

النور السادس
في وجه تسمية تلك الليلة المقدسة بـ « ليلة القدر » قال العلماء في هذا المقام: القدر بمعنى التقدير، وفي هذه الليلة تقدر الأرزاق والآجال وكل أمر سيحدث إلى العام القابل القادم، قال تعالى: [إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرا من عندنا، إنا كنا مرسلين * رحمة من ربك * إنه هو السميع العليم [ (سورة الدخان:3 ـ 6 ).
وقيل: القدر بمعنى الشرف، فهي ليلة العظمة تلك ليلة القدر، إذ هي خير من ألف شهر، تضاعف فيها ثوابات العبادات والطاعات.

النور السابع
ما هو السر في هذا السؤال:[وما أدراك ما ليلة القدر] في مقام الظاهر هو تفحيم الوقت الذي أنزل فيه القرآن الكريم، وفي العبارة دلالة واضحة على أن علو قدر تلك الليلة خارج عن دائرة دراية الخلق، فلا يدري عظمتها إلا علام الغيوب.
فالمعنى هو: أي شيء أعلمك ما ليلة القدر ؟ وفي ذلك تعجيب للسامع من شأن تلك الليلة في شرفها وجلالتها، حتى أنها خارجة عن دائرة علوم المخلوقين وأفهامهم. فحقيقتها مما لا يمكن إدراكه بالعقل مستقلا، إلا: بتعليم إلهي، وعون رباني، ووحي سماوي. إذن فليعلم القارئ والسامع أن إدراك كنه تلك الليلة ـ بل جميع الحقائق ـ ليس إلا بالإفاضة من مبدأ المبادئ وعلة العلل، كما أن جميع إدراكات الإنسان لا تكون إلا بعناية الله تعالى ومشيئته، وإرادته وحكمته، فإياه أن يغتر أو يتكبر، أو ينسب إلى نفسه ما ليس له! بل عليه أن يشكر ويستزيد ويدعو « وقل رب زدني علما » [ سورة طه:114 ].

النور الثامن
في سر تكرار « ليلة القدر » ثلاث مرات، مع إمكان التعبير عنها بالضمير « هي »، مثل: هي خير من ألف شهر، الظاهر أن الحكمة في ذلك هي تأكيد التفخيم لهذه الليلة العظيمة، وتحقيق الإجلال المتقدم مع رعاية خواتيم الآيات، وذلك يناسب شأن هذه الليلة التي اعتبرها الله تعالى خيرا من ألف شهر.
ولكن ما سر هذا العدد ( الألف ) يا ترى ؟ إن السورة نزلت تسلية لقلب رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن اغتم لرؤيا رآها أن بني أمية يملكون ـ غاصبين ظالمين منتهكين قاتلين ـ ألف شهر، فقال الله جل وعلا في تسلية حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله: ليلة القدر خير من ألف شهر . وأما العدد، فتخصيصه بالذكر جاء للتكثير، كما قد يعبر عن العدد الكثير بالسبعين، كما في قوله تعالى: إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم [ التوبة:80 ]، إذ ليس المراد الحصر في السبعين، بل المراد منه الكثرة.

النور التاسع
كيف تكون ليلة واحدة خيرا من ألف شهر ؟
قيل: يحتمل أن يكون المراد من ألف شهر، الشهور التي ليست فيها ليلة القدر. وقيل: يحتمل أن ليلة القدر خير من ألف شهر عدا ليلة القدر منها. وقيل أيضا: ليس لبني أمية في تلك الشهور ليلة قدر؛ لاختصاصها برسول الله صلى الله عليه وآله وبأهل بيته من بعده بنزول الأمر لهم فيها.
سئل الإمام الصادق عليه السلام: كيف تكون ليلة القدر خيرا من ألف شهر ؟ فأجاب: « العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر » ( الكافي 157:4 / ح 4 ـ باب في ليلة القدر).
وسئل الإمام الباقر عليه السلام: ليلة القدر خير من ألف شهر ، أي شيء عنى بذلك ؟ فأجاب :« العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا، ولكن الله يضاعف لهم الحسنات » ( من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق 158:2 ).

النور العاشر
ظاهر القرآن، وصريح الروايات عن الأئمة الأطهار، وصريح أقوال العلماء، إستمرار وجود ليلة القدر في كل عام إلى انقضاء عالم الزمان. وأما علماء أهل السنة، فأكثرهم يعتقدون وجودها وبقاءها ودوامها إلى آخر الدهر، وعن قليل منهم أنها رفعت، وهذا ما ينقضه الصنعاني عبدالرزاق في ( مصنفه ).
والآية واضحة في استمرار هذه الليلة، وهي قوله عز من قائل: تنزل الملائكة والروح فيها ، فالفعل مضارع يستمر، إذن فالتنزل جار في كل ليلة قدر من كل عام، ولكن هذا يعني بالضرورة أن هنالك من له الأهلية في أن تتنزل عليه الملائكة بأمر ربهم، ذلك هو المعصوم خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه بالحق، وهو في هذا الزمان صاحب الأمر والزمان صلوات الله وعلى آبائه الطاهرين.

النور الحادي عشر
في سر استتار ليلة القدر قيل: أجمع العلماء على: أن حكمة ذلك كالحكمة في إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات؛ ليحافظ الناس على جميع الصلوات. وكذا خفاء اسم الله الأعظم في الأسماء الحسنى؛ ليدعو الناس ربهم بجميع أسمائه، ولئلا يستغل لأغراض فاسدة. وكذا في خفاء ساعة الإجابة من بين ساعات الجمعة، للوجهين المتقدمين. وكما في إخفاء ذنب أقسم الله بأن يدخل فاعله نار جهنم، لكي يترك الناس جميع الذنوب.
كذلك ليلة القدر، أخفاها الله تعالى كي يجتهد المكلف في الطاعة، ويحيي من يريدها ثلاث ليال طلبا في إصابته إياها في إحداهن، فتكثر عبادته ولا يفرط في ليلتين دونها إذا علمها بعينها.
ثم ورد أن كل ليلة من ليالي القدر الثلاث لها خصوصياتها وشؤونها من التقدير والإمضاء والإبرام، وهي فرصة موسعة لمن داهمه مرض في إحداهن أو شغل مهم أو مصيبة نازلة، فيعوض ما فاتها في غيرها وتلك رحمة إلهية ببركة هذه الليلة الشريفة.

النور الثاني عشر
قوله تعالى: سلام هي حتى مطلع الفجر ، يوحي أن هذه الليلة ما هي إلا خير وسلامة، وما هي إلا سلام متواصل من قبل الملائكة لا انقطاع له حتى مطلع الفجر. جاء عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام قوله في ظل هذه الآية الشريفة: « تسلم عليك ـ يا محمد ـ ملائكتي وروحي بسلامي، من أول ما يهبطون إلى مطلع الفجر » ( الكافي 248:1 / ح 4 ).
وفيه أيضا عن الإمام الصادق عليه السلام أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام قال لابن عباس: « إن ليلة القدر في كل سنة، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، وإن لذلك الأمر ولاة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.. أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون » ( الكافي 247:1 / ح 2 ).
وقد تقدمت كلمة « سلام » على « هي » في الآية الشريفة، أي تقدم الخبر على المبدأ للاهتمام، والسلام اسم من أسماء الله تعالى، والسلام على الناس مطلوب ومحبوب وخلق حسن، وأمر يحبه الله تعالى، وهو القائل عز من قائل: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها [ سورة النور:27 ]، وقال جل وعلا: فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة [ سورة النور:61 ].
نسأله تعالى أن يجعلنا من المدركين لليلة القدر المباركة، على هدى وبصيرة وسلامة من قلوبنا وأرواحنا وديننا، ومعرفة بما نزل به كتاب الله، وما جاء عن رسول الله وعن أولياء الله، صلوات الله عليه وعليهم، إنه ولي المؤمنين سميع الدعاء، مشفق على أهل التوبة وأصحاب الرجاء.

المصدر:شبكة الإمام الرضا(ع)

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الخميس 1 فبراير 2018 - 14:55 بتوقيت مكة