ما لا تعرفه عن عمر المختار

الأحد 21 يناير 2018 - 23:20 بتوقيت مكة
ما لا تعرفه عن عمر المختار

ما إن تجلى لعمر المختار صحة ما إعتقد به منذ البداية، وهو عدم جدوى المفاوضات السياسية مع الدولة المستعمرة، حتى خاطب المجاهدين وأبناء شعبه قائلا: "فليعلم كل مجاهد أن غرض الحكومة الإيطالية إنما بث الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا .

السيد عمر بن مختار بن عمر المنفي الهلالي(20أغسطس 1858 -16سبتمبر1953)، الشهير بعمر المختار، الملقب بشيخ الشهداء، وشيخ المجاهدين، وأسد الصحراء، هو قائد أدوار السنوسية في ليبيا، وأحد أشهر المقاومين العرب و المسلمين. ينتمي إلى بيت فرحات من قبيلة منفة الهلالية التي تنتقل في بادية برقة.

حارب الإيطاليين وهو يبلغ من العمر 53 عاما لأكثر من عشرين عاما في عدد كبير من المعارك، إلى أن قبض عليه من قبل الجنود الطليان، وأجريت له محاكمة صورية انتهت بإصدار حكم بإعدامه شنقا، فنفذت فيه العقوبة على الرغم من أنه كان كبيرا عليلا، فقد بلغ في حينها 73 عاما وعانى من الحمىوكان الهدف من إعدام عمر المختار إضعاف الروح المعنوية للمقاومين الليبيين والقضاء على الحركات المناهضة للحكم الإيطالي، لكن النتيجة جاءت عكسية، فقد ارتفعت حدة الثورات، وانتهى الأمر بأن طرد الطليان من البلاد.

حصد عمر المختار إعجاب وتعاطف الكثير من الناس أثناء حياته، وأشخاص أكثر بعد إعدامه، فأخبار الشيخ الطاعن في السن الذي يقاتل في سبيل بلاده ودينه، إستقطبت انتباه الكثير من المسلمين والعرب الذين كانوا يعانون من نير الإستعمار الأوروبي في حينها، وحثت المقاومين على التحرك، وبعد وفاته حصدت صورته وهو معلق على حبل المشنقة تعاطف أشخاص أكثر، من العالمين الشرقي والغربي على حد سواء، فكبر المختار في أذهان الناس وأصبح بطلا شهيدا. رثا عدد من الشعراء المختار بعد إعدامه، وظهرت شخصيته في فيلم من إخراج مصطفى العقاد من عام1981حمل عنوان أسدالصحراء، وفيه جسد الممثل المكسيكي - الأمريكي أنطوني كوين دور عمر المختار.

نسبه

هو عمر المختار محمد فرحات ابريدان امحمد مومن بوهديمه عبد الله – علم مناف بن محسن بن حسن بن عكرمه بن الوتاج بن سفيان بن خالد بن الجوشافي بن طاهر بن الأرقع بن سعيد بن عويده بن الجارح بن خافي (الموصوف بالعروه) بن هشام بن مناف الكبير.  من بيت فرحات من قبيلة بريدان وهي بطن من قبيلة المنفة أو المنيف والتي ترجع إلى عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أولى القبائل الهلالية التي دخلت برقة. أمه عائشة بنت محارب.

نشأته

ولد عمر المختار في البطنان ببرقة في الجبل الأخضر عام 1862، وقيل عام 1858، وكفله أبوه وعني بتربيته تربية إسلامية حميدة مستمدة من تعاليم الحركة السنوسية قائمة على القرآن و السنة النبوية ولم يعايش عمر المختار والده طويلا، إذ حدث أن توفي والده وهو في طريقه إلى مدينة مكة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد. وبعد عودة أحمد الغرياني من الحج، توجه فورا إلى شقيقه الشيخ حسين وأخبره بما حصل وبرغبة مختار بن عمر أن يتولى شؤون ولديه، فوافق من غير تردد، وتولى رعايتهما محققا رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الإخوان والقبائل الأخرى.

حصد عمر المختار انتباه شيوخه في صباه، فهو اليتيم اليافع، الذي شجع القرآن الناس وحثهم على العطف على أمثاله كي تخفف عنهم مرارة العيش، كما أظهر ذكاء واضحا، مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء و الفقهاء والأدباء والمربين، الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وأفريقيا لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه. مكث عمر المختار في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه و الحديث و التفسير. ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم: السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني، وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة.

وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعا، وكان الأساتذة يبلغون الإمام محمد المهدي أخبار الطلبة وأخلاق كل واحد منهم، فأكبر الأخير في عمر المختار صفاته وما يتحلى به من أخلاق عالية. ومع مرور الزمن وبعد أن بلغ عمر المختار أشده، اكتسب من العلوم الدينية الشيئ الكثير ومن العلوم الدنيوية ما تيسر له، فأصبح على إلمام واسع بشؤون البيئة التي تحيط به وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها، وتوسع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فض الخصومات البدوية وما يتطلبه الموقف من آراء ونظريات،كما أنه أصبح خبيرا بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر و السودان في الخارج وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو وهي اختبارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل و الأغنام و الأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها.

خلال السنوات التي قضاها عمر المختار في الجغبوب حيث كان يكمل دراسته، تمكن من اكتساب سمعة حسنة وقوية عند شيوخ الحركة السنوسية وقد بلغت تلك السمعة من القوة أن قرر محمد مهدي السنوسي- ثاني زعماء السنوسية - عينه المهدي السنوسي في سنة1897 شيخا لبلدة تسمى زاوية القصور تقع بمنطقة الجبل الأخضر شمال شرق برقة، والتي تقع قريبا من مدينة المرج، وأحسن عمر المختار الأداء في هذا المنصب، رغم أن البلدة التي كلف بإدارتها كانت تقطنها قبيلة العبيد التي اشتهرت بشدة البأس وصعوبة الانقياد. وقد أدت علاقته الوثيقة بالسنوسيين إلى اكتسابه لقب سيدي عمر الذي لم يكن يحظى به إلا شيوخ السنوسية المعروفين.

حرب العصابات

وجد عمر المختار نفسه قد تحول من معلم للقرآن إلى مجاهد يقاتل في سبيل دينه وبلاده لدفع الاحتلال عنها. وكان قد إكتسب خبرة كبيرة في أساليب وتكتيكات الحروب الصحراوية أثناء قتاله الفرنسيين في تشاد، وكان له معرفة سابقة بجغرافية الصحراء وبدروبها ومسالكها وكل ما يتعلق بها، فإستغل هذه المعرفة وتلك الخبرة ليحصل على الأفضلية دوما عند مجابهته الجنود الإيطاليين غير العارفين بحروب الصحراء وغير المعتادين على قيظها وجفافها. أخذ المختار يقود رجاله في حملات سريعة على الكتائب العسكرية الإيطالية، فيضربوهم ضربات موجعة ثم ينسحبون بسرعة إلى قلب الصحراء.

في عام 1922 عقد شيخ وقائد الحركة السنوسية إدريس السنوسي صلحا مع إيطاليا، وقد غضب عمر المختار وباقي شيوخ القبائل وقادة الحركة عند علمهم بذلك، فقدموا إليه وثيقة يبايعونه فيها زعيما لهم، شريطة أن يكون ذلك للجهاد ضد الطليان فقط. ولم يكن لدى إدريس خيار سوى قبول البيعة، إلا أنه شد الرحال إلى مصر في اليوم التالي مباشرة مدعيا المرض والحاجة للعلاج، وقد تبين فيما بعد عند زيارة عمر المختار له هناك أنه كان بصحة جيدة. لكن بعد رحيل إدريس ومع اندلاع الحرب مجددا في المنطقة أصبحت مسؤولية القيادة كلها ملقاة على عاتق عمر المختار، فأصبح هو زعيم الحركة الجهادية في منطقة الجبل الأخضر، وبات يجمع المال والسلاح ويحرض القبائل ويترأس الغارات والهجمات ضد الطليان في برقة.

مفاوضات السلام في سيدي ارحومة

خلال منتصف فبراير سنة1929، نزلت قوات المجاهدين من جبل الهروج للإنقضاض على النوفلية من جانب وعلى إجدابيا من جانب آخر، فإجتمعت ثم إنقسمت ثلاث فرق إلتحمت إحداها مع الطليان في معركة عند قارة سويد في مارس5، وإشتبكت الثانية معهم في معركة كبيرة عند النوفلية في مارس14، واتجهت الثالثة صوب منطقة العقيلة في مارس23، وإستقر المجاهدون في جبل سلطان، لكنهم لم يمكثوا طويلا إذ إضطروا إلى الإنسحاب أمام القوات الإيطالية العظيمة صوب وادي الفارغ،كان لتلك الأعمال الأثر الأكبر في إقناع بادوليو بضرورة العمل فورا من أجل إستمالة المجاهدين إلى المفاوضة إذا أراد أن يضع برنامجه الواسع موضع التنفيذ، فطلب من أحد القادة العسكريين، وهو العقيدباريلا، أن يعلم عمر المختار برغبته بالإجتماع به للمفاوضة في شروط الصلح، فحدد باريلا موعدا للإجتماع دون أن ينتظر جواب المختار، إذ أراد أن ينتهز فرصة إطمئنان المجاهدين لقرب بداية المفاوضات وإنشغالهم بعيد الفطر، فانقض الطليان عليهم وهم يؤدون صلاة العيد، لكن المختار ورجاله تمكنوا مرة أخرى من رد الطليان على أعقابهم. أمام هذا الواقع، كلف بادوليو متصرف درنة المدعو "دودياشي" لتمهيد المفاوضة مع عمر المختار وصحبه، فإتصل بالمجاهدين وإقترح على المختار أن يكون الإجتماع يوم 2 مارس في منزل علي باشا العبيدي للبحث في موضوع الصلح، غير أن اللقاء طال حتى حصل أخيرا يوم 20 مارس، إذ كان المختار قد اشترط على الحكومة الإيطالية أن تظهر حسن نواياها، وذلك عبر إطلاق سراح السيد محمد الرضا وإعادته إلى برقة من منفاه، ولم يقبل الاجتماع مع أي مسؤول إيطالي قبل حصول ذلك.

إجتمع عمر المختار مع مندوب الحكومة دودياشي في منزل علي العبيدي كما تم الإتفاق، وحضر الاجتماع عدد كبير من مشايخ البلاد وأعيانها، ثم أجلت المفاوضة إلى الأسبوع التالي، وانعقد اجتماع آخر في سانية القبقب ولم يستطع المتفاوضون التوصل إلى نتيجة مرضية. عاد المختار واجتمع مع باريلا في الشليوني في الجبل الأخضر في يوم أبريل6ولم يصل المتفاوضون إلى نتيجة، وفي أبريل20 عادت المباحثات في بئر المغارة بوادي القصور بحضور عدد من الأعيان والأكابر، وخلالها خير مفوض الحكومة الإيطالية عمر المختار بين ثلاثة أمور: الذهاب إالى الحجاز، أو إلى مصر، أو البقاء في برقة، فإذا رضي بالبقاء في برقة أجرت عليه الحكومة مرتبا ضخما وعاملته بكل احترام، ولكن المختار رفض هذه الشروط رفضا قاطعا. وفي مايو26 بدأت المفاوضات من جديد، فحضر المختار إلى مكان قريب من القبقب. وفي هذا الاجتماع قدم الوفد الإيطالي فيه صيغة تقريرية لشروط إيطاليا وأبرزها تسليم المجاهدين نصف سلاحهم مقابل ألف ليرة للبندقية، وضم نصف المجاهدين الآخر الذي احتفظ بسلاحه إلى تنظيمات تنشئها الحكومة لفترة من الزمن يتفق عليها إلى أن يتم إعداد المكان المناسب لإقامتهم وتموينهم ومراقبتهم، ولم تتضمن تلك الشروط أي حق سياسي لليبيين وقد رفضها المختار بشدة كما عارض فكرة نزع السلاح من المجاهدين. وعقد اجتماع ثالث في قندولة حضره عدد من قادة المقاومة وعدد آخر من الأعيان والمشايخ، ولم يخف المختار في هذا الاجتماع شكوكه في نوايا إيطاليا، فطلب حضور مراقبين من مصر وتونس يشهدون على الاتفاق الذي يتم التوصل إليه،كما وضع عشرة شروط لعقد لصلح مع إيطاليا من بينها والمساواة بين الليبيين والمستوطنين الطليان بالإضافة إلى حضور المراقبين كفل الحقوق الدينية والثقافية بالسماح بتدريس الدين الإسلامي و اللغة العربيةوالحقوق السياسية بالسماح للشعب بانتخاب الحكومة علاوة على ترك السلاح في أيدي المواطنين الليبيين، ويقول شهود عيان أن هذا اللقاء كان صاخبا وتبودلت فيه الاتهامات إلا أنه تم الاتفاق على لقاء عمر المختار مع الفريق أول سيشلياني نائب الحاكم في برقة، وقد تم هذا اللقاء يوم يونيو3 1929 ويبدو أن الفريق أول سيشلياني أقنع المختار أن لقاءه مع المشير بادوليو قد يكون مفيدا ومثمرا، وتم الاتفاق على أن يعقد في سيدي أرحومة بالقرب من المرج يوم يونيو19 وقع لقاء سيدي أرحومة التاريخي بين حاكم ليبيا العام وقائد الثورة في برقه في المكان والزمان المحددين للتفاوض من أجل إحلال السلام في ربوع ليبيا، ووصل عمر المختار إلى سيدي أرحومة على رأس أربعمائة مقاتل وقد طوقوا المنطقة واتخذوا احتياطات أمنية للمحافظة على زعيمهم، ووصل بادوليو ورفاقه في أربع سيارات يرافقهم حشد من كبار الضباط ورجال الجيش والشرطة والموظفين. وفي الاجتماع قرأ المجاهدون شروطهم التي تسلمها بادوليو ووعد برفعها إلى رؤسائه، ودار نقاش حول السلام والتنازلات التي قدمها كل من الطرفين وأقترح المشير بادوليو عقد هدنة لمدة شهرين تتوقف فيها جميع العمليات العسكرية. انتهى الاجتماع بصورة ودية وتبادل الطرفان الهدايا، فقد وزع بادوليو ساعات ذهبية على مساعدي عمر المختار وأهدى الأخير جوادا عربيا أصيلا إلى بادوليو، وأخذت الصور التذكارية للمفاوضين يتوسطهم عمر المختار وبادوليو. وكان لقاء عمر المختار ببادوليو لقاء الند للند.

عاد بادوليو من سيدي ارحومة الى بنغازي يحمل مفاجأة كبيرة أذهلت الجميع، فقد أبرق إلى روما معلنا أن عمر المختار ورجاله قد استسلموا دون ذكر الشروط التي تم على أساسها الاستسلام، وعقد في طرابلس الغرب مؤتمرا صحافيا نفى فيه أنه قام بمفاوضات مع عمر المختار وأن الأخير استسلم بناء على ضغط رجاله الذين أرهقتهم الحرب والحرمان والمصاعب، وذهل الناس في ليبيا لهذا النبأ، وكان عمر المختار أكثرهم ذهولا، فهو لم يستسلم ولم يعد بادوليو بشيء باستثناء الاتفاق على هدنة شهرين، غير أن هذا الاستسلام المزعوم كذبته الوقائع فقد ظل عمر المختار ورجاله محتفظين بسلاحهم ينتظرون رد إيطاليا بخصوص مواصلة المفاوضات ولكن الإيطاليون صدقوا بادوليو وظلوا ينتظرون وصول عمر المختار إلى بنغازي مستسلما وطال انتظارهم ولم يسلم المجاهدون بندقية واحدة.

ما إن تجلى لعمر المختار صحة ما إعتقد به منذ البداية، وهو عدم جدوى المفاوضات السياسية مع الدولة المستعمرة، حتى خاطب المجاهدين وأبناء شعبه قائلا: "فليعلم كل مجاهد أن غرض الحكومة الإيطالية إنما بث الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا ليتم لهم الغلبة علينا وإغتصاب كل حق مشروع لنا كما حدث كثير من هذا خلال الهدنة، ولكن بحمد الله لم توفق إلى شيئ من ذلك. وليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطالية شريفة، وما مقاصدنا إلا المطالبة بالحرية وإن مقاصد إيطاليا وأغراضها ترمي إلى القضاء على كل حركة قومية تدعو إلى نهوض الشعب الطرابلسي وتقدمه... فهيهات أن يصل الطليان إلى غرضهم مادامت لنا قلوب تعرف أن في سبيل الحرية يجب بذل كل مرتخص وغال». ثم ختم المختار هذا النداء بقوله: "لهذا نحن غير مسؤولين عن بقاء هذه الحالة الحاضرة على ما هي عليه حتى يتوب أولئك الأفراد النزاعون إلى القضاء علينا إلى رشدهم ويسلكوا السبيل القويم ويستعملوا معنا الصراحة بعد المداهنة والخداع.

إنفجار الموقف

إنفجر الموقف قبل ثلاثة أسابيع من الموعد الذي حدده عمر المختار لإنتهاء الهدنة، فقد هاجمت مجموعة من المجاهدين دورية من الضابطية وأبادتها، وتسبب الحادث في غضب الإيطاليين وبادوليو بصورة خاصة الذي انهارت آماله في إنهاء الثورة سلميا، وانزعج موسوليني وأوقف الاتصالات الجارية في مصر وأمر بالعودة إلى القوة والحرب. اتهمت إيطاليا عمر المختار بالخيانة وخرق الهدنة، وعلى الرغم من أن حادث الاعتداء على الدورية الإيطالية كان محاطا بالغموض، وتأكيد عمر المختار أنه لم يأمر بعمل كهذا وهو الذي حدد موعد إنتهاء الهدنة وهو الحريص على وعوده وتعهداته. ويرجح أن الذي دبر الحادث هو من المستفيدين من الحرب وبعضهم كان يتعاون مع الثوار ويبيع لهم السلاح. وكان رد فعل الفريق أول سيشلياني على قتل أفراد الدورية إرسال أربع طائرات لقصف منتجعات المجاهدين بمن فيها من نساء وأطفال وشيوخ وقد تمكن المجاهدون من إسقاط إحدى الطائرات وأسر طيارها، وأصدر سيشلياني بعد مرور يوم على الحادث بيانا قال فيه: "لقد فرضت علينا خيانة عمر المختار استئناف الحرب ضد الثوار وسيكون قتالا شاملا بدون رحمة أو توقف ضد كل من يرفع السلاح في وجه الحكومةأو حمله بدون ترخيص.وما لبثت المعارك أن انتشرت في منطقة الجبل الأخضر حتى أقفلت جميع الطرق، فحشد الإيطاليون قواتهم وطائراتهم وآلياتهم لمهاجمة وتطويق الثوار وإبادتهم، وتولى الطيران الدور الأول في المعركة. لكن القوات الإيطالية فشلت في مهمتها وتمكن الثوار من الإفلات من عملية التطويق بفضل إستماتة قوات الحماية كما إعترف الفريق أول سيشلياني بذلك. وكانت هذه أول معركة يخوضها بادوليو ضد المجاهدين ولم تختلف نتائجها عن نتائج المعارك التي سبقتها والتي أطاحت بثلاثة حكام طليان، وقد أدرك بادوليو أن خصمه شديد ومنظم وذكي ولا يمكن التغلب عليه في حرب تقليدية وقد وصف بادوليو عمر المختار لوزير المستعمرات فكتب: "عمر المختار هو المحور الذي تدور حوله الثورة وهو يحظى بسلطة ونفوذ مطلقين ولا يشاركه أحد في السلطة ولديه نواب مخلصون وملتزمون فمن المستحيل إستعمال الأسلوب المعتاد لإستغلال كوامن الغيرة والتنافس والحقد التي تتوفر دائما حيث يوجد عدة زعماء، إن إرادة عمر المختار القوية هي التي تملي القوانين في أي وقت وأي ظرف.

إعتقال المختار

في شهر أكتوبر سنة1930 تمكن الطليان من الإشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثروا عقب إنتهائها على نظارات عمر المختار، كما عثروا على جواده المعروف مجندلا في ميدان المعركة؛ فثبت لهم أن المختار ما زال على قيد الحياة، وأصدر غراتسياني منشورا ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على "أسطورة المختار الذي لايقهر أبدا" وقال متوعدا: "لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغدا نأتي برأسه."

وفي سبتمبر11 من عام1931 توجه عمر المختار بصحبة عدد صغير من رفاقه، لزيارة ضريح الصحابي رويفع بن ثابتبمدينة البيضاء. وكان أن شاهدتهم وحدة إستطلاع إيطالية، وأبلغت حامية قرية السلنطة التي أبرقت إلى قيادة الجبل باللاسلكي، فحركت فصائل من الليبيين والإرتريين لمطاردتهم. وإثر إشتباك في أحد الوديان قرب عين اللفو، جرح حصان عمر المختار فسقط إلى الأرض. وتعرف عليه في الحال أحد الجنود المرتزقة الليبيين.

يقول المجاهد التواتي عيد الجليل المنفي، الذي كان شاهدا على اللحظة التي أسر فيها عمر المختار من قبل الجيش الإيطالي: كنا غرب منطقة سلنطة... هاجمنا الأعداء الخيالة وقتل حصان سيدي عمر المختار، فقدم له إبن أخيه المجاهد حمد محمد المختار حصانه وعندما هم بركوبه قتل أيضا وهجم الأعداء عليه.. ورآه أحد المجندين العرب وهو مجاهد سابق له دوره. ذهل واختلط عليه الأمر وعز عليه أن يقبض على عمر المختار فقال: "يا سيدي عمر.. يا سيدي عمر!!" فعرفه الأعداء وقبضوا عليه. ورد عمر المختار على العميل العربي الذي ذكر اسمه واسمه عبد الله بقوله: "عطك الشر وأبليك بالزر"

نقلت برقية من موريتي، النبأ إلى كل من وزير المستعمرات دي بونو وحاكم ليبيا بادوليو والفريق أول غراتسياني، جاء فيها: "تم القبض على عمر المختار.. في عملية تطويق بوادي بوطاقة جنوب البيضاء وقد وصل مساء الأمس إلى سوسة الكومنداتور دودياتشي الذي تعرف عليه ووجده هادئ البال ومطمئنا لمصيره، الخسائر التي تكبدها المتمردون هي 14 قتيلا."وتم استدعاء أحد القادة الطليان، وهو متصرف الجبل الأخضر دودياشي الذي سبق أن فاوض عمر المختار للتثبت من هوية الأسير. وبعد أن التقطت الصور مع الأسير، نقل عمر المختار إلى مبنى بلدية سوسة، ومن هناك على ظهر طراد بحري إلى سجن بنغازي مكبلا بالسلاسل.

في السجن

عندما وصل الأسير إلى بنغازي، لم يسمح لأي مراسل جريدة أو مجلة بنشر أية أخبار أو مقابلات، وكان على الرصيف مئات من المشاهدين عند نزوله في الميناء ولم يتمكن أي شخص مهما كان مركزه أن يقترب من الموكب المحاط بالجنود المدججين بالسلاح. ونقل المختار في سيارة السجن تصحبه قوة مسلحة بالمدافع الرشاشة حيث أودع في زنزانة صغيرة خاصة منعزلة عن كافة السجناء السياسيين وتحت حراسة شديدة، وكان يتم تغيير الحراس كل فترة .

أثناء مكوث عمر المختار في السجن، أراد المأمور رينسي، وهو السكرتير العام لحكومة برقة، في أمسية الرابع عشر من سبتمبر أن يقحم الشارف الغرياني في موقف حرج مع عمر المختار فأبلغه بأن المختار طلب مقابلته، أي الغرياني، وأن الحكومة الإيطالية لا ترى مانعا من تلبية طلبه، وذهب الشارف الغرياني إلى السجن لمقابلة المختار، وعندما إلتقيا خيم السكون الرهيب ولم يتكلم المختار فقال الشارف الغرياني مثلا شعبيا مخاطبا به المختار:"الحاصلة سقيمة والصقر ما يتخبل"، وماكاد المختار يسمع المثل المذكور حتى رفع رأسه ونظر بحدة إلى الشارف الغرياني وقال له:"الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه." وسكت هنيهة ثم أردف قائلا: "رب هب لي من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، أنني لم أكن في حاجة إلى وعظ أو تلقين، أنني أومن بالقضاء والقدر، وأعرف فضائل الصبر والتسليم لإرادة الله، إنني متعب من الجلوس هنا، فقل لي ماذا تريد؟ وهنا أيقن الشارف الغرياني بأنه غرر به فزاد تأثره وقال للمختار: "ما وددت أن أراك هكذا ولقد أرغمت نفسي للمجيئ بناء على طلبك..." فقال المختار: "والجبل الشامخ أنا لم أطلبك ولن أطلب أحدا ولا حاجة لي عند أحد"، ووقف دون أن ينتظر جوابا من الشارف الغرياني، وعاد الأخير إلى منزله وهو مهموم حزين وقد صرح بأنه شعر في ذلك اليوم بشيئ ثقيل في نفسه ما شعر به طيلة حياته، ولما سئل الشارف الغرياني عن نوع الثياب التي كان يرتديها عمر المختار أهي ثياب السجن أم ثيابه التي وقع بها في الأسر كان جوابه بيتان من الشعر:

المحاكمة

عليه ثياب لو تقاس جميعها                  بفلس لكان الفلس منهن أكثرا

وفيهن نفس لو تقاس ببعضها             نفوس الورى كانت أجل وأكبر

المحاكمة

في الساعة الخامسة مساء في سبتمبر15 1931، جرت محاكمة عمر المختار التي أعد لها الطليان مكان بناء برلمان برقة القديم، وكانت محاكمة صورية شكلا وموضوعا، إذ كان الطليان قد أعدوا المشنقة وانتهوا من ترتيبات الإعدام قبل بدء المحاكمة وصدور الحكم على المختار، ويبدو ذلك جليا من خلال حديث غراتسياني مع المختار خلال مقابلتهما، حين قال له: "إني لأرجو أن تظل شجاعا مهما حدث لك أو نزل بك."، فأجابه المختار: "إن شاء الله."

جيئ بعمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبلا بالحديد، وحوله الحرس من كل جانب، وأحضر أحد التراجمة الرسميين ليتولى الترجمة للمختار وللقضاة، فلما افتتحت الجلسة وبدأ إستجواب المختار، بلغ التأثر بالترجمان حدا جعله لايستطيع إخفاء تأثره وظهر عليه الارتباك، فأمر رئيس المحكمة بإستبعاده وإحضار ترجمان آخر فوقع الاختيار على أحد اليهود من بين الحاضرين في الجلسة، فقام بدور المترجم، وكان عمر المختار جريئا صريحا، يصحح للمحكمة بعض الوقائع، خصوصا حادث الطيارين الإيطاليين أوبر وبياتي، الذين أسرهما المجاهدون قبل ذلك، وبعد إستجواب المختار ومناقشته، وقف المدعي العام بيدندو، فطلب الحكم على عمر المختار بالإعدام. وكان لحضور المختار في المحكمة أمام خصومه أثر في نفوسهم، فرؤية شيخ طاعن في السن مكبل بالسلاسل، صريح وشجاع عندما يتكلم، كان لها وقع على الكثير من الحاضرين، ولعل أبرز ما يظهر ذلك هو أنه عندما جاء دور المحامي المعهود إليه بالدفاع عن المختار، وكان ضابطا إيطاليا شابا من رتبة نقيب يدعى روبرتو لونتانو، حاول أن يبقي على حياة المختار، فطالب بالحكم عليه بالسجن المؤبد نظرا لشيخوخته وكبر سنه، متحججا بأن هذا عقاب أشد قساوة من الإعدام. غير أن المدعي العام، تدخل وقطع الحديث على المحامي وطلب من رئيس المحكمة أن يمنعه من إتمام مرافعته مستندا في طلبه هذا إلى أن الدفاع خرج عن الموضوع، وليس من حقه أن يتكلم عن كبر سن عمر المختار وشيخوخته ووافقت المحكمة. عندئذ وقف المحامي وقال:"إن هذا المتهم الذي إنتدبت للدفاع عنه: إنما يدافع عن حقيقة كلنا نعرفها، وهي الوطن الذي طالما ضحينا نحن في سبيل تحريره، إن هذا الرجل هو ابن لهذه الأرض قبل أن تطأها أقدامكم، وهو يعتبر كل من احتلها عنوة عدوا له، ومن حقه أن يقاومه بكل ما يملك من قوة، حتى يخرجه منها أو يهلك دونها، إن هذا حق منحته إياه الطبيعة والإنسانية.. إن العدالة الحقة لا تخضع للغوغاء وإني آمل أن تحذروا حكم التاريخ، فهو لا يرحم، إن عجلته تدور وتسجل ما يحدث في هذا العالم المضطرب." وهنا كثر الضجيج ضد المحامي ودفاعه، لكنه استمر بالكلام والدفاع عن المختار، فقام النائب العام ليحتج، فقاطعه القاضي برفع الجلسة للمداولة، وبعد مضي فترة قصيرة من الانتظار دخل القاضي والمستشاران والمدعي العام بينما المحامي لم يحضر لتلاوة الحكم القاضي بإعدام عمر المختار شنقا حتى الموت، وعندما ترجم الحكم إلى عمر المختار اكتفى بالقول: "إن الحكم إلا لله.. لا لحكمكم المزيف.. إنا لله وإنا إليه راجعون."

إعدام عمر المختار

في صباح اليوم التالي للمحاكمة، أي الأربعاء في سبتمبر 16 1931، اتخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحكم بإحضار جميع أقسام الجيش و الميليشيا والطيران، وأحضر 20 ألف من الأهالي وجميع المعتقلين السياسيين خصيصا من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم. وأحضر المختار مكبل الأيادي وفي تمام الساعة التاسعة صباحا سلم إلى الجلاد، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وبصوت مدوي لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار إذا تحدث إليهم أو قال كلاما يسمعونه، لكنه لم ينبس بكلمة، وسار إلى منصة الإعدام وهو ينطق الشهادتين، وقيل عن بعض الناس الذين كان على مقربة منه انه كان يؤذن في صوت خافت آذان الصلاة عندما صعد إلى الحبل، والبعض قال أنه تمتم بالآية القرآنية{ يا أيتها النفْس الْمطْمئنة *ارجعي إلى ربك راضية مرضية } وبعد دقائق كان قد علق على المشنقة وفارق الحياة.

سبق إعدام المختار أوامر شديدة الحزم بتعذيب وضرب كل من يبدي الحزن أو يظهر البكاء عند تنفيذ الحكم، فقد ضرب جربوع عبد الجليل ضربا مبرحا بسبب بكائه عند إعدام عمر المختار. ولكن علت أصوات الاحتجاج ولم تكبحها سياط الطليان، فصرخت فاطمة داروها العبارية وندبت فجيعة الوطن عندما علا المختار مشنوقا، ووصفها الطليان "بالمرأة التي كسرت جدار الصمت." يقول الدكتور العنيزي: "لقد أرغم الطليان الأهالي والأعيان المعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة، وحضور التنفيذ وكنت أحد أولئك الذين أرغمهم الطليان على المحاكمة، ولكني وقد استبد بي الحزن شأني في ذلك شأن سائر أبناء جلدتي، لم أكن أستطيع رؤية البطل المجاهد على حبل المشنقة فمرضت، ولم يعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشؤوم، إلا عندما تيقنوا من مرضي وعجزي عن الحضور."

المصدر: ويكيبيديا

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأحد 21 يناير 2018 - 23:20 بتوقيت مكة