الحياة الطيبة...ثمرة الآمرين بالعدل (القسم الثالث)

السبت 25 نوفمبر 2017 - 11:12 بتوقيت مكة
الحياة الطيبة...ثمرة الآمرين بالعدل (القسم الثالث)

طبيعة الحاضر لمجتمع البُكم يتلخص في: تعطيل القدرات، وفي اللهث وراء العلف الذي يؤول إلى تثبيت عرش الطاغي،وهي حياة مظلمة بظلمات الضلال والطغيان والنفاق التي تحجب نور العقل وهدى الوحي...

آية الله المجاهد الشيخ نمر باقر النمر

كان الحديث في الحلقتين الأولى والثانية عن: أن الحياة قائمة على سنن محكمة لا تتبدل ولا تتحول، وتُحَدِّدُ هذه السننُ طبيعةَ الحاضر، وتنبئ بآفاق المستقبل، ومن رحم ثوابت السنن، تتولد كل التحولات والتغيرات الكونية والإنسانية، لتعاد إلى أحضان ثوابت التشريع المستوحاة من بحار السنن لتملي على الإنسان بصائر وهدى ورحمة من المعارف والعلوم والمفاهيم، والأحكام والإرشادات والوصايا، ليختار منها الإنسان ذاته ما ينسجها لتكوين لباس شخصيته ولِيُكَوِّن من خلالها مجريات السنن المحكمة التي تثمر الحياة الطيبة أو الحياة الخبيثة، ولكي تتجلى هذه النظرية بوضوح يخترق كل حجب الغشاوة التي تحول بين الإنسان والبصيرة المعرفية، أضرب أمثلة لبعض السنن التي تجري في هذه الحياة:

المثال الأول: سُنَّة الظلم.

المثال الثاني: سُنَّة العدل.

المثال الثالث: سُنَّة البُكم.

والبُكم هم كل من يسكت عن قول الحق:

1. السُّنَّة هي: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} ، و في الحديث عن الامام علي (ع):"لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم."

2. طبيعة الحاضر لمجتمع البُكم يتلخص في: تعطيل القدرات، وفي اللهث وراء العلف الذي يؤول إلى تثبيت عرش الطاغي، أو خدمة مصالح زعماء الباطل. وهم صدًى يرددون نعيق الناعق لعقيدة الضلال، ونظريات الحمية. وهي حياة مظلمة بظلمات الضلال والطغيان والنفاق التي تحجب نور العقل وهدى الوحي، وتَسلُب الكرامة والعدل والحرية، وتوقد نار الفتن والصراعات. وهي حياة العجز عن التعامل مع الحياة، والاستسلام لطواغيت السياسة والمال والمجتمع والدين. وحياة التواكل والكسل، ومَنْ ينتظر الغيب لتغيير حياته، والآخرين لإصلاح وضعه.وحياة التقوقع في مستنقع الشر والتخلف، وانعدام الخير، وعدم الإنتاجية، لأن الأبكم فاقد للخير فلا خير فيه ولن يأتي منه الخير، وفي هذه الحلقة الثالثة سيكون الحديث مكملاً للحديث عن بُكم البصيرة.

3. آفاق المستقبل هي: جو قاتم كالح بالظلام، متفحم بالسواد، لا تجد فيه لشعاع النور من بصيص، لأنه مجتمع البُكم الذي أخرسه الخوف من الطغاة، وأبكمته مصالح الأهواء والشهوات عن الأمر بالعدل وقول الحق، فلن يجد النور ولن يهتدي الطريق للحياة الطيبة، فضلاً عن تنشئة الأجيال، أو تشييد حضارة الإنسان والسماء، فلا يرجى ولن يرجى منه الخير أبداً: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} في أي مجال من مجالات الحياة: العقائدية، والسياسية، والفكرية، والثقافية، والأدبية، والاجتماعية، والأسرية، والتربوية، والأخلاقية، والسلوكية، والاقتصادية، والمالية. فهو مجتمع يزداد فيه الفشل والفساد العام والشامل استفحالاً وتطاولاً في كل مناحي الحياة، لانعدام أو انهيار أو تآكل البنية التحتية للإنسان السوي، حيث نراه يتشوش عقائدياً، ويتخبط سياسياً، ويتبلد فكرياً، ويتخلف ثقافياً، وينحط أدبياً، ويتمزق اجتماعياً، ويتفكك أسرياً، ويستعصي تربوياً، وينهار أخلاقياً، ويتطفل سلوكياً، ويتجشع - من الجشع - اقتصادياً، ويتسافه - من السفه - مالياً.

فتشتد ظلمة الرذيلة، ويخبو نور الفضيلة، وينطبع منحى الذل، وتمحى قيمة الكرامة، ويَتَّسع مسلك الجور استفحالاً، ويُطوى مبدأ العدل انكماشاً، وتزداد قبضة الاستبداد استحكاماً، وعرى الحرية تفككاً، ولن يُقَدَّرَ فيه الفاضلُ، ولن يُلامَ فيه السافلُ، ولن يَحترمَ الصغيرُ فيه الكبيرَ، ولن يَرحمَ الكبيرُ فيه الصغيرَ، وسيتضاعف الظلم والجور، ويشرعن العدوان والطغيان، وتشتعل الفتن والصراعات، ويعم الهرج والمرج، وتنتشر الفوضى، ويكثر التفكك، ويسلب الأمن، وتنتهك الحرمات، وتسلب الحقوق، وتداس الكرامات، وتهتك الأعراض، ويُفرَض الاستغلال، ويستساغ الكذب والتزوير، ويتغلغل النفاق، وينخر الشقاق، ويعود فكر الضلال، ومنهج الجحود، ويتنادى للتعاون على الإثم والعدوان، وتتأله الأهواء، ويُستلذ بالنزوات، ويُستجاب للشهوات، وتتحكم مصالح المحسوبيات، وينهار سور القيم، وتتهاوى حصون الأمة، وتُخترَق هويتُها، ويَتغلغل الغزاة، ويسيطر الأعداء على مقدرات الأمة وشعوبها، ويعبثوا بقيمها ومبادئها، ويُبَدِّلوا هويتَها وشخصيتَها، فيُرى المنكرَ معروفاً، والمعروفَ منكراً، فيُجَاهر بالفحشاء، فينتشر الفساد، ويظهر للعيان بجلاء ووضوح {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى الأمر بالعدل والقول بالحق والصدع بالرسالة دون خوف أو مواربة أو تردد أو مداهنة، لِيَدُبَّ فيهم نورُ الله، ويستيقظوا من طول السبات، ويستفيقوا من الغفلة، وينبعثوا من جديد، ويرتووا من زُلال الحياة، لإحياء القلوب الميتة، وتنشئة الأجيال، وتشييد الحضارات، قال أمير المؤمنين عليه السلام: :"من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت بين الأحياء".

4. رحمُ ثوابت السنن لوحٌ محفوظ مرصع بالذهب منقوش فيه: {لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم} و عن رسول الله (ص):"لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء." إن المجتمع الذي يتخذ الحياد منهجاً، ليخفي سوءة خوفه وجبنه، ويزعم الوسطية شرعة له -ولا توجد منطقة وسطى بين الحق والباطل- ليبرر تخاذله ونفاقه، فيَبْكُم عن الأمر بالعدل، ويخرس عن قول الحق، ستكون النتيجة الطبيعية للسنة الإلهية هي فقد الخيرات، وانتزاع البركات، وتسلط الأشرار على المجتمع، فيحكم الطاغي المستبدُ البلادَ والعبادَ، ويعتلي العالمُ الفاسدُ المنافقُ سدةَ الشأنِ الديني، ويتصدى العابدُ الجاهلُ المخادعُ للشعائر الإلهية، ويتصدر الوجيهُ المتملقُ المتعجرفُ واجهةَ المجتمعِ، ويجتمع المالُ عند الملتوي الشحيحِ المتكبرِ، وينبح المثقفُ المغرورُ المتزلزلُ بالفكر والعلمِ.

وفي الحديث القدسي قال الله سبحانه وتعالى لعيسى بن مريم عليه السلام: «قل لمن تمرد عليّ بالعصيان، وعمل بالإدهان ليتوقع عقوبتي» بالإجتثاث أو تسليط الأشرار، أو سلب الأمن، أو دوامة من الصراعات، أو زوبعة من الأزمات، مع أن المداهن قد يأتي منه بعض الخير وهو أقل سوء من الأبكم الذي لا خير فيه أصلاً، وقال الإمام الباقر عليه السلام: «أوحى الله إلى شعيب النبي عليه السلام: إني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم.

فقال: يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟

فأوحى الله عز وجل إليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي».

والإدهان: كالمداهنة، والمداهنة: المساهلة والمصانعة والنفاق وترك المناصحة والصدق، قال الله سبحانه وتعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}.

5. ثوابت التشريع هي: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} ، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} إن موقف الحياد، والوسطية بين الحق والباطل، واللين والتساهل في القيم، كل أولئك محرمٌ وغير جائز في أصول التشريع الإسلامي، ويجب على المكلف القادر أن يتخذ موقفاً ينصر فيه الحق ويخذل به الباطل.

فعن أبي الحسن الرضا عليه السلام في قول الله تعالى: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ» قال: «إذا سمعت الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في أهله فقم من عنده ولا تقاعده».

وعن شعيب العقرقوفي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ» فقال: «إنما عنى الله بهذا إذا سمعت الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة فقم من عنده ولا تقاعده كائناً من كان».

وعن علي عليه السلام: «لا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا، ولا تدهنوا في الحق فتخسروا».

وعنه عليه السلام: «لا ترخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة، لا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية».

وعنه عليه السلام: «لا تداهنوا في الحق إذا ورد عليكم وعرفتموه فتخسروا خسرانا مبيناَ».

وعنه عليه السلام: «ولعمري ما عليَّ من قتال من خالف الحق، وخابط الغي، من إدهان ولا إيهان» من الوهن أي الضعف.

وعنه عليه السلام: «إعلموا رحمكم الله أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل» أي قليل «أهله معتكفون على العصيان، مصطلحون على الإدهان».

فكثرة البُكم وقلة الآمرين بالعدل لا تبرر الحياد ولا تشرعن الصمت، ولذلك يحرم على الإنسان أن يسخط الله ويغضبه بِبُكمِهِ عن الأمر بالعدل، وصمتِه عن قول الحق، ليرضي أحداً من العباد، وإن كان أباً أو أماً أو عالماً أو خليلاً، فضلاً عن الحاكم أو المتحزب أو غيرهما.

فعن أبي عبد الله عليه السلام: «لا تسخطوا الله برضا أحد من خلقه ولا تتقربوا إلى الناس بتباعد من الله»، فيجب على المكلف القادر أن يقوم لله سبحانه وتعالى إذا رأى منكراً من القول، أو فحشاً من العمل، أو رأى واجباً يُترك، أو محرماً يُرتكب، ولا يجوز له الصمت ولا الحياد، بل يجب عليه أن يغضب لله، فيأمر بالعدل والمعروف والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر والعدوان، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة».

وعن أبي عبد الله عليه السلام: «لا تسخطوا الله برضى أحد من خلقه ولا تتقربوا إلى الناس بتباعد من الله»، فيجب على المكلف القادر أن يقوم لله سبحانه وتعالى إذا رأى منكراً من القول، أو فحشاً من العمل، أو رأى واجباً يُترك، أو محرماً يُرتكب، ولا يجوز له الصمت ولا الحياد، بل يجب عليه أن يغضب لله، فيأمر بالعدل والمعروف والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر والعدوان، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة».

6. إن البُكم عن الأمر بالعدل هو الأرضية المحروثة، والسماد الكيمياوي لتغيير الشريعة، وتعطيل الأحكام، وتسلط الطغاة، واستعباد الناس، وسلب الكرامات، واحتكار الثروات، وأما الأمر بالعدل فإنه هو الصراط المستقيم الذي يجمع بداخله كل الخيرات، ويحافظ على صحة فكر المجتمع من الأمراض، وسلامة تفكيره من الآفات، وأقدام مسيرته من الانزلاق في المستنقعات، وتشييد الحياة الكريمة المغمورة بالطيبات.

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 25 نوفمبر 2017 - 11:00 بتوقيت مكة