دراسة في سيرة الإمام الرضا (عليه السلام) وولاية العهد

الأربعاء 22 نوفمبر 2017 - 10:55 بتوقيت مكة
دراسة في سيرة الإمام الرضا (عليه السلام) وولاية العهد

دراسة في سيرة الإمام الرضا (عليه السلام) وولاية العهد من خلال كلمات قائد الثورة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

حياة الأئمة (عليهم السلام):

علينا الاعتراف بأن حياة الأئمة(ع) لم تُعرف وتفهم بالشكل المطلوب والكامل، حتى أن مقامهم وموقعهم الجهادي في الحياة قد بقي مخفياً حتى عن الشيعة أنفسهم. وعلى رغم وجود آلاف الكتب الكبيرة والصغيرة، قديماً وحديثاً تتناول سيرة وحياة الأئمة(ع)، فإن قسماً كبيراً ومهماً من سيرة أولئك العظام ما زال محجوباً بأستار الغموض والإجمال، كما أن الحياة السياسية لأبرز وجوه آل بيت النبوة التي امتدت لقرنين ونصف وكانت تشكل أهم مراحل تاريخ الإسلام ابتليت بكثير من المحققين والكتّاب الذين كانوا ينطلقون في دراستهم من خلفيات مسبقة، أو من تقصير في التدقيق، أو أنهم أصلاً من ذوي الانحرافات، مع افتقارنا إلى التاريخ المدون والموثق لحياة الأئمة المليئة بالأحداث والتطورات.

  إن حياة الإمام الثامن علي الرضا(ع) السياسية والتي استمرت عشرين سنة تقريباً من هذه الحقبة (القرنين ونصف) كإمام هي جديرة بالتحقيق والدراسة المعمقة وذلك لأنها كانت من جملة المحطات الحساسة والبارزة لتلك الحقبة.

  والآن عندما ندقق النظر لنعرف ما هو أهم شيء لم تتم دارسته بالشكل المطلوب والمناسب في حياة الأئمة(ع) نجد أنه عنصر المواجهة السياسية القاسية والعنيفة؛ فمنذ بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري وحيث تحولت الخلافة الإسلامية بشكل واضح وفاضح إلى سلطنة بكل معنى الكلمة في جميع الجوانب وتبدلت الحكومة (أمانة الله) إلى حكومة متسلطة (ملكية) كانت المواجهة السياسية لأهل البيت(ع) تشتد وتتطور بأسلوب يتناسب مع الأوضاع والظروف المستجدة. وهذه المواجهة كان هدفها الأساسي تشكيل النظام الإسلامي وبناء الحكومة على أساس مبدأ الإمامة، ومن دون شك كان أيضاً تبيين وشرح الدين من وجهة نظر أهل بيت الوحي، ورفع الشبهات ومواجهة الانحرافات، ونشر المعارف والأحكام الإسلامية، من جملة الأهداف المهمة لجهاد أهل البيت(ع).

  لكن بعد الاطلاع على حركة أهل البيت نرى قرائن لا تقبل الشك تدل على أن جهاد أهل البيت لم يكن محدوداً وناظراً فقط لتحقيق هذه الأمور، بل نرى أن الهدف الأسمى لذلك الجهاد لم يكن إلا تشكيل الحكومة العلوية وبناء النظام الإسلامي العادل؛ فكل المصاعب والآلام والمرارات والتضحيات في حياة الأئمة وأصحابهم كانت في سبيل هذا الهدف. والأئمة، بدءاً من زمان الإمام السجاد، أي بعد حادثة عاشوراء، ووصولاً إلى آخرهم، كانوا ينهضون لأجل تهيئة الأرضية اللازمة لتصبح على المدى البعيد مستعدة لتحقيق هذا الهدف (الحكومة العلوية). فعلى مدى الفترة الممتدة من حادثة عاشوراء إلى استلام الإمام الثامن(ع) ولاية العهد (140 سنة) كانت نشاطات أئمة اهل البيت والأحداث المتعلقة بهم دائماً من أخطر ما تواجهه أنظمة الخلافة المتعاقبة من خطر يهدد كيانها، وفي هذه المدة (140 سنة) تهيأت عدة فرص للتعبير عن أن جهاد التشيع ونضاله والذي يجب أن يطلق عليه اسم الثورة العلوية، اقترب من تحقيق انتصارات كبرى، لكن في كل مرة كانت تظهر موانع وعوائق تقف في طريق تحقيق الانتصار النهائي (إقامة الحكومة العلوية)، بحيث أنه غالباً ما كانت تتلقى هذه الحركات ضربات قاسية ومميتة، وذلك من خلال الحصار والهجوم على المحور الأساسي والأصلي للثورة والذي يمثل شخص الإمام المعصوم(ع).

  فالإمام المعصوم في كل زمان غالباً ما كان يحاصر أو يزجّ به في السجن أو يقتل، وعندما يصل الدور إلى الإمام الذي يليه، كان يواجه جواً شديد القمع مليئاً بالضغوط والصعوبات إلى حد انه كان يحتاج إلى فترة طويلة لتهيئة الأرضية من جديد. والأئمة(ع) في هذا الخضم من المصاعب كانوا بفطنتهم وشجاعتهم يعبرون بالتشيع من هذه المحطات الصعبة والخطرة بسرعة وثبات، وبذلك لم يتمكن الخلفاء الأمويون والعباسيون من أن يقضوا على فكر الإمامة وتأثيره وفاعليته من خلال القضاء على شخص الإمام. فبقي هذا الفكر وهذا الجهاد جرحاً عميقاً في خاصرة النظام، ومصدر تهديد يسلب من هؤلاء الخلفاء الراحة، ولما استشهد الإمام موسى بن جعفر(ع) مسموماً بعد سنوات أمضاها في سجن هارون، ساد الجو من التوتر والضغط في جميع أرجاء السلطنة العباسية، وفي هذا الجو الضاغط يذكر أحد أصحاب الإمام علي بن موسى(ع) قائلاً: "في الوقت الذي كانت الدماء تقطر من سيف هارون كانت براعة الإمام المعصوم، حيث استطاع أن يحفظ ويصون شجرة التشيع من خطر الأحداث الجارفة، ويمنع تفرق أصحاب والده(ع) ويحافظ على حماستهم وروحيتهم"، وتمكن من خلال سلوك طريق التقية أن يحافظ على حياته التي كانت محوراً وروحاً لوحدة وتجمّع الشيعة، وكذلك استمرت المواجهات الأساسية والصلبة من قبل خط الإمامة رغم قوة ونفوذ الخلفاء العباسيين في تلك المرحلة التي نعم فيها النظام الحاكم بجو من الاستقرار والثبات النسبي، حيث كان الخليفة العباسي في تلك الفترة أقوى وأقدر من أسلافه، مع أن التاريخ لم يستطع أن يحدد لنا بشكل واضح حدود ومعالم تلك الفترة من العشر سنوات لحياة الإمام الرضا(ع) في زمان هارون وما بعده من الخمس سنوات التي وقعت فيها حروب وتزاعات داخلية بين خراسان وبغداد ضمن السلطنة العباسية.

  لكن عند التأمل والتدبر في تلك الفترة ندرك أن الإمام الثامن(ع) قام في تلك الفترة بنفس المواجهة الناظرة إلى المدى البعيد، والتي انتهجها أهل البيت في كل المراحل التي تلت حادثة عاشوراء ومضى للوصول إلى الأهداف نفسها.

سياسة المأمون

ولما فرغ المأمون في سنة 198هـ من حربه ضد أخيه الأمين واستولى على الخلافة من دون منازع، كان أول ما قام به وعمل عليه هو حل مشكلة العلويين وثورات التشيع، ولقد أخذ بعين الاعتبار تجارب أسلافة لتحقيق ذلك، وواقع هذه الحركة، والتي كانت تدل على صلابة هذه الثورة يوماً بعد يوم، وعلى عجز وضعف الأنظمة الحاكمة عن اقتلاع جذورها أو حتى تحجيمها وإيقافها عن التكامل والنمو.

  فالمأمون رأى أن قوة نفوذ هارون وسطوته التي وصلت إلى حد أسر الإمام السابع وسجنه لتلك المدة الطويلة ومن ثم قتله بالسم، لم تُجد نفعاً ولم تمنع التحركات السياسية والعسكرية والإعلامية والفكرية لتيار التشيع، فكيف به إذا أراد أن ينتهج هذه الطريقة، وهو لم يكن يتمتع بما تمتع به أبوه! فهو، إضافة إلى الحروب الداخلية التي ابتلي بها بنو العباس وورث هو مخلفاتها وآثارها، كان يعاني من مشاكل كبرى تهدد السلطنة العباسية. ومن دون شك فقد كان من اللازم عليه أن ينظر بجدية إلى خطر ثورة العلويين، ولعل المأمون في تقييمه لخطر الشيعة على نظامه كان ينظر ببصيرة، لذا فهناك ظن كبير بأن الفترة الفاصلة والتي تقدر بخمسة عشر سنة، أي من بعد شهادة الإمام السابع حتى ذلك اليوم الذي جعلت فيه ولاية العهد للإمام الثامن(ع)، بالأخص فرصة الخمس سنوات التي سادت فيها الحروب الداخلية، كان تيار التشيع أكثر جهوزية واقتداراً لرفع راية الحكومة العلوية. ولقد تنبه المأمون إلى هذا الوضع الخطر وهبّ لمواجهته من خلال ما كان يراه مناسباً بعد تقييمه لتجارب المواجهات السابقة؛ فقام بدعوة الإمام الرضا(ع) إلى مدينة خراسان وعرض عليه عرضاً ملزماً بتسلم ولاية العهد، حيث لم يسبق في كل المراحل السابقة للإمامة أن حدث مثل هذا الأمر، وسنتحدث عنه بشيء من الاختصار، حيث إن ولاية العهد التي سُلمت للإمام الثامن علي بن موسى الرضا(ع) والتي تعد تجربة تاريخية عظيمة كانت في حقيقة الأمر حرباً سياسية خفية بحيث كان الانتصار أو الهزيمة فيها يمكن أن يحدد مصير التشيع؛ والطرف المقابل في هذه الحرب كان المأمون الذي تسلّح بكل إمكاناته وقدراته.

  فالمأمون بحنكته وتدبيره ودرايته للأمور التي لم يسبقه لها أحد من أقرانه فكر بأنه لو انتصر في هذه الحرب وتمكن من تحقيق مخططه إلى النهاية، لكان من المؤكد حقق الهدف الذي سعى وجهد الخلفاء الأمويون والعباسيون لتحقيقه من بعد شهادة علي بن أبي طالب(ع) ولم يتمكنوا من ذلك؛ أي أنه كان استطاع أن يقتلع شجرة التشيع من جذورها، فهذا هو الهدف، ولكان استطاع أن يقلع تلك الشوكة التي كانت دائماً في عين الملوك الظالمين والطواغيت إلى الأبد، لكن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا(ع) وبالتدبير الإلهي استطاع أن يتغلب على المأمون الذي مُني بهزيمة نكراء، مع أنه هو الذي جهز نفسه وأعد العدة لهذه الحرب السياسية، وهو لم يفشل في أضعاف التشيع أو القضاء عليه فحسب، بل إن السنة التي تسنّم فيها الإمام ولاية الفقيه العهد (201هـ) كانت واحدة من أعظم البركات التاريخية على التشيع، حتى إنها نفخت روحاً جديدة في نضال وكفاح العلويين. وهذا كله كان من بركات التدبير الإلهي للإمام الثامن(ع) وأسلوبه الحكيم.

الأهداف أساسية للمأمون من وراء دعوة الإمام إلى خراسان:

 أولها:

ولقد كان للمأمون اهداف أساسية من وراء دعوة الإمام إلى خراسان، أولها وأهمها تحويل ساحة المواجهات الثورية العنيفة للشيعة إلى ساحة التحرك السياسي الهادئ والذي لا يشكل خطراً، لأنه ـ وكما ذكرت ـ لم يكن الشيعة يعرفون التعب أو الملل في المواجهة ولم تكن ثورتهم لتقف عند حد. هذه المواجهات كان لها خاصيتين، الأولى: المظلومية، والثانية: القداسة، حيث كانتا تمثلان عنصر قوة يعتمد عليه الشيعة لإيصال الفكر الشيعي ـ الذي هو نفس شرح وبيان الإسلام من وجهة نظر أئمة أهل البيت(ع) ـ إلى عقل وقلب جمهورهم، بحيث ان كل شخص لديه أدنى استعداد كان إما أن يؤمن بهذا الفكر أو أنه يميل إليه. وبهذا الشكل صارت دائرة التشيع تزداد سعة وانتشاراً يوماً بعد يوم، وبنفس المظلومية والقداسة اللتين كانتا الداعم لحركات النهوض والتحرر من ظلم الخلافة.

  كان المأمون يريد أن يواجه هذا الاستتار الشيعي العميق والمؤثر دفعة واحدة، فأراد أن يحيد الإمام من ساحة المواجهة الثورية وينقله إلى الميدان السياسي، وأن يقضي بهذه الوسيلة على فعالية الثورة الشيعية والتي كانت تتكامل يوماً بعد يوم بفعل العمل السري والمركز. وبهذه الطريقة يكون المأمون قد انتزع من الشيعة العلويين الخاصيتين: المظلومية والقداسة، اللتين تشكلان عامل نفوذ قوي لهم في الساحة؛ وذلك لأن قائدهم ـ وهو الشخص العالي المقام عندهم ـ قد أصبح في صفوف جهاز الخلافة، فهو ولي العهد للملك المطلق العنان في التصرف في أمور البلاد ، إذن فهو لم يعد لا مظلوماً ولا مقدساً.

  وهذا التكتيك الذي قام به المأمون كان يأمل بواسطته أن يحول الفكر الشيعي إلى فكر مشابه لبقية الأفكار والعقائد والتيارات التي لها مؤيدون في المجتمع، فيخفف من وهجه وإشراقه ويخرجه من كونه فكراً معارضاً للنظام الحاكم، وذلك لأن غالباً ما يكون مرفوضاً من الجهاز الحاكم ومخالفاً له يكون مرغوباً عند الناس المستضعفين ومورد اهتمامهم.

  هذا هو الهدف الأول من وراء دعوة الإمام إلى خراسان ومن ثم تنصيبه لولاية العهد.

الهدف الثاني:

أما الهدف الثاني فهو تخطئة الاعتقاد الشيعي القائل بأن الخلافة قد غُصبت من قبل الخلفاء الأمويين والعباسيين وإعطاء الشرعية لهذه الحكومات السابقة؛ فالمأمون كان يرمي بتعيين الإمام ولياً للعهد إلى أن يثبت ـ وبالقوة ـ لكل الشيعة أن ادعاء هم بغصب الخلافة وعدم شرعية الخلفاء الحاكمين (هذا الادعاء الذي كان دائماً يعتبر من ضمن الأصول العقائدية للشيعة) بأنه كلام لا أساس له. وأنه قد نشأ نتيجة الضعف والإحساس بالاستحقار. فلو كانت الحكومات السابقة غير شرعية ومتسلطة فبالتالي خلافة المأمون الذي هو خليفة لأولئك السابقين غير شرعية وغاصبة أيضاً. فكيف يدخل علي بن موسى الرضا(ع) في صفوف هذا النظام الحاكم ويقبل بخلافة المأمون؟ فهذا يعني أنها قانونية وشرعية ويترتب على هذا أن تكون خلافة الحكام السابقين شرعية أيضاً وليست غاصبة. وهذا الأمر ينقض كل ادعاءات الشيعة، وبذلك لا يكون المأمون فقط قد حصل على الاعتراف بشرعية حكومته أسلافه. بل يكون قد قضى على أحد الأركان العقائدية للتشيع والذي يعتبر أساساً أن أصل الحكومات السابقة هو الظلم وغصب الخلافة. إضافة إلى نقض الفكرة السائدة والمعروفة عن زهد وعدم اهتمام الأئمة بزخارف الدنيا ومقاماتها، ويُظهر بأن الأئمة فقط في الظروف التي لا تصل فيها أيديهم إلى الدنيا ـ أي أنهم عندما يمنعون عنها ـ يلجأون إلى الزهد. بينما عندما تفتح أمامهم أبواب جنة الدنيا يسرعون نحوها. وحالهم في هذا حال الآخرين. فهم يتنعمون بالدنيا إن أقبلت عليهم.

الهدف الثالث:

  والهدف الثالث للمأمون هو أن يجعل الإمام المعصوم الذي كان دوماً ركيزة المعارضة والمواجهة في جهازه الحاكم وكذلك بقية القادة والأبطال العلويين الذين يتبعون الإمام فيدخلون تحت سيطرة المأمون. وهذا النجاح لم يتمكن أحد على الإطلاق أن يتحققه لا من العباسيين ولا من الأمويين.

الهدف الرابع:

  والهدف الرابع هو أن يجعل الإمام الذي يمتلك العنصر الشعبي ويعد قبلة الآمال ومرجع الناس في كل أسئلتها من ضمن صفوف أجهزة الحكومة. وبذلك يفقد شيئاً فشيئاً الطابع الشعبي ويبني حاجزا‌ بينه وبين الناس حتى يضعف بالتالي الرابط العاطفي بينه بين الطبقة الشعبية.

الهدف الخامس:

  الهدف الخامس للمأمون كان أن يكسب سمعة معنوية وصيتاً بالوقار والتقوى. فمن الطبيعي عندها أن يمدح الجميع ذلك الحاكم الذي اختار لولاية عهده ابن بنت النبي(ص)، وهو شخص مقدس وذو مقام معنوي. وفي المقابل يحرم أخوته وأبنائه من هذا المنصب. والمعروف دائماً أن التقرب من الصالحين والمتدينين من قبل طلاب الدنيا يذهُب ماء وجه الصالحين ويزيد من ماء وجه اهل الدنيا.

الهدف السادس:

الهدف السادس كان باعتقاد المأمون أن الإمام بتسلمه لولاية العهد ستحول إلى حامي ومرشد للنظام. فمن البديهي بأن شخصاً كالإمام بما لديه من تقوى وعلم ومقام لا نظير لها فهو في أعين الجميع من أبناء النبي(ص)، وإذا قام بدور شرح وتبرير ما يقوم به جهاز الحكومة، فسوف يأمن النظام من أي صوت مخالف. وبذلك ايضاً لا يستطيع أحد أن ينكر شرعية تصرفات هذا النظام. فهذا الأمر كان عند المأمون حصانة ووقاية لحكمه. فمن خلال الإمام يستطيع أن يخفي كل أخطاء وعيوب نظامه وحكومته ولم يكن ليخطر ببال أحد سوى المأمون، هذا الدهاء السياسي والحنكة والمكر. حتى أن الأصدقاء والمقربين من المأمون لم يكن لديهم علم بأبعاد وجوانب هذه السياسة. ويظهر هذا الأمر من خلال بعض الوثائق التاريخية. حتى أن فضل بن سهل الوزير والقائد والذي هو من أقرب الأشخاص لجهاز الحكومة لم يكن يعلم حقيقة هذه السياسة. وذلك حتى لا تتعرض اهدافه في هذه الحركة الالتفافية إلى أن نكسة.

  وحقاً يجب القول أن سياسة المأمون كانت تتمتع بتجربة وعمق لا نظير له. لكن الطرف الآخر الذي كان في ساحة الصراع مع المأمون هو الإمام علي بن موسى الرضا(ع). وهو نفسه الذي كان يحول أعمال وخطط المأمون الذكية والممزوجة بالشيطنة إلى أعمال بدون فائدة ولا تأثير لها وإلى حركات صبيانية. بينما المأمون الذي بذل كل جهوده وتحمل المصاعب من اجل مشروعه هذا، لا أنه فقط لم يحقق أي شيء من الأهداف التي كان يسعى لها، بل أن سياسته التي اتبعها انقلبت عليه. فالسهم الذي كان يريد أن يرمي به مقام ومكانة وطروحات الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أصاب المأمون بحيث أنه وبعد مضي فترة قصيرة أصبح مضطراً إلى أن يعتبر كل تدابيره وإجراءاته الماضية هباءاً منثوراً كأنّ شيئاً لم يكن منها.

  وفي نهاية المطاف عاد المأمون ليختار نفس الأسلوب الذي سلكه أسلافه من قبله وهو قتل الإمام. فالمأمون الذي قد سعى جاهداً لتكون صورته حسنة ومقدسة وليتصف بأنه خليفة طاهر عاقل، سقط في النهاية في الهوة التي قد سقط فيها كل الخلفاء السابقين له. أي انجر إلى الفساد والفحشاء ووسمت حياته بالظلم والقهر ويمكن مشاهدة نماذج من حياة المأمون خلال 15 عاماً بعد حادثة ولاة العهد تشكف ستار الخداع والتظاهر عند المأمون. فكان لديه قاضٍ للقضاة، فاسق وفاجر مثل يحيى بن الأكثم. وكان المأمون يحضر المغنيات أيضاً إلى قصره، وكان لديه مغنٍ خاص يدعى إبراهيم بن مهدي. وعاش مرفهاً مسرفاً حتى أن ستائر دار خلافته في بغداد كانت من الدارّ.

سياسة الإمام الرضا (عليه السلام):

بعد هذا العرض لسياسة المأمون، نتعرض إلى السياسة والإجراءات التي قام بها الإمام علي بن موسى الرضا(ع) لمواجهة هذا الواقع… فعندما دعي الإمام لينتقل من المدينة إلى خراسان من قبل المأمون نشر في المدينة جواً يدل على انزعاجه وتضايقه من هذه الخطوة بحيث أن كل شخص كان حول الإمام تيقن أن المأمون يضمر سوءاً للإمام من خلال ابعاده عن موطنه. ولقد أعرب الإمام للجميع عن سوء ما يرمي إليه المأمون بكل الأساليب الممكنة، فقام بذلك عند توديع حرم النبي(ص) وعند توديع عائلته وأثناء خروجه من المدينة، وبكلامه وسلوكه ودعائه وبكائه، كان واضحاً للجميع أن هذا السفر هو رحلته الأخيرة ونهاية حياته(ع). وبناءً على ما كان يتصوره المأمون في أن يُنظر إليه نظرة حسنة، بينما يُنظر إلى الإمام الذي قبل بطلب المأمون نظرة سيئة، نرى أن قلوب الجميع ونتيجة لرد فعل الإمام الذي قام به في المدينة زادت حقداً على المأمون من اللحظة الأولى لسفر الإمام. فإمامهم العزيز(ع) قد أبعده المأمون عنهم بهذا الشكل الظالم ووجهه إلى مقتله… هذه الخطوة الأولى للإمام.

  وعندما طرحت ولاية العهد على الإمام رفض الإمام هذا الطرح بشدة. ولقد انتشر في كل مكان رفض الإمام علي بن موسى الرضا(ع) لولاية العهد من قبل الخلافة، كما أن العاملين في الحكومة الذين لم يكونوا على علم بدقائق سياسة وتدابير المأمون قاموا وعن غباء بنشر رفض الإمام(ع) في كل مكان. حتى أن الفضل بن سهل صرح في جمع من العاملين في الحكومة أنه لم يرَ على الإطلاق خلافة بهذا القدر من المذلة، فالمأمون الذي هو أمير المؤمنين يقدم الخلافة أو لاية العهد لعلي بن موسى الرضا وهو يرفض ذلك. ولقد سعى الإمام(ع) في كل فرصة تتاح له أن يبين أنه مجبر على تسلم هذا المنصب (ولاية العهد) ودائماً كان يذكر أنه هُدد بالقتل حتى يقبل بولاية العهد. وكان من الطبيعي جداً أن يصير هذا الحديث الذي هو من أعجب الظواهر السياسية متناقلاً على الألسن، ومن مدينة إلى مدينة. فكل العالم الإسلامي في ذلك اليوم وفيما بعد فهم أن شخصاً مثل المأمون حارب أخاه الأمين حتى قتله لأجل أن يبعده عن ولاية العهد ووصل به الأمر من شدة غضبه على أخيه أن قام برفع رأسه على الرمح وطاف به من مدينة إلى مدينة. مثل هكذا شخص كان من الواضح أن أجبر الإمام الذي لم يكن مبالياً بولاية العهد.

  على أن يقبل بها وإلا قتله. وعند المقارنة بين عمل المأمون والإمام المعصوم نرى أن كل ما جهد من أجل تحقيقه المأمون ووفر في سبيله كل ما لديه كانت نتيجته عكسية بالكامل. هذا هي الخطوة الثانية للإمام.

  أما النقطة الثالثة في سياسته(ع) والتي واجه بها سياسة المأمون هي أنه مع كل الضغوطات والتهديدات التي مورست عليه، لم يقبل ولاية العهد إلا بشرط الموافقة على عدم تدخله في أي شأن من شؤون الحكومة من حرب وصلح وعزل ونصب وتدبير وإشراف على الأمور. والمأمون الذي كان يعتقد أن هذا الشرط ممكن قبوله وتحمله في بداية الأمر. حيث يستطيع فيما بعد أن يجر الإمام إلى ساحة أعمال ونشاطات الحكومة. وافق على قبول شرط الإمام(ع) الذي ينص على عدم التدخل بأي شيء مهما كان. ومن الواضح أن قبول المأمون بهذا الشرط جعل خطته كمن يكتب على وجه الماء. فأكثر أهدافه التي كان يرمي إلى تحقيقها من وراء هذه الخطوة (تسليم ولاية العهد للإمام) لم تتحقق من جراء موافقته على هذا الشرط. والإمام(ع) الذي كان يطلق عليه لقب ولي العهد ويتمتع بسبب موقعه من إمكانات جهاز الحكم كان دائماً يقدم نفسه على أنه مخالف وعلى خلاف معها. فهو لم يكن يأمر ولا ينهى، ولا يتصدى لأي مسؤولية ولا يقوم بأي عمل للسطلة، ولا يدافع عن الحكومة، ولا يقدم أي تبرير لأعمال النظام. لذا كان من الواضح أن هذا الشخص الذي يُعتبر عضواً في النظام الحاكم والذي أدخل إليه بالقوة وكان يتنحى عن كل المسؤوليات، لا يمكن أن يكون شخصاً محباً ومدافعاً عن هذا النظام. ولقد أدرك المأمون جيداً هذا الخلل والنقص. فحاول عدة مرات وباستخدام أكثر الحيل مكراً ليحمل الإمام على العمل خلافاً لما اشترطه سابقاً. فيجر بذلك الإمام إلى التدخل في إعمال الحكومة ويقضي أيضاً على سياسة الإمام المواجهة والرافضة. لكن الإمام كان في كل مرة يُحبط خطته بفطنته. وكنموذج على هذا الأمر يذكر معمر بن خلاد نقلاً عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) أن المأمون كان يقول للإمام أنه إذا أمكن أن تكتب شيئاَ لأولئك الذين يسمعون كلامك ويطعنونك حتى يخففوا التوتر والأوضاع المضطربة في مناطق وجودهم، لكن الإمام(ع) رفض ذلك وذكّره بشرطه السابق القاضي بعدم تدخله مطلقاً في أي من الأمور.

  نموذج آخر مهم جداً وملفت وهو حادثة صلاة العيد حيث أن المأمون وبحجة أن الناس يعرفون قدر الإمام وقلوبهم تهفو حباً له . طب من الإمام أن يؤم الناس في صلاة العيد، رفض الإمام(ع) في البداية فكن بعد إصرار المأمون على طلبه وافق الإمام بشرط أن يخرج إلى الصلاة ويصلي بنفس طريقة النبي وعلي بن أبي طالب(ع).

  فلما استفاد الإمام من هذه المناسبة وانتهزها كفرصة جيدة لصالح مشروعه ندم المأمون الذي كان قد أصر على ذلك وأرجع الإمام من منتصف الطريق قبل أن يصلي، مضطراً بفعله هذا أن تتلقى سياسة نظامه المخادعة والمتملقة ضربة أخرى في صراعه مع الإمام(ع).

  النقطة الرابعة في سياسة الإمام(ع) ان استفادته الأساسية من مسألة ولاية العهد كانت أهم من كل من ذكر، فبقبوله لولاية العهد استطاع أن ينهض بحركة لا نظير لها في تاريخ حياة الأئمة (بعد انتهاء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سن 40 هجرية حتى آخر عهود الخلافة الإسلامية)، ولقد تمثل ذلك بظهور ادعاء الإمامة الشيعية على مستوى كبير في عالم الإسلام وخرق ستار التقية الغليظ في ذاك الزمان، حيث تم إيصال نداء التشيع إلى كل المسلمين، فمنبر الخلافة العظيم الذي سمح للإمام باعتلائه مكنه من أن يحدث بما لم يكن يقال طوال فترة 150 سنة إلا إلى الخواص والأصحاب المقربين وذلك بالسر والتقية، فخطب بالصوت العالي ليصل ذلك لجميع الناس، فاستفاد من هذه الفرصة ومن هذه الوسيلة (منبر الخلافة) التي لم تكن ميسرة في ذلك الزمان إلا للخلفاء أنفسهم أو المقربين من الدرجة الأولى. كذلك أيضاً مناظرات الإمام التي جرت بينه وبين جمع من العلماء في محضر المأمون حيث بين أمتن الأدلة على مسألة الإمامة، وهناك أيضاً رسالة جوامع الشريعة التي كتبها الإمام للفضل بين سهل حيث ذكر فيها كل أمهات المطالب العقائدية والفقهية للتشيع، وأيضاً حديث الإمامة المعروف الذي قد ذكره الإمام في مرو لعبد العزيز بن مسلم، إضافة إلى كل ذلك القصائد الكثيرة التي نظمت في مدح الإمام بمناسبة تسليمه ولاية العهد وقسم منها مثل قصيدة دعبل وأبو نواس تعد من أهم القصائد المخلدة في الشعر العربي.

  إن كل ما ذكرناه من الاستفادة الأساسية للإمام(ع) من مسألة قبوله بولاية العهد يدل على مدى النجاح العظيم الذي حققه الإمام في صراعه ضد سياسة المأمون. وفي خطبته التي ألقاها من علي منبر الحكومة أورد فضائل أهل البيت الذين ظلوا يشتمون علناً على المنابر لمدة 90 سنة. فلسنوات طويلة لم يكن شخص ليجرؤ على ذكر فضائلهم، فعاد في زمانه(ع) ذكر عظمة وفضائل أهل البيت في كل مكان، كما أن اصحابهم ازدادو جرأة وإقداماً من هذه الحادثة (ولاية العهد وخطبة الإمام الجريئة) وتعرف الأشخاص الذين كانوا يجهلون مقام أهل البيت(ع) عليهم وصاروا يحبونهم وأحس الأعداء الذين أخذو على عاتقهم محاربة أهل البيت بالضعف والهزيمة. فالمحدثون الشيعة أصبحوا ينشرون معارفهم ـ التي لم يكونوا ليجرؤوا قبلاً على ذكرها إلا في الخلوات ـ في حلقات دارسية كبيرة وفي المجامع العامة علناً.

  النقطة الخامسة التي قام بها الإمام تظهر عندما رأى المأمون أنه من المفيد فصل الإمام عن الناس. فهذا الفصل والإبعاد هو في النهاية وسيلة لقطع العلاقة المعنوية والعاطفية بين الإمام والناس. وهذا ما يريده المأمون… ولمواجهة هذه الخطوة لم يكن الإمام يترك أي فرصة تمكنه من الاتصال بالناس إلا يستفيد منها خلال تحركه ومسيره. مع أن المأمون كان قد حدد الطريق التي سيسلكها الإمام من المدينة وصولاً إلى مرو بحيث لا يمر على المدن المعروفة بحبها وولاءها لأهل البيت مثل قم والكوفة، لكن الإمام استفاد من كل فرصة في مسيره لإيجاد المودة ورابطة الحب بينه وبين أهل هذه المدن، فأظهر في منطقة الأهواز آيات الإمامة، وفي البصرة التي لم يكن أهلها من محبي الإمام سابقاً جعلهم(ع) من محبيه ومريديه وفي نيشابور ذكر حديث السلسلة الذهبية ليبقى ذكرى خالدة، إضافة إلى ذلك الآيات والمعجزات التي أظهرها. وقد اغتنم الفرصة لهداية وإرشاد الناس في سفره الطويل هذا. وعندما وصل إلى مرو التي هي مركز إقامة الخلافة كان(ع) كلما سنحت له الفرصة وأفلت من رقابة الجهاز الحاكم يسارع للحضور في جمع الناس. والإمام(ع) فضلاً عن أنه لم يحض ثوار التشيع على الهدوء أو الصلح مع جهاز الحكومة بل أن القرائن الموجودة تدل على أن الوضع الجديد للإمام المعصوم كان عاملاً محفزاً ومشجعاً لأولئك الذين أصبحوا بفعل حماية الإمام ومؤازرته لهم محل احترام وتقدير ليس فقط عند عامة الناس بل حتى عند العاملين وولاة الحكومة في مختلف المدن بعد أن كانوا ولفترات طويلة من عمرهم يعيشون في الجبال الصعبة والمناطق النائية البعيدة، فشخص مثل دعبل الخزاعي صاحب البيان الجريء لم يكن على الإطلاق يمدح أي خليفة أو وزير وأمير ولم يكن في خدمة الجهاز الحاكم، بل لم يسلم من هجائه ونقده أي شخص من حاشية الخلافة، وكان لأجل كل ذلك ملاحقاً دوماً من قبل الأجهزة الحكومية وظل لسنوات طوال مهاجراً ليس له موطن، فأصبح الآن يمكنه بوجود الإمام علي بن موسى الرضا أن يصل ويلتقي بمقتداه ومحبوبه بحرية، وأن يُوصل في فترة قصيرة شعره إلى كل أقطار العالم الإسلامي، ومن أشهر وأبهى قصائده تلك التي تلاها للإمام(ع) حيث اشتهر بها، والتي تبين ادعاء الثورة الحسينية على الأنظمة الأموية الحاكمة.

  حتى أنه وفي طريق عودته من عند الإمام سمع تلك القصيدة نفسها يرددها قطاع الطرق. وهذا يدل على الانتشار السريع لشعره.

  والآن نعود لنلقي نظرة عامة على ساحة الصراع الخفي الذي بدأ المأمون بالإعداد له، ودخل فيه الإمام علي بن موسى الرضا للدوافع التي قد أشرنا إليها، والآن لنرى كيف كان الوضع بعد مضي سنة على تسلم الإمام ولاية العهد.

  المأمون، وفي رسالة أمر تسليم الإمام ولاية العهد، وبعدة كلمات ومحطات كان قد مدح الإمام بالفضل والتقوى والإشارة إلى مقامه الرفيع والأصيل. بحيث أصبح الإمام خلال سنة بعد أن كان قسم من الناس لا يعرفون سوى اسمه (حتى ان مجموعة من الناس كانت قد ترعرعت على بغضه) يُعرف عند الناس بأنه شخصية تستحق التعظيم والإجلال واللياقة لاستلام الخلافة حيث أنه أكبر من الخليفة المأمون سناً وأغزر علماً وتقوى وأقرب إلى النبي(ص) وأعظم وأفضل وبعد مضي سنة لم يكن الوضع على أن المأمون لم يستطع أن يكسب ود ورضا الشيعة المعارضين بجلب الإمام إلى قربه فحسب، بل ان الإمام قد قام بدور أساسي في تقوية إيمان وعزيمة وروحية أولئك الشيعة الثائرين.

  وعلى خلاف ما كان ينتظره المأمون، ففي المدينة ومكة وفي أهم الأقطار الإسلامية لم يقذف الإمام علي بن موسى الرضا(ع) بتهمة الحرص على الدنيا وحب الجاه والمنصب ولم يخبُ نجمه الساطع. بل على العكس من ذلك تماماً حيث ازداد احترام وتقدير مرتبته المعنوية لدرجة فتح الباب امام المادحين والشعراء بعد عشرات السنين ليذكروا فضل ومقام آبائه المعصومين المظلومين. وخلاصة ما نريد قوله أن المأمون في هذا الصراع فضلاً عن أنه لم يحصل على شيء فإنه فقد مكاسب كثيرة، وكان على طريق خسارة ما تبقى لديه.

  بعد مضي سنة على تسلم الإمام ولاية العهد، وأمام هذا الواقع الذي أشرنا إليه، شعر المأمون بالهزيمة والخسارة. ولكي يعوض عن هذه الهزيمة ويجبر أخطاء سياسته وجد نفسه مضطراً. بعد أن أنفق كل ما لديه واستنفذ كل الوسائل في مواجهة أعداء حكومته الذين لا يقبلون الصلح. أي أئمة أهل البيت(ع) ـ إلى أن يستخدم نفس الأسلوب الذي لجأ إليه دوماً أسلافه الظالمون والغادرون، وهو اغتيال الإمام المعصوم. لكن كان من الواضح عند المأمون أن قتل الإمام الذي يتمتع بهذه الموقعية العالية والمرتبة الرفيعة ليس بالأمر السهل. والقرائن التاريخية تدل على أن المأمون قام بعدة إجراءات وأعمال قبل أن يصمم على قتل الإمام لعله من خلالها يسهل أمر قتل الإمام ويحد من خطورته وحساسيته. ولأجل ذلك لجأ إلى نشر الأقوال والأحاديث الكاذبة على لسان الإمام كواحدة من هذه التحضيرات. وهناك ظن كبير بأن نشر الشائعة التي تقول أن علي بن موسى الرضا(ع) يعتبر كل الناس عبيداً له بهذا الشكل المفاجئ في مرو، لم يكن ممكناً، لولا قيام عمال المأمون بنشر هذه الافتراءات. وحينما نقل أبو الصلت هذا الخبر للإمام قال(ع) ما معناه: لا الله يا خالق السموات والأرض أنت الشاهد على أنه لا أنا ولا أحد من آبائي قد قلنا مثل هذا. وهذا واحدة من المظالم التي تأتي إلينا من هؤلاء القوم.

  إضافة إلى هذا الإجراء كان تشكيل مجالس المناظرات مع أي شخص عنده أقل أمل في أن يتفوق على الإمام واحدة من هذه الإجراءات التي مارسها المأمون. ولما كان الإمام(ع) يتفوق ويغلب مناظريه من مختلف الأديان والمذاهب في كافة البحوث كان يذيع صيته بالعالم والحجة القاطعة في كل مكان، وفي مقابل ذلك كان المأمون يأتي بكل متكلم من أهل المجادلة إلى مجلس المناظرة مع الإمام لعل أحداً منهم يستطيع أن يغلب الإمام(ع) وكما تعلمون فإنه كلما كانت تكثر المناظرات وتطول كانت القدرة العلمية للإمام(ع) تزداد وضوحاً وجلاءاً. وفي النهاية يئس المأمون من تأثير هذه الوسيلة. وحاول أن يتآمر لقتل الإمام كما تذكر الروايات من خلال حاشيته وخدم الخليفة، وفي أحدى المرات وضع الإمام في سجن سرخس (منطقة شمال شرق إيران) لكن هذا لم يكن نتيجته إلا إيمان الجلاوزة والسجانين انفسهم بالمقام المعنوي للإمام. وهنا لم يجد المأمون العاجز والغاضب أمامه في النهاية وسيلة إلا أن يسم الإمام وبنفسه من دون أن يكلف أي أحد وقام بذلك فعلاً.. ففي شهر صفر من سنة 202 هـ أي تقريباً بعد سنتين من خروج الإمام(ع) من المدينة إلى خراسان وبعد سنة أو أقل من تسلمه ولاية العهد قام المأمون بجريمته العظيمة التي لا تنسى وهي قتل الإمام(ع).

إن ما ذكرناه من سيرة الأئمة هو مرور على إحدى المفاصل الأساسية للحياة السياسية للأئمة التي استمرت 250 عاماً وآمل أن ينهض المحققون والعلماء والباحثون في تاريخ القرون الأولى للإسلام بتنقيح وعرض ذلك أكثر. ومن المفيد أن تخصص الجامعة الرضوية الإسلامية التي تأسس اليوم ببركة الذكرى السنوية لولادة هذا الإمام العظيم علي بن موسى الرضا(ع) وتستضيء بأنوار فيوضات مرقده الطاهر والشريف، قسماً من جهودها وعملها في سبيل الإضاءة على هذا التاريخ المليء بالعبر والدروس، وأن توضح وترسم صورة لجيل اليوم والغد في العالم الإسلامي عن هذا التاريخ السياسي لحياة الأئمة مع التركيز على عامل الجهاد والمواجهة فهو المحور الأساسي لهذا التاريخ.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأربعاء 22 نوفمبر 2017 - 10:52 بتوقيت مكة