درس المبعث النّبويّ أن نتوحَّد في الله ورسوله

الثلاثاء 25 إبريل 2017 - 07:08 بتوقيت مكة
درس المبعث النّبويّ أن نتوحَّد في الله ورسوله

نعيش ذكرى المبعث النبوي الشّريف، ولعلّ قيمة هذا اليوم، هو أنّه يربطنا بيوم ولادة الإسلام، فقد ولد الإسلام رسالةً ودعوةً وحركةً ومنهجاً في واقع النّاس في ذلك اليوم.

وعندما نريد أن نتذكَّر ذلك اليوم، فليست المسألة عندنا مسألة ذكرى في التّاريخ، ولكنّها مسؤوليّة يعيشها كل مسلم ومسلمة، في أن ينطلق بالإسلام في خطّ الدعوة والحركة والجهاد في سبيل الله من حيث انطلق رسول الله(ص)، ومن حيث تحرّك المسلمون الذين آمنوا به، فقد كان المسلم يؤمن بالإسلام عندما يستمع إلى القرآن من رسول الله(ص)، فيفهم الإسلام انتماءً فكرياً وعاطفياً وروحياً وحركياً، حيث كانت الحركية في وجدان الإنسان المسلم تتّصل بمعنى الإسلام في شخصيته.

ولذلك، فإن السيرة النبوية الشريفة تقصّ علينا أنّ أي مسلم كان يدخل في الإسلام، كان يأتي في اليوم الثاني أو الثالث بمسلم آخر، وهكذا كانت الدعوة الإسلامية مسؤولية الإنسان المسلم في أن يدعو أكبر عدد ممكن من النّاس إلى الإسلام ليدخلوا فيه، وقد كانوا ـ من خلال ذلك ـ يعملون على أن يتثقّفوا بالإسلام بما يتوفّر لديهم مما يحفظونه من القرآن ومما يسمعونه من كلام رسول الله(ص(.

المرأة الدَّاعية

حتى إنّ النساء كُنّ يعشن الدّعوة بشكل عميق وقويّ ومنفتح، فنقرأ مثلاً قصّة امرأة مسلمة، كانت متزوّجةً من شخصٍ كافرٍ مشركٍ هو (أبو العاص بن الربيع)، ولم يكن التّشريع الإسلامي ـ آنذاك ـ يحرّم زواج المسلمة من المشرك، فأقنعت زوجها بأن يُسلم، فلم يقبل، وولدت له ولداً، وعندما بلغ ولدها السنّ التي يمكن له فيها أن ينطق، كانت تعلّمه أن يقول كلمة الله، وأن يقول اسم النبي(ص)، وقال لها زوجها إنك تفسدين عليّ ولدي، فقالت له ما مضمونه إنّني أصلحه.

الإسلام عند المسلمين الأوائل

وقد كان إحساس المسلمين الأوّلين بقيمة الإسلام في عقيدتهم، بالمستوى الّذي يجعلهم يتحمّلون أقسى الآلام في مقابل أن لا يخضعوا للمشركين الّذي يعذّبونهم ويضطهدونهم لقول كلمة الكفر، ونحن نقرأ كيف أنّ (ياسراً) و(سميّة) ماتا تحت التعذيب ولم ينطقا بكلمة الكفر، أما ولدهما (عمّار)، فقد كان شابّاً طريّ العود، فبلغ به التّعذيب مبلغاً لم يستطيع أن يتحمّله، فنطق بكلمة الكفر، وعندما نطلق بكلمة الكفر، جاء إلى النبي(ص) وهو يعيش حالة الرّعب النّفسي، وقال له: لقد هلكت أو كفرت يا رسول الله، فقال له إنّ الله أنزل فيك قرآناً، وهو قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»، فإن عادوا يا عمّار فعُد..

وهكذا رأينا بقيّة المسلمين الذين حاولت قريش أن تفتنهم عن دينهم بمختلف الضّغوط، وكانوا ضعفاء، حتى اضطرَّ النّبيّ(ص) إلى أن يخفِّف عنهم، فأرسلهم إلى الحبشة.

لقد عاش المسلمون، كما قلنا، إلى جانب التزامهم الإسلاميّ في أنفسهم، التزامهم بالحركيَّة الإسلاميَّة في الواقع، وهذا ما ينبغي لنا أن نتعرَّفه، وقد مرَّ على الدّعوة الإسلاميّة أكثر من أربعة عشر قرناً، وأن نتطلّع إلى المسلمين كيف كانوا، لنأخذ منهم العبرة والدرس والإحساس بالمسؤولية.

تحدّيات الكفر المثقّف!

المسؤوليّة الآن هي مسؤوليتنا، نحن المسلمين الذين نعيش في مرحلة من أصعب المراحل التي مرّت في التاريخ الإسلامي في المطلق، لأنّ التحديات الكبرى التي يعيشها المسلمون اليوم هي تحدّيات الكفر المثقّف، فكل الجامعات في العالم، أو أكثرها، تعمل على محاربة الإسلام في عقيدته وفي فكره، كما تواجهنا تحدّيات في الواقع السياسي، فنحن نعرف أنّ الاستكبار العالمي المتحالف مع الكفر العالمي، يعمل على إسقاط الإسلام سياسياً في قضايا الحريات: حرية الإسلام، وحرية المسلمين في إدارة شؤونهم الإدارية بشكل مستقلّ، إنهم يعملون على إسقاط ذلك، وعلى أن تكون سياسة المسلمين على هامش سياسة الاستكبار العالمي، وقد وظّفوا الكثير من الملوك والرؤساء، ووضعوهم على رأس الأنظمة في العالم الإسلاميّ، من أجل أن يحرسوا لهم هذه الخطوط السياسيّة المتّصلة بخطّ الاستكبار العالمي.

مسؤوليّتنا في ذكرى المبعث

أيّها الأحبّة، يجب أن لا نكتفي في ذكرى المبعث النبويّ الشّريف بأن نقيم الحفلات والمهرجانات والزّينات، بل لا بدّ من أن تدفعنا الذكرى إلى أن نتصوّر مسؤوليّتنا عن الإسلام والمسلمين، والخطورة في هذا، أن الإنسان الذي يعيش اللامبالاة تجاه قضايا الإسلام والمسلمين وهمومهم، ليس بمسلم، بشهادة رسول الله(ص): "من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"، و"من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم". ويقول(ص): "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى".

ومعنى ذلك، أن الإسلام ليس مجرّد مسألة تعيش في داخل ذاتك، بل هو خطّ يتحرك في نطاق مسؤوليّتك عن الآخر، فالمطلوب منك أن تفكّر وأنت تستمع إلى المذياع وتشاهد التلفاز وتقرأ الصحيفة، بكلّ قضايا المسلمين في العالم، وأن تفكّر في كيفية تقديم شيء للإسلام والمسلمين من وقتك وطاقتك وفكرك، وأن لا تكون محايداً، كالإنسان الّذي يقف ليقول كما ورد عن الإمام الكاظم(ع): "أبلغ خيراً وقُل خيراً ولا تكن إمَّعة"، قالوا: وما الإمَّعة؟ قال: "لا تقل أنا مع النّاس، وأنا كواحدٍ من النّاس"، أي لا رأي له ولا موقف، فأنا أنتظر ما تقوله العائلة أو أهل البلد أو الناس الآخرون، فالإمام(ع) يقول: "إنّ رسول الله(ص) قال: إنّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"، وهذا يعني أن تركِّز موقفك، ويكون لك رأي فيما يطرح عليك، لأنّ مشكلة الكثيرين أنهم يجلسون على التلّ، فيخذلون الحقّ ولا ينصرون الباطل. وقد تكلّم الإمام عليّ(ع) بطريقة سلبيّة عن هؤلاء، وقد بيّنّا أنّك عندما تسحب قوّتك من السّاحة، فإنك تكون قد أعطيت العدوّ قوة سلبية، لأنك عندما تمنع قوة إيجابية في الحقّ، فإنك ستقوّي بذلك شوكة الباطل ضدّ الحق، لأن جنود الحق لا يقفون معك، فمن يخذل الحقّ ينصر الباطل بشكل سلبيّ، وإن لم ينصره بشكل إيجابي.

مشكلة الحياديَّة

ولعلَّ مشكلتنا في العالم الإسلامي هي في الحياديّين الّذين لا يقفون مع الحقّ ولا مع الباطل، وهم الّذين شاركوا في هزيمة الحقّ في كثير من معاركه، لأنهم حيّدوا أنفسهم عن معارك الحقّ، ولعلّ الكثيرين منا كذلك الرّجل في معركة صفين، الذي كان إذا جاء وقت الصلاة، وقف ليصلّي خلف علي(ع)، وإذا حضر وقت الطعام، هرع ليأكل مع معاوية، وإذا اشتدّت الحرب صعد إلى التلّ، وكان يقول أو يُقال عنه: "الصلاة خلف عليّ أقوَم، وطعام معاوية أدسَم، والقعود على هذا التلّ أسلم".

فكم منا من يعتبر الصّلاة مجرد حالة ذاتية خاصة لا علاقة لها بالحياة ولا بالصراع ولا بالالتزام العملي في خطّ الله وفي حركة الواقع، وإذا جاء وقت المنافع، فكم من معاوية يُهرع إليه المصلّون والحجّاج والزائرون، وعندما تنطلق المعارك، وما أكثرها في هذه الأيام! فإنّ الّذين يجلسون على التلّ قد يبلغون الـ90%، وفي الـ10% كثير من المتردّدين، ونحن حتى إذا شاركنا في المعركة، فإنّنا نخذل بعضنا بعضاً حتى ونحن في داخل المعركة، والله يقول: «إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ».

مقارنة بين اليهود والمسلمين

فانظروا إلى الكيان الصهيوني، لتروا كم يمثّل اليهود في العالم، إنّهم لا يزيدون ـ حسب الإحصائيّات ـ على (20) مليوناً، وإذا تحدّثنا عن العرب، فإنهم يمثّلون ـ بلا حسد ـ (250) مليون عربيّ أو أكثر، وخصوصاً أنّ تناسل العرب كثير.. وإذا أردنا أن نتحدّث عن المسلمين، فهناك مليار ونصف المليار مسلم أو أكثر، فلماذا تغلّب هؤلاء على قلّتهم؟ لأنهم انطلقوا في العالم كلّه ليكونوا في معركة فلسطين ضدّ العرب، فما من يهوديّ في العالم، سواء كان تاجراً أو صاحب موقع إعلامي أو اقتصادي أو سياسي، إلا ويوظّف موقعه كله لمصلحة (إسرائيل)، ونحن نملك الكثير من العرب والمسلمين الذين يوظّفون مواقعهم السياسية والاقتصادية والأمنية لمصلحة (إسرائيل) أو لمصلحة الاستكبار العالمي، ولا نجد من يوظّف موقعه لمصلحة القضية الفلسطينية أو الإسلامية أو العربية.

إنّ الكثيرين منا يقولون كما قال ذلك الشّاعر اللّبناني المهجري:

ما علينا إن قضى الشّعب جميعاً أفلسنا في أمان؟

أو كما تقول الصّلاة المسيحيّة: "اللّهمّ أعطنا خبزنا كفاف يومنا ونجّنا من الشّرّير".

إنّ هناك مشكلة صعبة وقاسية وخطيرة على المستويات كلّها في الواقع الإسلامي سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، ولا بدّ لنا من أن نواجه ذلك بالمسؤوليّة، لأنّ الله سوف يسألنا عن ذلك، لأنه يريد للمسلمين أن يقفوا صفّاً واحداً في مواجهة التحدّيات.

أيّها الأحبّة، لنجمّد كثيراً من تفاصيل خلافاتنا، فإنّ إثارتها، سواء كانت خلافات قوميّة أو عرقيّة أو مذهبيّة أو حزبيّة أو سياسيّة، في هذه الظروف الصّعبة خيانة للإسلام وللمسلمين، وأنا أتحمّل مسؤوليّتي عن هذه الكلمة.

أيّها الأحبّة، كانت صورتنا في عهد رسول الله(ص) كما قال الله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ»، أمّا بالنّسبة إلى اليهود، فكانت صورتهم آنذاك كما جاء في قوله تعالى: «بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى»، فلذلك انتصرنا على اليهود، لأنّنا كنّا في هذا الموقع وكانوا في ذاك الموقع، وعندما تبدّلت الأجواء، أصبحنا أشدّاء على بعضنا رحماء على العدوّ، ليس لدينا أيّ انفتاح على الله، نبتغي فضلاً من أمريكا ورضواناً، ولا نبتغي فضلاً من الله ورضواناً، بأسنا بيننا شديد، تحسبنا جميعاً وقلوبنا شتّى، أمّا اليهود فهم أشدّاء علينا رحماء بينهم.

العودة إلى الصّورة المشرقة

أيها الأحبة، لنرجع إلى تلك الصورة التي كانت هناك وسننتصر، فإنّ قضايا الشعوب لا تُحلّ بالسنة والسنتين، إنها تحلّ على مستوى الأجيال: "اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً"، فما رأيكم أن نجعل من ذكرى المبعث النبوي الشّريف انطلاقة جديدة نلتقي فيها على القضايا المشتركة، ونتحاور بمحبة في القضايا التي نختلف فيها، وأن نخلص لله ولرسوله، وأن ندعو إلى سبيل ربّنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل بالّتي هي أحسن، وأن ندفع بالّتي هي أحسن، حتى نحوّل أعداءنا إلى أصدقاء، ولننطلق للتخلّص من هذا التخلّف كلّه والحقد والعداوة الّتي ننتجها بين يوم ويوم.

ولقد كان المسلمون مع رسول الله(ص)، فيما عدا المنافقين، ينتجون المحبة فيما بينهم، أما نحن، فننتج الحقد والضغينة في نفوسنا، ألا ترون ذلك، فأين هي المحبّة: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"، وقد قال الإمام الصّادق(ع): "وهل الدّين إلا الحبّ"، فلننتج المحبّة، فهي تغني عقولنا وقلوبنا وواقعنا، وتجعلنا نتحرّك في خطّ النّصر، ولنتقرّب إلى الله أكثر، فلعلَّنا نتقرّب من رضاه أكثر «ورضوانٌ مِنَ اللهِ أكْبَرُ».

أيّها الأحبّة، تعالوا نتوحَّد في الله وبرسوله وبأوليائه، حتى نجد الطّريق إلى الهدف الكبير، وذلك هو درس المبعث؛ أن يعود الإسلام فينا ديناً وحركةً ودعوةً وقوّةً وموقفاً وصلابةً، فلنبدأ الخطوة الأولى، وإن كان الطريق طويلاً.

*السيد محمد حسين فضل الله

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 25 إبريل 2017 - 06:57 بتوقيت مكة