الزَّهراء(ع) نموذج المرأة الرّائدة في ساحات الدّعوة

الأحد 12 فبراير 2017 - 13:27 بتوقيت مكة
الزَّهراء(ع) نموذج المرأة الرّائدة في ساحات الدّعوة

في هذه الأيام، نلتقي بذكرى سيّدتنا فاطمة الزهراء (ع)، ونحن عندما نريد العيش مع تاريخنا الإسلاميّ في كلِّ نماذجه، فعلينا أن نبحث عن إيجابياته وعمّا بقي لنا منه، فالكثير مما عشناه من أحداث التاريخ كان متحركاً في دائرة الماضي، وهناك أشياء تبقى للحياة.

وبالنّسبة إلى كلِّ عظمائنا، رجالاً كانوا أو نساءً، يبقى لنا منهم ما يمكن أن يغني حياتنا، وأن يساهم في تأصيل مواقعنا الإسلاميّة، وفي تقويم ما انحرف منا، وفي إصلاح ما فسد منّا. فعندما ندرس حياة الزّهراء(ع)، نجد فيها نموذجاً للمرأة المسلمة الّتي عاشت الروحانيّة كأصفى ما تكون الرّوحانيّة، فقد جاء في الحديث عن "عائشة" أنّها قالت: "ما رأيت أصدق منها إلا أباها"(1).

المرأة العابدة

وينقل عنها الإمام الحسن(ع)، أنها كانت تقوم الليل حتى تتورّم قدماها، وكان يسمعها تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فقال لها: "يا أمّاه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: "يا بنيّ، الجار ثم الدار"(2). إنَّ فكرة المرأة العابدة هي كفكرة الرجل العابد، ليست مجرد حالة تقليدية يمارس فيها الإنسان العبادة، ولكنَّها حالة يعيش فيها عمق الإخلاص من موقع المحبة لله، فكلَّما عبد الإنسان الله أكثر من خلال وعي العبادة في عقله وفي قلبه، اقترب من الله أكثر، وكلَّما أحسَّ بعظمة الله أكثر، استحضر نعمة الله أكثر وعاش مع الله أكثر، وانفتحت له الحياة بكلِّ مسؤوليّاتها من خلال الله سبحانه وتعالى.

ولعلّ مشكلتنا هي بين من يعبد الله عبادةً مغلقةً لا وعي فيها ولا روح، لأنّها عادة اعتادها، ومن لا يعبد الله، لأننا لا نعيش الله في عقولنا إشراقةً في العقل يمكننا من خلالها أن نواجه الحياة بمسؤولية أكثر. من أحبّ الله لا يمكن أن يبغض عباده، ولهذا رأينا أنّ رسول الله(ص)، الذي عانى ما عاناه من قريش ومن غير قريش، حتى قال: "ما أوذيَ نبيّ مثل ما أوذيت"(3)، كان يقول: "اللّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون"(4)، وكان يستمهل الله أن يعاقبهم، وكان يدرس ظروفهم الفكريّة والنفسيّة والاجتماعيّة ورواسبهم التاريخيّة، ويجد لهم فيها عذراً لهذه العصبيّة الّتي واجهوه بها، وكان يعمل على أن يكسر هذا الجليد الّذي في داخل شخصيّاتهم. وهكذا رأينا أنَّ النّبيّ(ص) نجح في نهاية المطاف عندما جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس فيه أفواجاً.

قمّة الإنسانيّة والروحانيّة

نحن نقرأ في القرآن الكريم أنَّ النبي(ص) عندما كان يواجه المشركين وكانوا لا يستجيبون له، كان يشفق عليهم ولا يتعقّد منهم، ولذا قال تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}(5). وهذه الفقرة من الآية تدلّ على أنّ النّبيّ كان يعيش الحسرة على هؤلاء النّاس إشفاقاً عليهم ورحمةً بهم، لأنّه كان يعرف أنّ شركهم سيؤدّي بهم إلى عذاب الله. لذلك، جاءت آيات كثيرة تقول: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(6)، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(7)، لست المسؤول عن أن يكونوا مهتدين، لكنَّك المسؤول عن أن تعلّمهم الكتاب والحكمة، وأن تزكّيهم وتبلّغهم رسالات الله، بأن تبذل كلّ جهدك، وتبقي العناصر الأخرى في عملية الهداية، بحيث يبقى لها دورها في هذا المجال. ومن هنا، فإنّ النّبيّ(ص) كان يحبّ الناس الَّذين آمنوا به، وكان يحبُّ الناس الَّذين لم يؤمنوا به، ليهديهم ويفتح لهم باب الهدى.

لذلك أيّها الأحبة، نحن نأخذ من قول الزهراء(ع): "الجار ثم الدار"، أنها كانت تعيش هموم الناس قبل همومها، وآلام الناس قبل آلامها، وكانت تتطلَّع إلى أحلام الناس في كلّ حياتهم قبل أن تتطلَّع إلى أحلامها الشخصيّة، وأن يصل الإنسان إلى مستوى، بحيث ينفتح على الناس وهو المثقل بالآلام والهموم، قبل أن ينفتح على نفسه، فإنّ هذه الأريحية هي قمّة الإنسانيّة وقمّة الروحيّة، وتلك هي قصّة أصحاب الرّسالات الّذين يفكّرون في الناس قبل أن يفكّروا في أنفسهم، وقد سقط من سقط ممن حملوا الرّسالة في حركتهم، من خلال اعتبار الرّسالة جسراً للعبور إلى ذواتهم.

لذلك، علينا في تربيتنا الإسلاميّة أن نتربى أولاً، وأن نربي الناس ثانياً على أن يحبّوا الناس، ذلك أنَّ الإنسان الَّذي يحمل في قلبه البغض للناس، لا يستطيع أن يملك مفتاح قلوبهم، بينما بإمكان المحبّة المنفتحة على إنسانيّة الإنسان أن تفتح قلوب الناس، وقد جاء في كلمة الإمام علي(ع): "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"(8)، فابدأ بقلع الشرّ من صدرك، فإنك بذلك تخطو الخطوة الأولى لتحصده وتقتلعه من صدورهم.

حركيّة ثقافيّة وفكريّة

 أيُّها الأحبَّة، لن تكونوا رساليين إذا حوّلتم الرّسالة إلى مهمّة ولم تعيشوها رسالةً وقضيّةً، ولن نكون رساليّين إذا لم نحبّ الناس الذين يعيشون كساحة لحركة رسالتنا.

وهكذا نجد في حياة الزهراء الحركيّة، أنها كانت بالرغم من كلّ أثقالها البيتيّة، تتحسَّس مسؤوليّاتها الثقافيّة في التحدّث إلى نساء المسلمين في كلّ ما يهمّ المرأة من تعاليم ووصايا إسلاميّة. وكانت لها جلسات متعدّدة، حتى إنّه يروى أنها كانت لديها أوراق مما تلقيه على النّساء، فافتقدتها وقالت لخادمتها: "ويحك اطلبيها، فإنها تعدل عندي حسناً وحسيناً"(9)، وإذا صحّت هذه الرّواية، فإنها تدلُّ على مدى الأهمية التي تعطيها للمسألة العلميّة.

 وقد عاشت(ع) مسؤوليّتها الحركيّة عندما اختلف المسلمون في تلك الفترة، وكانت أوَّل امرأةٍ تواجه القضايا التي اختلف فيها النَّاس بالمنطق، وبالموقف الصّلب، وبالحوار، وبالدّعوة إلى الحوار. لذلك، فعندما ندرس شخصيّة الزهراء(ع)، نجد أنّها تمثّل في كثير مما عاشته ومما انطلقت فيه ومما دخلت فيه، ساحات المواقف الشّرعيّة، والكثير من أساليب العمل النّسائي في عصرنا هذا.

فلننطلق، ولنأخذ من إيجابيّات هذه المرأة العظيمة في حياتها الحركيّة، كما نأخذ من أكثر من نموذج من نماذج النّساء المسلمات، حتى نستطيع أن نصل إلى مرحلة يتكاملُ فيها الرجال والنّساء في المجتمع الإسلامي، فلا تكون المرأة كمّيةً مهملةً على هامش الواقع الثّقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ، والله يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ـ أولياء في التّعاون، وأولياء في النّصرة، وأولياء في التّكامل ـ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(10)، وذلك هو درس الإسلام في ذكرى الزّهراء(ع).

* المرجع محمد حسين فضل الله (رحمه الله)

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأحد 12 فبراير 2017 - 13:27 بتوقيت مكة