أبعاد الحجّ

السبت 12 نوفمبر 2016 - 12:16 بتوقيت مكة
أبعاد الحجّ

الكعبة حجر يتحوّل، في الوعي إلى معراج للروح. والبيت بيت للعبادة والتسليم والتعظيم، فيه الأمن والأمان وإليه شرّع سبحانه الحج:

أبعاد الحجّ

الكعبة حجر يتحوّل، في الوعي إلى معراج للروح. والبيت بيت للعبادة والتسليم والتعظيم، فيه الأمن والأمان وإليه شرّع سبحانه الحج:
« إنّ أوّلَ بيتٍ وُضِعَ للنّاسِ لَلّذي بِبَكّةَ مباركاً وهُدىً للعالمينَ * فيهِ آياتٌ بيّناتٌ مقامُ إبراهيمَ، ومنْ دَخَلَهُ كانَ آمناً، وللهِ على النّاسِ حِجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليه سَبيلاً » (1).
« وإذْ جعلْنا البيتَ مثابةً للنّاسِ وأمناً، واتّخِذوا منْ مَقامِ إبراهيمَ مُصلّى، وعَهِدْنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أنْ طهِّرا بيتَيَ للطّائفين والعاكِفينَ والرُّكّعِ السُّجود » (2).
« وإذْ بوّأنا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ أنْ لا تُشركْ بي شيئاً، وطهِّرْ بيتيَ للطّائفين والقائمين والرُّكَّعِ السُّجود » (3).
« وأذّنْ في النّاسِ بالحَجِّ يأتوكَ رجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ، يأتينَ منْ كلِّ فجٍّ عميق * ليشهدوا منافعَ لهمْ ويذكروا اسمَ اللهِ في أيّام معلوماتٍ على ما رزقَهمْ من بَهيمةِ الأنعام، فكُلُوا منها وأطعموا البائسَ الفقير * ثُمّ لْيقضوا تَفَثَهُمْ، ولْيُوفوا نذورَهمْ، وَلْيطَّوّفوا بالبيتِ العتيق * ذلكَ ومَنْ يُعظّمْ حُرماتِ الله فهوَ خيرٌ لهُ عِندَ ربِّهِ، وأُحِلّت لكمُ الأنعامُ، إلاّ ما يُتلى عليكمْ، فاجتنِبُوا الرّجسَ من الأوثانِ، واجتنبوا قولَ الزُّور » (4).
« جَعَلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قياماً للنّاسِ والشّهرَ الحرامَ والهدْيَ والقلائدَ، ذلك لتعلموا أنّ اللهَ يعلمُ ما في السّماواتِ وما في الأرضِ وأنّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليم » (5).

يعلّمنا القرآن
ومما نتعلّمه من هذه الآيات الشريفة:
1ـ أنّ الربّ سبحانه هو الذي دلّ نبيه إبراهيم عليه السّلام على مكان البيت، حين أمره بإنزال إسماعيل وأمّه عنده، في هجرتهما القديمة. وكان آدم عليه السّلام قد وضع مِن قبل، قواعدَ بيت الله بأمر من الله عزّوجلّ.
2ـ شرع إبراهيم وإسماعيل برفع القواعد والأسس القديمة وإعلائها، حتّى استوت بُنية حجرية مكتملة. وكان الرجلان ـ وهما يزاولان العمل البنائي العظيم ـ يشعران بضآلتهما إزاء عظمة الله تعالى، ويتطامنان رهبةً ورغبةً وخشوعاً، ويمتلئان مناجاة ودعاة:
« ربّنا تقبّلْ منّا إنّكَ أنتَ السميعُ العليم » (6).
3ـ الكعبة أساس راسخ لعقيدة التوحيد، ومركز إشعاع لهذه العقيدة، ومنجاة من أشراك الوثنية والضلالة والجهالة، ففي علاقة الموحّد بالكعبة تتجلّى مظاهر وحدانية الله في الطاعة والعبادة، وحدة في الغاية، ووحدة في الطريق إلى الغاية:
« وإذْ بوّأنا لإِبراهيمَ مكانَ البيتِ أنْ لا تشركْ بي شيئاً » (7).
4ـ والكعبة، بهذا المعنى الايماني العظيم أوّل بنية شهدتها البشرية، أُنشئت لهذا الهدف، وأوّل بيت وُضع للنّاس من أجل العبادة، فقصدُ زيارته والحج إليه تزكيةٌ للنفس، وتطهير للقلب، وهو درب يهدي إلى الصراط المستقيم، ويغترف المرء من حجّه وقصد زيارته عظيمَ الأجر والثواب:
« وإذْْ جعلْنا البيتَ مَثابةً للنّاس » (8).
سأل رجل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عن البيت الحرام:
ـ أهو أوّل بيتٍ ؟
قال: ـ ( لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة ).
وقال عليه السّلام أيضاً:
[ كانت البيوت قبله، ولكنه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله ].
5ـ ومن ملامح الاقتداء بإبراهيم عليه السّلام والائتمام به وهو يخطو أمامنا في الطريق إلى الله، أن أمرنا ربّنا سبحانه أن نتخذ من مقام خليله إبراهيم ـ إذ كان يبني الكعبة ـ مصلّى لنا، نتوجّه فيه بالطاعة والذكر والشكر، فنشعر بجهود الخليل عليه السّلام إذ كان يتعب وينصب، فنكشر الله أن هيّأ لنا رجلاً نأتم به كإبراهيم. وربّما أراد ربّنا تبارك وتعالى أن يزيد من منزلة إبراهيم عنده ومن ثوابه لديه، بما يناله من الأجر في كلّ صلاة يصلّيها مصلّ في مقام إبراهيم. وفي الحديث عن الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يقرّر هذه الفكرة العامّة:
[ مَنْ سنَّ سنَّةً حسنةً فلهُ أجرها وأجر من عملَ بها إلى يومِ القيامة ].
6ـ واستأهل بيت الله عزّوجلّ لما له من دلالات إيمانية عميقة، ورموز روحية شاخصة، ومن أثر في توحيد وجهة الموحدين، حرمةً خاصة، واحتراماً يناسب وظيفته ويلائم مهمته:
« جعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قياماً للناس » (9).
فالبيت له في النفوس تعظيم وقداسة، وجعل الله سبحانه من الناحية الزمنية أشهراً حُرماً، ووصل بين حرمة المكان وحرمة الزمان بصلة وثيقة، كالحج في شهر ذي الحجّة الحرام، وشرّع قضايا تناسب الحرمة كالهَدْي والقلائد.
وتتعدّد مصاديق احترام البيت الحرام وتعظيمه فيما نفعله من التوجّه في الصلوات شطر الكعبة المشرّفة، وفيما نصنعه من توجيه الذّبائح وتوجيه الأموات وجهة البيت الحرام، وكذلك فيما نتجنّب فيه استقبال القبلة واستدبارها من سيّئ حالاتنا، وفيما يخدش توقيرنا وتكريمنا لهذه البقعة المطهّرة الكريمة.
7ـ ويرتبط بتعظيم البيت وتوقيره واحترامه ما يشيع فيه من أمن تشريعي ومن سلامة الانسان فيه وطمأنينته على دمه وعرضه وماله:
« وإذْ جعلْنا البيتَ مثابةً للنّاسِ وأمنا ».
« إنّ أوّلَ بيتٍ وُضعَ للنّاسِ لَلذي ببكّةَ مباركاً وهُدىً للعالمين * فيه آياتٌ بيّناتٌ مقامُ إبراهيمَ، ومَنْ دخلهُ كانَ آمنا ».
إنّ المرء ليشعر ـ وهو يعيش حالة الاحترام وحالة الأمن في البيت الحرام ـ بمعان من الجلال ومن الطمأنينة الشاملة، ويحس أنّ بيت الله تبارك وتعالى ملاذ الطريد، وملجأ الشريد، وحصن المضطهَد، وأمان الخائف، وهناءة المرعوب، فهنا في بيت الله ينبع السلام الدائم، وهنا في بيت الله يتحدّر الجلال الدائم.
8ـ وإذ يفرغ إبراهيم عليه السّلام هو وابنه إسماعيل من إقامة الكعبة الشريفة، يبدأ التكليف الإلهي للناس أن يقصدوا بيت الله ويشدّوا الرحال إلى حجّه وزيارته، فيُسمَع صوت النبي إبراهيم عليه السّلام مؤذّناً في الناس بفريضة الحج:
« وأذِّنْ في النّاسِ بالحجِّ يأتوكَ رجالاً، وعلى كلِّ ضامر، يأتينَ منْ كلِّ فجٍّ عميق ».
« وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليهِ سبيلاً ».
إنّ الله عزّوجلّ إله البشرية وربّ البشرية، وقد انبثق الناس جميعاً من يد القدرة الإلهية الخالقة العظيمة؛ من أجل أن يبدأوا رحلة الحياة في السير نحو الله تعالى، وفي التوجّه نحو المصدر الذي انبثقوا منه، بنمط خاصّ من التعبّد، وطراز فريد من الطاعة والتسليم:
« وما خلقتُ الجِنَّ والإِنسَ إلاّ ليعبدونِ * ما أُريدُ منهمْ منْ رِزق وما أُريدُ أن يُطعمونِ * إنّ اللهَ هوَ الرزّاقُ ذُو القوّةِ المَتين » (10).
وها هو ذا صوت النبيّ إبراهيم ينادي بالناس كافّة بالحجّ، فالحجّ مظهر راقٍ من مظاهر الطاعة، والبشر ما خُلقوا إلاّ ليخطوا في طريق الطاعة.
9ـ وآية الأذان بالحج:
« وأذِّنْ في النّاسِ بالحجِّ يأتوكَ رجالاً، وعلى كلِّ ضامرٍ يأتينَ منْ كلِّ فجٍّ عميق ».
تدلّ على أنّ أذان الرسول في الناس بالحج سيُقابَل بالاجابة، وأنّ صوته الذي يجهر بالدعوة إلى قصد البيت وزيارته سيجد آذاناً صاغية وقلوباً واعية، تتخطّى المسافات، وتتجاوز المفاوز والعقبات والسبل البعيدة الشائكة، لتلبّي دعوة الله التي جرت على لسان رسوله الكريم. فالقادرون من الموحّدين ـ كانوا وما يزالون وسيظلون ـ يسمعون أذان الخليل ونداءه بالحجّ، ويلبّون هذا النداء ويُيمّمون وجوههم شطر المسجد الحرام، ماشين على أقدامهم، رغم بُعد الشقة، ورغم الفراسخ والأميال، أو يقصدون البيت راكبين نياقاً قد أرهقها السفر، وأضناها المسير، حتّى وصلت إلى مكّة متعبة مكدودة مهزولة ضامرة. وجموع الحجيج هذه من القبائل والعشائر والأفراد المنقطعين تتطلّع كلّها إلى مكّة المشرّفة، تلبّي النداء الشريف، وتجيب بنبرة تتكسّر، وترقّ، وتسمو، وتشفّ عمّا بها من تخشّع، وهيبة، وسكينة، وعبودية نقية صافية:
[ لبّيكَ اللّهمّ لبّيك، لبّيكَ لا شريكَ لَكَ لبّيك. إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلك. لا شريكَ لكَ لبّيك ].
10ـ ويشهد البيت الحرام، ومكّة المشرّفة جموعاً بشريةً كبيرةً متلاحقة لا تنقطع، فهي محط الرحال وموضع الآمال، ولا تكاد تخلو كعبة الله جلّ وعلا لحظة من قاصد للحجّ أو للزيارة، بل إنّ البيت ليموج بحركة الناس وازدحامهم في الطواف حول الكعبة، أو في تقبيل الحجر السود المبارك وفي استلامه، أو في السعي بين الصفا والمروة، أو في غير ذلك من شعائر الحج أو العمرة. ومن أجل هذه الكثافة البشرية الهائلة التي تتجمّع في أرض مكّة ومن أجل هذه الحركة العبادية الدائمة، كان لمكّة اسم آخر، ينبثق من هذا المعنى هو «بكّة»:
« إنّ أوّلَ بيتٍ وُضعَ للنّاسِ لَلّذي بِبَكّةَ مباركاً وهدىً للعالمين ».
يقول الإمام الصادق عليه السّلام وهو يفسّر لفظة «بكّة»:
[ سُمّيت بكّة؛ لأنّ الناس يبكّون فيها، أي يزدحمون ].
وتشهد بصدق ذلك حقائق التاريخ، كما يشهد الواقع الحي الذي نعيشه كلّ عام في موسم الحجّ ومواسم الاعتمار.
11ـ ومن أجل تحقّق النقاء الكامل، والنظافة الشاملة، أمر الله سبحانه نبيّه بالتطهير: تطهير البيت من الأقذار الماديّة والأنجاس المعنويّة، ليتسنّى لمواكب الحجيج التي لا تنقطع أن تتقدّم إلى بارئها بمراسم العبودية ومظاهر التوحيد والتأليه بقصد القرب منه والزُلفى لديه:
« وعَهِدْنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طهِّرا بيتيَ للطّائفينَ والعاكفينَ والرُّكّعِ السُّجود ».
« وإذْ بوّأنا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ أن لا تشركْ بي شيئاً، وطَهّرْ بيتيَ للطائفينَ والقائمينَ والرُّكّعِ السُّجود » (11).
وتطهير البيت إنّما يتحقّق بجعله بيتاً للتوحيد الصافي من لوثة الوثنية وأرجاس الجاهلية، بأن يعلّم إبراهيم عليه السّلام الناس الطريق إلى العبودية الطاهرة، فالعبادة فيه عبادة خالصة لوجه الله لا تشويها شائبةُ شرك أو دنس أو انحراف، كما حدث فيما بعد أيّام الجاهلية الأولى.
وتطهير البيت كذلك تطهيره من كلّ ما لا يليق بحرمة هذا البيت الشريف وقداسته.
12ـ بناء الكعبة، ومظاهر العبادة الخاصّة التي تُزاوَل فيها، والمناسك التي تأتيها الألوف بعد الألوف من الناس، والملايين بعد الملايين، والمعاني والأسرار المتصلة بالحج والبيت الشريف وبمكّة عامّة، كلّ ذلك علامات دالة وإشارات معبّرة، توصل ـ في نهاية المطاف، أو في أوّل المطاف ونهايته ـ إلى الله جلّ وعلا، وتحكي جليل مقامه سبحانه وعظيم سلطانه، إنّها آيات وعلامات تكون لذوي البصائر بمثابة البوّابات إلى الصراط: موقف إبراهيم عليه السّلام، حرم آمن يأمن مَن دخله، مناسك وعبادات على نمط فريد، الاستمرار على مدى الليالي والأيّام، الألوف عقب الألوف، والملايين بعد الملايين، ما يحسّه المرء من هيمنة روحية مدهشة. أي شيء من هذه الأمور الرائعة لا يكون علامة تدل على الله سبحانه ؟! وأي شيء من هذه المظاهر لا تذكّر بجلال الله وتفرده بالالوهيّة والربوبيّة ؟!
إنّ في البيت لآيات وعلامات، وإنّها لبيِّنات في الوقت نفسه، توصل إلى الله من أقرب طريق صادق، وتُفضي إلى الحقّ من أيسر وجهة صحيحة: « فيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ: مَقامُ إبراهيمَ، ومَنْ دخلهُ كان آمِناً » (12).

الحجّ وصفة الكعبة في كلمات الإمام عليّ عليه السّلام
يجد الإنسان المسلم في «نهج البلاغة» كلمات للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يتعلّم منها، ويقرأ فيها آفاقاً ما كان ليجدها في كلام غيره من الناس بعد كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهل أعجب في الحديث عن الكعبة والحج من كلام رجل يعدّ من أصحاب البصائر الفريدة، كان قد جرّب وذاق وعرف، فسما وامتلأ وفاض؟!
يقول الإمام عليّ عليه السّلام وهو يذكر الحج:
1ـ وفرض عليكم حجّ بيته الحرام، الذي جعله قِبلةً للأنام (13)، يَرِدونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحَمام (14)، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته (15).
2ـ واختار من خلقه سُمّاعاً (16) أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه. يحرزون الأرباح في مَتجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته.
3ـ جعله سبحانه وتعالى للإسلام عَلَماً، وللعائذين حرماً، فَرَض حقّه، وأوجب حجّه، وكتب عليكم وفادته (17)، فقال سبحانه: « ولِلّهِ على الناسِ حجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليه سبيلاً، ومَن كفرَ فإنّ اللهَ غنيٌّ عنِ العالمينَ ».
ويقول عليه السّلام أيضاً وهو يذكر الكعبة وصفتها، والحجّ وأسراره:
4ـ ألا ترون أنّ الله، سبحانه، اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إلى الآخِرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام، الذي جعله للنّاسِ قياماً .
5ـ ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائق (18) الدنيا مَدَراً (19)، وأضيق بطون الأودية قُطْراً: بين جبال خشنة، ورمال دمِثة (20)، وعيون وَشِلَة (21)، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف (22) ولا حافر ولا ظلف (23).
6ـ ثمّ أمر آدم عليه السّلام وولده أن يثنوا أعطافهم (24) نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم (25)، وغاية لملقى رحالهم (26)، تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز (27) قفار سحيقة (28)، ومهاوي (29) فجاج (30) عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتّى يهزُّوا مناكبهم (31) ذُللاً يهلّلون للهِ حوله، ويَرْمَلون (32) على أقدامهم شُعْثاً غُبْراً (33) له. قد نبذوا السرابيل (34) وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشعور (35) محاسن خَلقِهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً جعله الله سبباً لرحمته، ووصلة إلى جنّته.
7ـ ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام (36)، بين جنّات وأنهار، وسهل وقرار (37)، جمَّ الأشجار (38)، دانيَ الثمار، ملتفَّ البُنى (39)، متّصِل القُرى، بين بُرّةٍ سمراء (40)، وروضة خضراء، وأرياف (41) مٌحْدِقة، وعِراصٍ (42)، مُغْدِقة (43) ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صَغُرَ قَدْرُ الجزاء على حسب ضعف البلاء.
8ـ ولو كان الأساس المحصول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمُرُّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لَخفّف ذلك مصارعة الشك في الصدور، ولَوضعَ مجاهدةَ إبليس عن القلوب، ولنفى معتلَجَ الرَّيب (44) من الناس.
9ـ ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المَجاهِد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعلَ ذلك أبواباً فُتُحاً (45) إلى فضله، وأسباباً ذللاً لعفوه.

في الظِّلال
الكعبة والحجّ: من الوجهة التاريخية، كانا منذ كان الإنسان الأوّل. لكأنّ الحجّ ـ بالصيغة التي حدّدها الله تعالى ـ ضرورة من ضرورات العلاقة بين السيِّد والعبد. وكان إبراهيم الباعث لما امّحى من أثر الكعبة بعد تطاول الزمن، والمؤذّن في الناس بالحج بصوت فصيح عال. ثمّ جاءت الرسالة الأخيرة الخاتمة التي تلقّاها محمد بن عبدالله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أرض مكّة، فكان لمكّة في رسالة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم مكانة خاصّة، وللحج منزلة عظيمة، وللشهر الحرام تقدير وتوقير.
وحجّ البيت، في حقيقته مجاهدة وامتحان واختبار وابتلاء وتمحيص، يمتلئ من يجتازه ظافراً بالتذلّل لله، والتواضع لعظمته، والتحرّر من داء الزهو والخيلاء والكبرياء أمام عزّة ربّ العزّة جلّ وعلا، ويفوز بالرحمة السابغة والرضوان.
وهنالك يتذوّق المرء الأشياء والأفكار تذوّقاً و «يحسّ» على الحقيقة بالصلة الأخوية الحميمة التي تربطه بإخوانه المؤمنين الذين يطوفون حول الكعبة مثله، وسيدرك إدراكاً عميقاً معنى عبارة: المسلمون كلّهم إخوة.
والإنسان متجرّد باختياره، خلال الحج أو العمرة، من أثقال المادّة، فهو يسعى ـ نحو الصراط ـ خفيف الروح ، طليق النفس، واثب الخطوات. ومن تخفّف فقد لحق ونجا، و:
[ تخفّفوا تلحقوا ].
كما يقول الإمام عليّ عليه السّلام، و «هكذا ينجو المُخِفّون» كما عبّر سلمان الفارسيّ: الرجل الذي دخل ـ بجدارة ـ بوّابة الصراط.
إنّ هذه الكتل البشرية الهائلة التي تقصد البيت الحرام لتقتحهم الصعاب، وتعاني من السفر الشيء الكثير، وفي أعماقها تنبض لهفة روحية صادقة، وتتوثّب خفقة إيمانية رائعة مشوّقة لرؤية البيت، ولاستلام الحجر، وللطواف أشواطاً بعد أشواط. إنّهم هم السمّاع الذين أجابوا الدعوة، وأسراب الحمام الوالهة المستهامة.
ومن يقصد البيت يجد أمامه الأنبياء والقادة عليهم السّلام في الطريق اللاحب اللذيذ، فإلى هنا وصلوا، وها هنا وقفوا، ومن هنا طافوا، وفي هذه البقعة كانت تصعد منهم أصدق الدعوات، وتنبجس من نفوسهم الشريفة أحرّ المناجاة، وهنا ذرفوا ـ خوفاً وشوقاً ـ أعزّ الدموع. وإنّهم ليطوفون ثمّ يطوفون، ويودّون ألاّ ينقطع الطواف، ثمّ لا يكفّون عن الحمد والتسبيح والاستغفار والتهليل.
ما أقرب صورة الحجيج هذه المطيفة المهللة المكبّرة المسبّحة إلى صورة ملائكة الرحمن الطوافين بعرش ربّ العزّة في السماوات العلى!
إنّ الصورة كالصورة، والتجربة تسمو نحو الماثل، وإنّه لدرب موصول بين الكعبة والعرش. والغاية أن يدنو الإنسان أكثر فأكثر من رحمة ربّه، وأن تتضاءل المسافة التي تفصله عن رضوان الله، وعن نعيم الجنّة. أوَ لم نقل إنّ الطريق إلى الكعبة طريق إلى الجنّة ؟!
الحجّ مجاهدة واختبار وتمحيص. والفوز بالحجّ ـ بشروطه وحدوده التي أرادها المولى سبحانه ـ صعود في درب الإيمان درجة أو درجات. وترويض النفس على المكاره وتزكية لها وتنقيح، وتنقية من مواطن الضعف، وانتصار على مواضع الوهن. ثمّ يكون الجزاء عند الله سبحانه من جنس العمل. ولو كانت وفادة البيت الحرام أمراً سهلاً مستسهلاً لما تهيّأت للنفس فرصة التطهُّر والتنقية والترويض، و:
[ لكان قد ضعف قدْر الجزاء على حسب ضعف البلاء ].
كما يقول الإمام عليّ عليه السّلام.
الطريق إلى الكعبة طريق طويل، والناس يفدون إلى البيت من شتّى بقاع الأرض: من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة. يجتازون إليها ـ وهم في الطريق ـ حجارةً وعرة، وبطونَ أودية ضيّقة، ويمرّون بجبال خشنة، ورمال ليّنة لا تصلح للاستقرار، وبمفاوز شحيحة الماء، نادرة الخصب، وبقرى منقطعة غير آهلة بالحياة.
ثمّ تصل قوافل الحجيج، بعد ما تحمّلوا من مشقّة السفر ووعثاء الطريق، إلى موضع الكعبة، فإذا هي حجارة مرصوفة فوق بعضها، ثمّ لا غير. حجارة فيها قساوة الطريق، وجفاف الصحراء ولون الجبال الجرداء. إذن، فهذه الرحلة الطويلة الحافلة بألوان المشقّة، وضروب الأذى، وأنواع العناء، إنّما كانت من أجل بلوغ هذه الحجارة الصامتة التي جعلها ربّ العالمين بيتاً مقدّساً نسبه إلى نفسه تبارك وتعالى.
فما أشدّ المعاناة إذن! وما أحوج الحاج إلى المزيد من الصبر ثمّ المزيد، وهو يتحمّل كلّ مشقّات الحجّ وكلّ تكاليفه!
بيد أنّ هذه التجربة لرائعة من التجارب، إن لم تكن أروع تجربة في حياة الإنسان، فالرحلة إنّما كانت في صحراء قفراء من أجل أن ينعم الإنسان بمزيد من الخصوبة الروحية. والسفر إنّما كان في بيداء ممتدة كالليل من أجل أن يشعّ الإنسان من الداخل، كالماس، لتكون هذه الرحلة وهذه السفرة بمثابة درجة جديدة في المرقى نحو تغيير النفوس، ودماء جديدة في حياة المجتمع المؤمن الصاعد في درب الله:
« إنّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتّى يُغيّروا ما بأنْفسِهمْ » (46).
وإنّ الإنسان حين يطوف حول الكعبة الشريفة، يصل إلى حالة يكفّ فيها عن النظر إلى هذه الحجارة كشيء فيزيائي. لقد دخلت هذه الحجارة الوعيَ الإنساني، وجعلت المرء يملك إزاءها حسّاً بالأبديّة الملفّعة بالعظمة والجلال.
والمرء حين يبصر الكعبة، تتألّق في روحه حيوية من طراز خاص، هي انعكاس حيّ لمضمون الكعبة العظيم. والمرء يتلقّى من هذه الحيوية بقدر ما لأدواته الروحية من قدرة على التلقّي والقبول، أو بقدر ما يفيضه كرم ربّ البيت على عبده الضعيف الذي قصد بيت سيّده من مكان قاصٍ، ومن فجّ عميق.
إنّ المعرفة المجرّدة ربّما يلتقطها المرء من أيّ مكان، ولكنّ البصيرة هي التي تحتاج إلى التجربة. وهل أكثر شحذاً للبصيرة من تجربة الرحلة إلى بيت الله، والفوز بضيافة الله، في أيّام تُعَدّ للإنسان أروع أيّام العمر ؟! وهل عمر الإنسان إلاّ لون إحساسه بالحياة ودرجة إحساسه بهذه الحياة ؟!
وما أعظم نصيب البشرية من الحكمة والهناء لو أنّ الحجيج كلّهم عادوا من حجّهم، رؤاةً مبصرين!
وما أخيب الحاج الذي رأى الكعبة بعين البصر ولم يدركها بعين البصيرة!

الهوامش:

1ـ آل عمران: 96 ـ 97.
2ـ البقرة: 125.
3ـ الحج: 26.
4ـ الحج: 27 ـ 30.
5ـ المائدة: 97.
6ـ البقرة: 127.
7ـ الحجّ: 26.
8ـ البقرة: 125.
9ـ المائدة: 97.
10ـ الذاريات: 56 ـ 58.
11ـ الحجّ: 26.
12ـ آل عمران: 97.
13ـ الأنام: الناس.
14ـ يألهون إليه: يلوذون به متلهّفين.
15ـ الاذعان: الانقياد والتسليم.
16ـ سمّاعاً: سمعوا دعوته.
17ـ الوفادة: الزيارة.
18ـ النتائق: البقاع المرتفعة، ومكّة مرتفعة لما انحطّ عنها من بلدان.
19ـ المدر: قِطع الطين اليابس.
20ـ رمال دمثة: ليّنة يصعب السير فيها والاستنبات فيها.
21ـ وشلة: قليلة الماء.
22ـ لا يزكو بها خف: لا ينمو بها جمل.
23ـ ولا حافر ولا ظلف: تعبير عن الخيل وما شاكلها، وعن البقر والغنم.
24ـ ثنوا أعطافهم: مالوا وتوجّهوا إليه.
25ـ منتجع الأسفار: محل الفائدة منها.
26ـ نهاية رحلتهم.
27ـ المفاوز: الصحارى.
28ـ السحيقة: البعيدة.
29ـ المهاوي: منخفضات الأرض.
30ـ الفجاج: الطرق الواسعة بين الجبال.
31ـ المناكب: رؤوس الأكتاف.
32ـ الرَمَل: نوع من السير، أسرع من السير وأبطأ من الجري.
33ـ الأشعث: المنتشر الشعر مع تلبّد فيه، والأغبر: الذي علا الغبار بدنه.
34ـ السرابيل: الثياب.
35ـ إعفاء الشعور: ترك الشعر بلا قصّ أو تقصير.
36ـ المشاعر: جمع مَشعر، وهو موضع أداء مناسك الحجّ.
37ـ القرار: المطمئن من الأرض.
38ـ جم الأشجار: كثيرها.
39ـ ملتفّ البنى: كثير البنيان.
40ـ البرّة السمراء: أجود أنواع الحنطة.
41ـ الأرياف: الأراضي الخصبة.
42ـ العراص: الأرض الخالية من البناء.
43ـ المغدقة: من ( أغدق المطر )، أي كثر ماؤه.
44ـ نفى معتلج الريب: أزال تلاطم الريب والشكوك من صدور الناس.
45ـ فُتُحاً: أي مفتوحة واسعة.
46ـ الرعد: 11.

 

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 12 نوفمبر 2016 - 12:16 بتوقيت مكة