مفاهيم الحَجّ

السبت 12 نوفمبر 2016 - 12:15 بتوقيت مكة
مفاهيم الحَجّ

أقبل الإسلام ديناً يفتح ذراعيه للبشريّة جمعاء، ومنهاجاً حياتيّاً يصلح لجميع الاُمم والأقوام.. إذ هو يتناغم مع الفطرة الإنسانيّة، ويرسم للإنسان سبيل سعادته المنشودة.

مفاهيم الحَجّ

أقبل الإسلام ديناً يفتح ذراعيه للبشريّة جمعاء، ومنهاجاً حياتيّاً يصلح لجميع الاُمم والأقوام.. إذ هو يتناغم مع الفطرة الإنسانيّة، ويرسم للإنسان سبيل سعادته المنشودة.
المتأمّل في نظُم وشرائع الدين الحنيف يدرك ما تبعثه التعاليم الإلهيّة في الروح والضمير من حالات الأُنس وحبّ الخير والفضيلة، وتجنّب الظلم والفساد.
وكان مما جاء في الإسلام أن ندب الله تبارك وتعالى عباده إليه، ودعاهم إلى حجّ بيته الحرام، فقال عزّوجلّ: « وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ مَن استطاعَ إليه سبيلاً.. » .(1)
والواقع أن الغفور الرحيم ما دعاهم إلاّ إلى فضله ورحمته وغفرانه؛ إذ الحجّ ضيافة مكرّمة في رحاب المشاهد الإلهيّة المشرّفة، يتشرّف فيها المستجيب بالعطاء الرحمانيّ. والحجُّ ـ إلى ذلك ـ رحلة مقدّسة يرتشف فيها الملبّي سلسبيل القيم السامية، حينما يتنسّك في تلك المواقف المعظّمة، ويقف على مناهل الهدى والتقوى واليقين.
وقد أراد الباري جلّ وعلا لعباده كلّ خير حين أمر فقال: « وأذِّنْ في الناسِ بالحَجِّ يأتوكَ رجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ يأتينَ مِن كلِّ فَجٍّ عميق » (2). فكان أن بلغ النداء الإلهيّ أسماع المؤمنين فلبَّوا طائعين، واستجابت وفود المسلمين مِن كلّ بقعة من بقاع العالم زاحفةً إلى ديار العشق الإلهيّ ورحاب الطاعة في الأيّام المباركات، لتلتقي في حضورٍ مقدّس كبير، فتؤدّي الذي أوجب الله تعالى عليها من الفرائض والمناسك، وتوثّق الثبات على الحقّ ونصرة الدين الحنيف، ولتشهدَ منافعَ طيّبةً أعدّها اللهُ تعالى لوفوده وأضيافه.

من فضائل الحجّ ـ أيّها الإخوة الأحبّة ـ أن يحلّق الحاجّ عن الحياة الماديّة، ويبتعد قليلاً عن حالة التعلّق بالدنيا وزينتها وزخارفها، فيقطّع بعض أوصال الارتباط الآسر، متحرّراً من قيود العبوديّة، ومنطلقاً بشوقه إلى الله سبحانه، ومقبلاً على القيم السامية.
فالحجّ بمنزلة رحلة قصيرة إلى العالم المعنوي، يتجرّد فيها المرء عن كثيرٍ من المشتهيات، فيعيش حالة من الترفّع على الماديات، وسجيّة التواضع، مستجيباً لنداء الله جلّت عظمته، فيأتيه بثوب بسيط يرتديه وهو يعتقد أنّه لا يملك شيئاً، ولا ينفعه إلاّ فضل الله وغفرانه ورحمته.
إنّه استجاب لله تعالى ولبّى بالتوحيد له، وانفصل شيئاً ما عن علائق الدنيا وعوائق التوجّه إلى الرحمن جلّ جلاله، وأزاح شيئاً من الحجب.. فلا رفثَ ولا فسوق ولا جدال، ولا كبْرَ ولا غرور ولا تفاخر. فها هي ألبسة الإحرام ذكّرته بالأكفان، وحبسته عن نزوات النفس وشهواتها الجامحة، وساوته مع غيره، فالكلّ كأنّهم عائلة واحدة، وكأنّهم في حشر، وهو بينهم إنسان لا يُميِّز ولا يُميَّز، فلا رئيس ولا مرؤوس، ولا غنيّ ولا فقير، ولا قويّ ولا ضعيف.. إذ الجميع حشد متوجّه إلى ربّه عزّوجلّ يرجو رحمته ومغفرته، ويطلب نجاته.

لقد حلّت ساعات هجر اللّذات، وكان الفراق للأهل والأولاد والأحبّة، وبدأ السفر إلى الخالق العظيم. ومَن يدري.. فلعلّه آخر المطاف! فلابدّ من: كتابة الوصيّة، وردّ الأمانة إلى أهلها، وتبرئة الذمّة من حقوق الناس، وتصفية القلوب ممّا علُق بها من الضغائن.
إنّه الرحيل عن الناس إلى ربّ الناس، فلابدّ من الوداع، حيث يودّع الراحل وقلبُه محبّ سليم، إنّه الرحيل إلى الباري جلّت قدرته، فلابدّ من الإقبال عليه بقلب مؤمن سليم. ولعلّه التمحيص حين ينبغي على المرء أن يتنازل عن كبريائه خاضعاً لكبرياء الله العليّ العظيم، ولعلّه الامتحان حين يجب عليه أن يصمّ عن الاستجابة لنداءات النفس وأهوائها.
وهكذا.. يبدأ الحاجّ يعيش ساعات جديدة، فإذا بلغ البيت الحرام نظر إليه نظر مشتاق بعينين غارقتين بدموع الشوق والخشوع، ثمّ يطوف حوله مستحضراً قلبه، وهاتفاً من أعماقه بالتلبية، ومستشعراً عظمةَ الله وحوله وقوّته، إذ لا حول ولا قوّة إلاّ به وهو العليّ العظيم، ومتوجّهاً بروحه ولسانُ قلبه حامدٌ متضرّع، يدعو ويرجو التطهّر من الذنوب والآثام .. حتّى يرى نفسه في أهنأ أيّامها وساعاتها وهو مستمتع بالطواف والسعي، والركوع والسجود في المحضر القدسيّ، ينظر إلى الكعبة فيرسل إليها قلبه، ويسعى بين الصفا والمروة في يقظة روحية واُنس معنوي غامر، ويرمي الجمرات وقلبه يمقت الشرّ والشيطان في جميع صوره وآثامه.
ويعود الحاجّ إلى بلده.. فيرى أنّ روحه قد استبدّ بها الشوق، فهي تحنّ إلى تلك الديار المقدّسة، ويجد لسانه يتلذّذ ذكر الله جلّ وعلا.
أمّا ضميره.. فيلحّ عليه أن يمضي في ميثاق الله الذي عقده في حجّه المبرور، وقد عاهد ربَّه أن يبدأ صفحة جديدة في حياته.. صفحة مشرقة بالنور والعطاء.
ـ يقول الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام:
« وعلّة الحجّ: الوفادة إلى الله تعالى، وطلب الزيادة، والخروج من كلّ ما اقترف [العبد]، وليكون تائباً ممّا مضى مستأنفاً لما يستقبل. وما فيه من: استخراج الأموال، وتعب الأبدان وحظرها عن الشهوات واللذّات، والتقرّب بالعبادة إلى الله عزّوجلّ، والخضوع والاستكانة والذلّ، شاخصاً إليه في الحَرّ والبرد، والأمن والخوف، دائباً في ذلك دائماً، وما في ذلك بجميع الخلق من المنافع، والرغبة والرهبة إلى الله عزّوجلّ.
ومنه: ترك قساوة القلب وجسارةِ الأنفس ونسيانِ الذِّكر وانقطاع الرجاء والعمل، وتجديدُ الحقوق، وحظر النفس عن الفساد، ومنفعة مَن في شرق الأرض وغربها، ومَن في البَرّ والبحر ممّن يحجّ وممّن لا يحجّ... وقضاء حوائج أهل الأطراف والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها، كذلك ليشهدوا منافعَ لهم ».(3)

من آداب الحجّ المعنوية
ولكي يعود الحاجّ فائزاً في سفرته الروحيّة.. يقتضي منه أن يكون قد راعى الآداب المعنويّة للحجّ، وهي كما بيّنها لنا الإمام جعفر الصادق صلوات الله عليه في هذا الحديث الشريف، حيث قال:
إذا أردتَ الحجّ فجرّدْ قلبَك لله من قَبل عزمك من كلّ شاغل، وحجابِ كلّ حاجب. وفوِّضْ اُمورك كلَّها إلى خالقك، وتوكَّلْ عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلِّمْ لقضائه وحُكمه وقدَره، وودّع الدنيا والراحة والخَلق، واخرُجْ من حقوقٍ تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك، وقوّتك وشبابك، ومالك؛ مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالاً...
واستعِدَّ استعدادَ مَن لا يرجو الرجوع، وأحسِن الصحبة، وراعِ أوقات فرائض الله وسُننَ نبيّه صلّى الله عليه وآله، وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر، والشكر والشفقة والسخاء، وإيثار الزاد على دوام الأوقات.
ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبَك، والبسْ كِسوةَ الصِّدق والصفاء والخضوع والخشوع.
وأحرِمْ عن كلّ شيء يمنعك من ذِكر الله، ويحجبك عن طاعته.
ولبِّ بمعنى إجابةٍ صافية خالصة زاكية لله عزّوجلّ في دعوتك، متمسّكاً بالعروة الوثقى.
وطُفْ بقلبك مع الملائكة حول العرش، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت.
وهَروِلْ هرباً من هواك، وتبرّياً من جميع حولِك وقوّتك.
واخرُجْ عن غفلتك وزلاّتك بخروجك إلى «مِنى»، ولا تتمنَّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه.
واعترِفْ بالخطايا بـ «عرفات»، وجدّدْ عهدك عند الله بوحدانيّته، وتقرّب إلى الله واتّقِه بـ «مُزدَلَفة».
واصعدْ بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل.
واذبَحْ حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة.
وارمِ الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات.
واحلقِ العيوبَ الظاهرة والباطنة بحَلْق شَعرك.
وادخلْ في أمان الله وكنَفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم.
وزرِ البيتَ متحقّقاً لتعظيم صاحبه، ومعرفة جلاله وسلطانه.
واستلم الحجر رضاءً بقسمته، وخضوعاً لعزّته.
وودّع ما سواه بطواف الوداع.
وأصفِ روحَك وسرّك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على «الصفا».
وكنْ ذا مروّةٍ من الله، نقيّاً أوصافُك عند «المَرْوة».
واستقم على شرط حجّتك، ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربّك وأوجبت له إلى يوم القيامة.(4)
فهنيئاً لمن عاد من حجّه وهو من التوّابين المتطهّرين، تيقّظ شعوره برقابة الله على أعماله وأقواله، ونما في قلبه شعور الخشية من الله عزّوجلّ وحبّ الخير للناس، والترفّع عن الدنايا، والتنزّه عن الرذائل والخطايا.

الهوامش:

1ـ سورة آل عمران / 97.
2ـ سورة الحجّ / 27.
3ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام، للشيخ الصدوق 90:2 ـ الباب 33 / ح 1.
4ـ مصباح الشريعة 47.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 12 نوفمبر 2016 - 12:15 بتوقيت مكة