الكوثر_محافظة اصفهان
العَلم الأشهر
كانت اصفهان ولّادة للكثير من أهل الأدب والعلم، ممن نشروا التنوير والثقافة في شتى أنحاء العالم، بل إن بعضهم لا يزال حاضرًا بأعماله ومؤلفاته حتى اليوم، كما هو علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم المرواني الأموي، المعروف باسم أبو الفرج الأصفهاني (897-967م)، ذاك الأديب العربي الأشهر، وصاحب الكتاب الأكثر شهرةً “الأغاني”.
ولد ابن الحسين في اصفهان وتوفي في بغداد، وهو من أصول عربية قريشية، ويعدّ من أوائل وفطاحل من كتبوا عن الموسيقى العربية، وصاحب التوثيق الأكثر مصداقية لهذا الفن من القرن السابع إلى التاسع الميلادي، ومن الباحثين والمؤرخين من وصفوه بأنه “أحد الآباء المؤسسين لعلم موسيقى الشعوب الحديث”.
وللأصفهاني حضور قوي في مجالات العلم المختلفة، إذ يعدّ من الأعلام في معرفة التاريخ والأنساب والسير والآثار واللغة والمغازي، بجانب معارفه المتعمقة في علم الجوارح والبيطرة والفلك والأشربة، ويعدّ كتابه “الأغاني” المكون من 21 جزءًا، جمعه في 50 سنة، أحد أشهر ما كُتب في الموسيقى والأغاني قبل الإسلام وبعده.
وبجانب كتاب “الأغاني” له عشرات المؤلفات، منها: “مقاتل الطالبيين” و”نسب بني عبد شمس” و”القيان” و”الإماء الشواعر” و”أيام العرب” و”التعديل والإنصاف في مآثر العرب ومثالبها” و”جمهرة النسب” و”الديارات” و”مجرد الأغاني” و”الحانات” و”الخمارون والخمارات” و”آداب الغرباء”.
قال عنه شمس الدين الذهبي: “صاحب “الأغاني” العلّامة الأخباري أبو الفرج، كان بحرًا في نقل الآداب، وكان بصيرًا بالأنساب وأيام العرب، جيد الشعر. والعجب أنه أموي شيعي، وكان وسخًا زريًا، وكانوا يتّقون هجاءه”، ووصفه ابن الجوزي البغدادي: “ومثله لا يوثق بروايته، يصح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمّل كتاب “الأغاني” رأى كل قبيح ومنكر”.
أما التنوخي فتحدث عنه قائلًا: “كان أبو الفرج يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أرَ قط من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخرى منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئًا كثيرًا، مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك، وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء”.
أما ابن خلدون فوصف كتابه “الأغاني” بقوله: “وقد ألّف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه، ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنى له به”.

ومن أعلام اصفهان أيضًا الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم الأصفهاني، المعروف بـ”الرَّاغب الأصفهاني”، وُلد في اصفهان في نوفمبر/ تشرين الثاني 954 وتوفى عام 1108، عاش معظم حياته في بغداد، ويعدّ من أقطاب علماء السنّة الذين قضوا حياتهم في مهاجمة الشيعة والمعتزلة، رغم ادّعاء البعض بأنه شيعي نظرًا إلى ولادته في اصفهان ذات الأغلبية الشيعية.
أبحر في علوم القرآن والسنّة واللغة، وأجاد في الحديث، وأبدع في الأخلاق والعلوم الفلسفية، وهو في المقام الأول أديب من الطراز الأول، وامتزجت معظم مؤلفاته -حتى الدينية منها- بدرر علوم المعاجم كالدعاء والنحو والاستذكار، كما تضمنت أعماله قيمًا أدبية وأخلاقية ودينية ولغوية وتاريخية.
أثرى المكتبة الإسلامية بأمّهات الكتب في العديد من المجالات، لكن ما وصل منها أقل بكثير ممّا كتبه، ومن أبرزها: “محاضرات الأدباء”، “الذريعة إلى مكارم الشريعة”، “الأخلاق” ويسمّى “أخلاق الراغب”، “جامع التفاسير” أخذَ عنه البيضاوي في تفسيره، “المفردات في غريب القرآن”، “حل متشابهات القرآن”، “تفصيل النشأتين”، “تحقيق البيان”، “الاعتقاد”، “أفانين البلاغة”، ورسالة في “آداب مخلطة الناس”.
وهكذا كانت اصفهان كما بخارى وسمرقند وخوارزم وشيراز، ومعها الدينور وهمذان وقزوين وجرجان ونيسابور وطوس وهراة ومرو وبلخ والشاش وفرياب، علامات مضيئة في تاريخ خراسان، ما جعلها واحدة من قلاع العلم والأدب والثقافة على مرّ التاريخ، وإحدى الصفحات المشرّفة في تاريخ العرب والمسلمين، ومداد ممتدّ لإنعاش الحضارة الإنسانية قديمًا وحديثًا.