الكوثر_محافظة اصفهان
ندمج في أصفهان وجها الماضي والحاضر، حيث يظهر فيها تاريخ بلاد فارس العتيق جليا واضحا في صروحها المعمارية ومراكزها الفنية، ويُسمع فيها وقع أقدام العالم الحديث لكن من دون أن يطأ وجهها الأسطوري الساحر الذي تميزت به عبر العصور؛ لتنافس بذلك أكثر المدن أثرية، ليس في أنحاء العالم فحسب، بل حتى في الداخل الإيراني.
تتمتع أصفهان اليوم بكثير من الصروح المعمارية التي تخلق علاقات مكانية خاصة، تعطي للمدينة هويتها المميزة في العمارة والتخطيط الحضري من دون انسياق نحو أنماط العمارة الأوروبية الحديثة.
إلا أن الحال لم يكن دوما هكذا، فقد دُمّرت المدينة مرات عدة بحكم النزاع والحروب التي دارت رحاها في تلك المنطقة، كذلك تعاقبت على حكم بلاد فارس نفسها سلالات مختلفة كانت لكل منهم ثقافتها الخاصة في النمو الحضري والتمدن، ومع ذلك، ظلت المدينة كالعنقاء تنهض من تحت الرماد وتبني مجدها من جديد في كل مرة تطحنها المعارك والحروب.
اقرأ أيضا:
والسبب في ذلك هو اهتمام حكام أصفهان من السلاجقة والصفويين، ومن سبقهم بالعمارة وفنونها، فشيّدوا الجسور وبنوا القلاع والمساجد، حتى أطلق عليها سُكانها "أصفهان نصف جهان" (بالعربية: أصفهان نصف العالم)، فكنوزها أهّلتها لتلك المنزلة عن جدارة وكذلك تاريخها.
وكما يقول الناقد الفني الإيراني جمشيد نور صالحي فإن "الفترات الرائعة للحضارة الإنسانية اقترنت دائما بالترويج لثقافة معمارية خاصة، وتخطيط حضري مميز لأن هذا ما يدل على الارتقاء الثقافي للأمم".
ماضي أصفهان المجيد
تنقل القصص والحكايات الشعبية المتوارثة مثل "الشاهنامة" طبيعة فنون وجماليات منطقة أصفهان وبلاد فارس في العالم القديم، كما أنها تعطي عددا من التصورات الأولية عن المباني المعمارية الفريدة والرائعة المؤسسة للمنطقة، إلا أن هندسة العمارة الفريدة للمنطقة تظهر واضحة في القرنين الـ11 والـ12 مع وصول السلاجقة الأتراك إلى الحكم عام 1038.
ويرى البروفيسور كيم س. سيكستون، من قسم العمارة في جامعة أركنساس، أن السلاجقة زرعوا أفكارا هيكلية إبداعية وجريئة في إيران فضلا عن مفاهيم مكانية جديدة، من شأنها أن تصلح في ما بعد كأساس للتطورات المعمارية الصفوية، فقد برع السلاجقة الأتراك في تصميم القبب الكبيرة كما روّجوا لعادات تنظيم المباني الحضرية المهمة حول الميادين المفتوحة والساحات الكبيرة.
ويعطي ميدان "نقش شاه" (المعروف أيضا باسم ميدان الإمام) صورة واضحة لهذه الفلسفة الفنية، حيث تبلغ مساحة الميدان 9 هكتارات ويعدّ ثاني أكبر ميدان في العالم بعد ميدان تيانانمين في الصين، وهو مدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي بوصفه معلما أثريا، فقد بُني في أوائل القرن الـ17 على يد عباس الأول (السلالة الصفوية) في وقت كانت فيه أصفهان عاصمة إيران.
ويعزى لعباس الأول كثير من الفضل لما وصلت إليه أصفهان كدرّة معمارية إسلامية فارسية إذ ضخ كثيرًا من رأس المال والعمالة لتشييد الجسور ومدّ الطرق التي تخدم طريق الحرير، كذلك رمّم عباس عددًا كبيرًا من الصروح السلجوقية مثل مسجد الجامع باستخدام البلاط الملون والفسيفساء، وأمر بإضافة مئذنتين إلى الإيوان الرئيسي، ومضى في تلميع كل ما قد يبرز جمال أصفهان العاصمة الإستراتيجية التي استقر فيها.