الذكرى الثانية والأربعون لإنتصار الثورة الإسلامية في إيران - دراسة وتحليل (2)

السبت 13 فبراير 2021 - 08:33 بتوقيت مكة
الذكرى الثانية والأربعون لإنتصار الثورة الإسلامية في إيران - دراسة وتحليل (2)

ایران-الكوثر: ( دراسة قديمة مع إضافات ) عن الذكرى الثانية والأربعون لإنتصار الثورة الإسلامية في إيران، القسم الثاني والأخير.

  كانت أهم الخطوط العامة لأستراتيجية قيادة الثورة في التحرك السياسي هي :
 أولاـ المظاهرات والأحتجاجات والأضرابات والأعتصامات السلمية بالرغم من القمع الوحشي الذي كانت تقوم به أجهزة الأمن وفيما بعد قوات الجيش.. وسقوط الآلاف من الشهداء والجرحى والآلاف من المعتقلين , وبالطبع كان ذلك ثقيلا على قيادة الثورة, خاصة وهي تمتلك القدرة على الرد ولو المحدود (لوجود مجموعات معارضة مسلّحة وكذلك أوساط في القوات المسلّحة مستعدّة لتنفيذ أي تكليف من طرف السيد الخميني (قدس سره) بلحاظ موقعه الديني الشرعي).
أن خيار المواجهة السلمية مع النظام المتوحّش كان قرارا حكيما ومدروسا وبعيد النظر, ويستهدف تحقيق عدة أهداف حيوية تتطلبها المراحل اللاحقة للثورة وأبرزها :
       1ـ التعبئة الشاملة للشعب الأيراني في كل مناطق أيران (البلاد الشاسعة التي تضم أكثر من ستة وثلاثين مليون نسمة آنذاك أي عام 1978م ), وأستقطابها حول القيادة المتصدية وحول الأهداف الكبرى للثورة وحول الخلايا الثورية المنتشرة, وبالفعل تم وخلال أكثر من عام من المظاهرات والأحتجاجات السلمية التي يتم مواجهتها بالقوة المفرطة, تم بناء أكبر الشبكات المنظّمة لقواعد شعبية مليونية تؤمن بهدف مركزي واحد وتلتف حول قيادة ثورية أسلامية واحدة.. تتحرك عندما تأمرها القيادة بذلك وتكسر حظر التجوّل وتمتنع عن الرد على قوات الأمن والجيش .. حسبما تحدّده القيادة العليا, وستكون تلك التشكيلات قاعدة النظام الجديد.
     2ـ السعي للمحافظة على أرواح المواطنين, لأن أعتماد الأساليب غير السلمية في المواجهة مع النظام المدجّج بالسلاح وبأمكانات القمع المتطوّرة , كان سيؤدّي الى سقوط أضعاف أعداد المواطنين الذين أستشهدوا وكان سيؤدي الى مجازر أكبر بكثير من تلك التي حصلت خلال الأحتجاجات السلمية, وهو مايكشف الحرص العالي على عدم أراقة المزيد من الدماء.
    3ـ كان يمكن لأستخدام الأساليب غير السلمية أن يؤدي الى تشويه حقيقة الثورة وأهدافها وبرامجها, وأتاحة الفرصة لأبواق النظام ومن وراءه لتصوير التحرك بوصفه صراعا مع  قوى طامعة بالسلطة, ويجب أن لاننسى هنا أن النظام الشاهنشاهي تمكّن ولعقود من الزمن من عزل وأبعاد القيادة الأسلامية عن قواعدها الشعبية في الداخل.. ومنع وصول صوتها الى الشعب .  
    4ـ السعي لتحييد أوساط ومفاصل وأجهزة هامة داخل السلطة, كالقوات المسلّحة والأجهزة الأدارية للدولة, والمظلومين والدماء البريئة هي وحدها القادرة على ذلك .. وكما يقولون : أنتصار الدم على السيف , وبالعكس كان يمكن أن يؤدي أعتماد الوسائل غير السلمية الى المزيد من التلاحم والألتفاف من قبل القوى المتردّدة في المواجهة حول النظام القائم لشعورهم بالخوف من القادم ... وفعلا نجحت قيادة الثورة الأسلامية في أيران في تحييد قطاعات كبيرة من القوات المسلّحة وغالبية البنية الأدارية للدولة فضلا عن بعض المسؤولين الذين لم يكونوا في صلب بنية الجهاز الحاكم المسؤول عن جرائم النظام ...
   ثانيا ـ عدم السماح بتعدّدية القيادة العليا للثورة , بمعنى المحافظة على وحدة القيادة والتي كانت متمثـّلة بالسيد الخميني (قدس سره) , لأن مقتل الأنتفاضات أو الثورات الشعبية هو في تعدد وتضارب قياداتها. وهذا الأمر لم يكن توجيها من فوق بل كان هو حصيلة أمر واقع, فالملايين من الجماهير الأيرانية لم تكن تعرف سوى السيد الخميني قائدا ذو مصداقية ومعبّرا بحق عن آمالها وآلامها.. ولذا فشلت كل محاولات الدوائر الخارجية الهادفة الى فبركة بعض القيادات المصطنعة بغرض خلق الأنقسامات والصراعات الجانبية وتضليل الجماهير الثائرة... علما بأن القيادة الأسلامية كانت منفتحة على كل القوى الوطنية المخلصة لقضية الحرية والأستقلال وأقامة النظام الذي يرتضيه الشعب..
   ثالثاـ المنهج الواقعي في أدارة التحرك الشعبي وعدم التطرف في الشعارات أو تحميل الشعب ما لا يمكن أن يتحمّله ,على سبيل المثال كانت قيادة الثورة تجمع المال من تبرعات التجار المتعاطفين أومن الحقوق الشرعية (الزكاة والخمس وغيرها) وتصرف منه على عوائل العمال المضربين في مصافي النفط في عبادان أوفي المؤسّسات الأخرى, كما أنشأت صناديق المساعدة المالية أو العينية في مساجد البلاد المختلفة, وينقل البعض من شهود أحداث الثورة أن المحتاجين كانوا يأخذون مقدار مايحتاجون من تلك الصناديق ويعيدونها عند التمكّن.. وظهرت الواقعية في مستوى آخر عندما بدأت الحكومة المؤقّتة التي شكّلها قائد الثورة برئاسة (بازركان) بالأتصال في ذروة الأزمة بالدول التي كانت تشتري النفط الأيراني وطمأنتهم بأن النظام السياسي الجديد سوف يلتزم بنفس ضوابط بيع النفط الأيراني التي كانت سائدة قبل التغيير, كما فتحت خطوط أتصال وحوار مع عدد من ضباط القوات المسلّحة ورجال الدولة الذين لم تتلطّخ أيديهم بدماء المواطنين وطمأنتهم بعدم وجود أية نوايا لتصفيات أو تطهيرات أوحملات أنتقام ممّن كانوا يعملون مع النظام السابق, بل هي مستعدة لأستيعاب كل الطاقات المخلصة لوطنها.
   رابعاـ المبادرة وبما يتناسب ومسؤولية القيادة وتطور الأوضاع ونضوج الظروف اللازمة للأنتقال الى مرحلة جديدة ومع تغير وتطوّر خطط وسياسات النظام ومن هم وراءه والأهتمام الكبير بعامل الزمن الثمين جدا (الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود)..
مبادرة القيادة كما ذكرنا كانت هي الأساس في توجيه وتعبئة مشاعر الغضب الشعبية التي أنطلقت كرد فعل على قتل نجل قائد الثورة السيد مصطفى الخميني في النجف الأشرف, توجيهها نحو دعم المطالب الأساسية للشعب الأيراني والمتمثلة بالحرية والأستقلال وبناء نظام العدالة الألهية, وعندما نجحت في تلك التعبئة المليونية وأثبتت لنظام الشاه وللقوى الدولية التي تدعمه وتقف وراءه , قدرة تلك الملايين على فرض مطالبها وألتزامها بتوجيهات وأوامر قيادتها الشرعية.. تحرّكت وبسرعة لطرد آخر حكومة قام الشاه بتشكيلها (حكومة بختيار), وأعلنت الحكومة المؤقتة برئاسة مهدي بازركان وأمرت كل دوائر الدولة بطرد وزراء حكومة بختيار ومنعهم من الدوام وأستقبال وزراء الحكومة المؤقّتة وتنفيذ تعليماتهم لأدارة مرافق الدولة وتوفير الخدمات للمواطنين...ولم تقع في الفخ الأمريكي الذي عبّرت عنه رسالة الرئيس كارتر آنذاك والذي طلب فيها من قيادة الثورة منح بختيار فرصة ثلاثة أشهر فقط بزعم معالجة بعض الأوضاع , بينما كانت الخطة الأمريكية الحقيقية تتمثل في قيام حكومة بختيار بعدة أجراءات وخطوات هدفها سحب البساط من تحت أقدام القيادة الأسلامية , من قبيل ألغاء الملكية وأعلان الجمهورية وأغلاق سفارة أسرائيل وأطلاق سراح سجناء سياسيين والحل الشكلي للساواك (جهاز الأمن المرعب في زمان الشاه) وأجراء أنتخابات فيها هامش كبير من الحرية ... ولكن مع المحافظة سرا على أهم ركائز النظام السابق وعلى أهم ركائز النفوذ الأمريكي والغربي في أيران ... كما حصل في العديد من الدول العربية والأسلامية التي وقعت فيها أنقلابات عسكرية في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي ...وأقوى مبادرات القيادة الأسلامية تمثّلت بتوجيه الجماهير المليونية لكسر قرار منع التجول الذي أصدرته حكومة بختيار ليلة أنتصار الثورة (10/2/1979) والتواجد في شوارع المدن والقرى , وأيضا بتوجيهها للدفاع عن منتسبي القاعدة الجوية في احدى مناطق العاصمة  طهران, والذين حاولت قوات الحرس الشاهنشاهي (جاويدان أي الخالدون) قمعهم لأعلانهم الأنحياز الى صف الثورة وقيادتها... فالأدارة الأمريكية وبعد أحساسها بأنهيار معسكر الشاه وعدم نجاح مخطط حكومة بختيار في خداع الجماهير وكسب الوقت , بادرت الى أرسال أحد كبار جنرالاتها (روبرت أ.داج هايزر وكان يشغل موقع معاون قائد القوات الأمريكية المستقرة في اوربا) الى طهران في مهمة سرية تتمثّل بالعمل على ضمان تأييد كبار جنرالات الشاه لحكومة بختيار والسعي للأيحاء بوقوف القوات المسلحة على الحياد في الصراع بين حكومة بختتيار وحكومة بازركان المدعومة من قبل الأمام الخميني (بهدف  الحفاظ على المؤسّسة العسكرية المعروفة بولاء قياداتها العليا للسياسة الأمريكية, ومنع أنقسامها وتشرذمها والأحتفاظ بها كورقة أحتياطية تستخدمها في الوقت المناسب ضد الثورة ونظامها الجديد وهو مانجح في مصر في شباط/فبراير 2011م) , ومن ثم تنفيذ أنقلاب عسكري في حال فشلت كل الخطط الأخرى (وسنتطرق الى ذلك باتفصيل لاحقا), وبالفعل في صباح يوم العاشر من شباط /فبراير 1979 م أعلنت قيادة الجيش وقوفها على الحياد في الصراع بين بقايا نظام الشاه وبين حكومة الثوار , وأعلنت قرار بفرض حظر مبكر للتجول يبدأ عصرا وتوجهت قوات الحرس الملكي للقضاء على تمرّد قاعدة القوة الجوية في طهران... ولكن وكما قلنا ولوعي قيادة الثورة ولمعرفتها بحقيقة نوايا بقايا نظام الشاه ونوايا الدوائر الأمريكية, لم تنخدع بأعلان الجيش بوقوفه على الحياد (بالطبع الجيش هو جزء من الشعب وهو منحاز الى صفوف الشعب , ولكن الغالبية من قياداته تكون عادة جزءا من النظام الدكتاتوري وأداته في أرغام الجيش على ضرب الشعب.. وغالبا ما تكون تلك القيادات مرتبطة بدوائر خارجية نافذة), وعلمت أن التبكير بساعة منع التجوال هو علامة بدء مخطط الأنقلاب العسكري الذي كان سيقوم بتنفيذ مجازر واسعة بحق الجماهير الثائرة, فأمرت الجماهير بكسر حظر التجوال والتواجد في الشارع بالرغم من برودة أيام الشتاء والدفاع عن قطاعات الجيش التي أنحازت الى الثورة وبالفعل في ليل 10/2/1979 ونهار يوم 11/2/1979 م هاجمت الجماهير المسلّحة الموالية للسيد الخميني (قدس سره) معسكرات ومراكز الشرطة وسيطرت عليها وكان ذلك اليوم اي 11/2/1979 (الموافق بالتقويم الأيراني 22 بهمن عام 1357 هجري شمسي) هو يوم أنتصار الثورة وسقوط نظام الشاه.
     أن تشخيص الموقف الصحيح والمبادرة السريعة الى تنفيذه في الواقع , هي من مصاديق كفاءة القيادة وأستقامتها , وستعلم قيادات بعض ثورات الربيع العربي الخطأ الكبير الذي أرتكبته عند توقفها في آخر الطريق وعدم أتخاذ المواقف الجذرية المطلوبة عندما كانت الجماهير في ذروة تفاعلها وصمودها وتهيؤها.. والثمن الباهض الذي سيدفعه الشعب وقواه الوطنية لاحقا عند قبولها وسكوتها عن خديعة أدعاءات وقوف القيادات الأمنية والعسكرية للنظام القديم على الحياد أو أدّعاءات حمايتها للثورة وللثوار, وهي التي ولغت ولعقود من الزمن في دماء المواطنين ...
أن أهم أسباب حكمة وشجاعة القيادة الأسلامية عند أتّخاذها لتلك المواقف المصيرية في اللحظات  الحرجة والخطيرة , هي : ــ  حملها للعلم الأسلامي الذي يمثّل المعيار في التمييز بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام (ليس فقط في مجال فقه العبادات والمعاملات بل في مجال فقه الجهاد والدفاع عن الأسلام والمسلمين وأوطان المسلمين ).
 ــ  أستقامتها ونزاهتها الأخلاقية أو بالتعبير المتداول أمتلاكها للعدالة والتقوى .
 ــ أحاطتها التفصيلية والدقيقة بالواقع القائم , خاصة فيما يتعلق بمجال حركتها.
 ــ كفاءتها التنظيمية والأدارية وحسن تدبيرها وأمتلاكها لخصائص المدير أو القائد الناجح
 ــ وعيها السياسي العالي والعميق ودراستها لتجارب الآخرين , خاصة وعيها لمكائد وخدع و أساليب الأعداء الماكرة, وأمتلاك الحصانة السياسية والأخلاقية ضدها.
يكون مناسبا هنا الترحم على شهداء الشعب الأيراني المسلم الذين سقطوا (بل أرتفعوا) من أجل أسقاط (كسرى عصره شاه أيران) في 11/2/1979م , وثورتهم ودولتهم تقضي السنة الثانیة والاربعين من عمرها.
وكذلك شهداء الشعب المصري النجباء الذين قضوا من أجل أزاحة (فرعون عصره حاكم مصر)
 عن السلطة أي عن رئاسة الجمهورية في 11/2/2011م (ويا حسن مصادفة نفس اليوم الذي هو من أيام الله), وندعو الباري أن يأخذ بأيدي المؤمنين المخلصين لأكمال مسيرة التغيير.
كم كان سروري كبيرا عندما قرأت الآيات الكريمة المقتبسة من سورة الدخان {بسم الله الرحمن الرحيم : كم تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) كذلك وأورثناها قوما ءاخرين (28) فما بكت عليهم السماء والأرض وماكانوا منظرين (29)  صدق الله العلي العظيم } ...قرأتها وهي معلّقة بلافتة كبيرة على قصر شاه أيران في شمال العاصمة طهران ... وهي عبرة لكل الظالمين والحاكمين ..
د. السيد أكرم الحكيم

إقرأ أيضا: الذكرى الثانية والأربعون لإنتصار الثورة الإسلامية في إيران - دراسة وتحليل

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 13 فبراير 2021 - 07:26 بتوقيت مكة
المزيد