مع المجالس الحسينية المكتوبة..المجلس الأول من اليوم الرابع..ابن زياد يقتل هانىء بن عروة

الجمعة 14 سبتمبر 2018 - 07:32 بتوقيت مكة
مع المجالس الحسينية المكتوبة..المجلس الأول من اليوم الرابع..ابن زياد يقتل هانىء بن عروة

قال : إيه يا هانىء بن عروة ، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك...

الشيخ عبدالله إبن الحاج حسن آل درويش

إذا كنتِ لا تدرين ما الموتُ فانظري     إلى هانىء في السوقِ وابنِ عقيلِ

إلى رَجُل قد هشَّم السيفُ وَجْهَهُ      وآخرَ يُلقى من طِمَارِ قتيلِ

قال الراوي : فلمّا أشرف (ابن زياد) على الكوفة نزل حتى أمسى ليلا ، فظنَّ أهلُها أنه الحسين(عليه السلام) ودخلها مما يلي النجف ، فقالت امرأة : الله أكبر! ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وربّ الكعبة ، فتصايح الناس قالوا : إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً ، وازدحموا عليه حتى أخذوا بذنب دابته ، وظنُّهم أنه الحسين (عليه السلام) ، فحسر اللثام ، وقال : أنا عبيدالله ، فتساقط القوم ، ووطأ بعضهم بعضاً ، ودخل دار الإمارة ، وعليه عمامة سوداء .

فلمَّا أصبح قام خاطباً ، وعليهم عاتباً ، ولرؤسائهم مؤنّباً ، ووعدهم بالإحسان على لزوم طاعته ، وبالإساءة على معصيته والخروج عن حوزته ، ثم قال : يا أهل الكوفة ، إن أمير المؤمنين يزيد ولانّي بلدكم ، واستعملني على مصركم ، وأمرني بقسمة فيئكم بينكم ، وإنصاف مظلومكم من ظالمكم ، وأخذ الحقّ لضعيفكم من قويّكم ، والإحسان للسامع المطيع ، والتشديد على المريب ، فأبلغوا هذا الرجل الهاشميَّ مقالتي ليتّقي غضبي ، ونزل ، يعني بالهاشمي مسلم بن عقيل(عليه السلام) .

وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن الأعور الحارثي ، وحشمه وأهل بيته حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء ، وهو متلثِّم ، والناس قد بلغهم إقبال الحسين(عليه السلام)إليهم ، فهم ينتظرون قدومه ، فظنّوا حين رأوا عبيدالله أنه الحسين(عليه السلام) ، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلاَّ سلَّموا عليه ، وقالوا : مرحباً بك يا ابن رسول الله ، قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسين (عليه السلام) ما ساءه ، فقال مسلم بن عمرو لمَّا أكثروا : تأخَّروا ، هذا الأمير عبيدالله ابن زياد .

وسار حتى وافى القصر بالليل ومعه جماعة قد التفّوا به ، لا يشكّون أنه الحسين(عليه السلام) فأغلق النعمان بن بشير عليه وعلى خاصته ، فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب ، فاطلع عليه النعمان وهو يظنّه الحسين (عليه السلام) فقال : أنشدك الله إلاَّ تنحّيت ، والله ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي ، ومالي في قتالك من إرب ، فجعل لا يكلِّمه ، ثم إنه دنا وتدلَّى النعمان من شرف القصر ، فجعل يكلِّمه ، فقال : افتح لا فتحت فقد طال ليلك ، وسمعها إنسان خلفه ، فنكص إلى القوم الذين اتّبعوه من أهل الكوفة على أنه الحسين(عليه السلام) فقال : يا قوم! ابن مرجانة والذي لا إله غيره ، ففتح له النعمان فدخل ، وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضّوا .وأصبح فنادى في الناس : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فخرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد ، فإن أمير المؤمنين يزيد ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البرّ ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليتق امرؤٌ على نفسه ، الصدق ينبي عنك لا الوعيد ، ثمَّ نزل ، وأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً فقال : اكتبوا إليَّ العرفاء ، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين ، ومن فيكم من أهل الحرورية ، وأهل الريب الذين شأنهم الخلاف والنفاق والشقاق ، فمن يجيء لنا بهم فبريء ، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا من في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ، ولا يبغي علينا باغ ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله ، أيّما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره ، وألغيت تلك العرافة من العطاء .

ولما سمع مسلم بن عقيل(عليه السلام) مجيء عبيدالله إلى الكوفة ، ومقالته التي قالها ، وما أخذ به العرفاء والناس ، خرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هانىء بن عروة فدخلها ، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانىء على تستّر واستخفاء من عبيدالله ، وتواصوا بالكتمان .

فدعا ابن زياد مولى له يقال له : معقل ، فقال : خذ ثلاثة آلاف درهم ، واطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه ، فإذا ظفرت بواحد منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم ، وقل لهم : استعينوا بها على حرب عدوّكم ، وأعلمهم أنك منهم ، فإنك لو قد أعطيتهم إياها لقد اطمأنّوا إليك ووثقوا بك ، ولم يكتموك شيئاً من أمورهم وأخبارهم ، ثم غد عليهم ورح حتى تعرف مستقرَّ مسلم بن عقيل ، وتدخل عليه .

ففعل ذلك ، وجاء حتى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يصلّي ، فسمع قوماً يقولون : هذا يبايع للحسين (عليه السلام) ، فجاء وجلس إلى جنبه حتى فرغ من صلاته ، ثم قال : يا عبدالله ، إني امرؤ من أهل الشام ، أنعم الله عليَّ بحبِّ أهل البيت (عليهم السلام) وحبِّ من أحبَّهم ، وتباكى له وقال : معي ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فكنت أريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلّني عليه ، ولا أعرف مكانه ، فإني لجالس في المسجد الآن إذ سمعت نفراً من المؤمنين يقولون : هذا رجل له علم بأهل هذا البيت ، وإني أتيتك لتقبض مني هذا المال ، وتدخلني على صاحبك ، فإني أخ من إخوانك ، وثقة عليك ، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه .

فقال له ابن عوسجة : أحمد الله على لقائك إياي ، فقد سرَّني ذلك ، لتنال الذي تحبّ ، ولينصرنَّ الله بك أهل بيت نبيِّه عليه وعليهم السلام ، ولقد ساءني معرفة الناس إياي بهذا الأمر قبل أن يتمَّ مخافة هذا الطاغية وسطوته ، فقال له معقل : لا يكون إلاّ خيراً ، خذ البيعة عليَّ! فأخذ بيعته ، وأخذ عليه المواثيق المغلَّظة ليناصحنَّ وليكتمنَّ ، فأعطاه من ذلك ما رضي به ، ثمَّ قال له : اختلف إليَّ أياماً في منزلي ، فإني طالب لك الإذن على صاحبك ، وأخذ يختلف مع الناس فطلب له الإذن فأذن له ، وأخذ مسلم بن عقيل بيعته ، وأمر أبا ثمامة الصائدي بقبض المال منه ، وهو الذي كان يقبض أموالهم ، وما يعين به بعضهم بعضاً ، ويشتري لهم به السلاح ، وكان بصيراً وفارساً من فرسان العرب ، ووجوه الشيعة ، وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم فهو أول داخل وآخر خارج ، حتى فهم ما احتاج إليه ابن زياد من أمرهم ، فكان يخبره به وقتاً فوقتاً.

وقال ابن شهر آشوب عليه الرحمة : لما دخل مسلم الكوفة سكن في دار سالم بن المسيب فبايعه اثنا عشر ألف رجل ، فلمّا دخل ابن زياد انتقل من دار سالم إلى دار هانىء في جوف الليل ، ودخل في أمانه ، وكان يبايعه الناس حتى بايعه خمسة وعشرون ألف رجل ، فعزم على الخروج ، فقال هانىء : لا تعجل ، وكان شريك ابن الأعور الهمداني جاء من البصرة مع عبيدالله بن زياد ، فمرض فنزل دار هانىء أياماً ، ثمَّ قال لمسلم : إن عبيدالله يعودني ، وإني مطاوله الحديث ، فاخرج إليه بسيفك فاقتله ، وعلامتك أن أقول : اسقوني ماء ، ونهاه هانىء عن ذلك .

فلمَّا دخل عبيدالله على شريك وسأله عن وجعه ، وطال سؤاله ورأى أن أحداً لا يخرج فخشي أن يفوته فأخذ يقول :

ما الانتظارُ بسلمى أن تحيِّيها      كأسَ المنيَّةِ بالتعجيلِ اسْقُوها

وفي مقاتل الطالبيين :

ما الانتظارُ بسلمى أَنْ تحيّوها      حيّوا سُليمى وَحَيُّوا مَنْ يحيّيها

كأسَ المنيَّةِ بالتعجيلِ أسقوها.

فتوهَّم ابن زياد وخرج ، فلمَّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبدالله بن يقطر فإذا فيه : للحسين بن علي(عليهما السلام) ، أمَّا بعد فإني أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا ، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل فإن الناس كلهم معك ، وليس لهم في يزيد رأي ولا هوى ، فأمر ابن زياد بقتله.

وقال ابن نما الحلي عليه الرحمة : فلمَّا خرج ابن زياد دخل مسلم والسيف في كفّه قال له شريك : ما منعك من الأمر؟ قال مسلم : هممت بالخروج فتعلَّقت بي امرأةٌ وقالت : نشدتك الله إن قتلت ابن زياد في دارنا ، وبكت في وجهي ، فرميت السيف وجلست ، قال هانىء : يا ويلها ، قتلتني وقتلت نفسها ، والذي فررت منه وقعت فيه .

وقال أبو الفرج في المقاتل : قال هانىء لمسلم : إني لا أحبّ أن يقتل في داري ، قال : فلمّا خرج مسلم قال له شريك : ما منعك من قتله؟ قال : خصلتان :

أما إحداهما فكراهية هانىء أن يقتل في داره ، وأمّا الأخرى فحديث حدَّثنيه الناس عن النبي(صلى الله عليه وآله) أن الإيمان قيد الفتك ، فلا يفتك مؤمن ، فقال له هانىء : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً.

قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وخاف هانىء بن عروة عبيدالله على نفسه ، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض ، فقال ابن زياد لجلسائه : ما لي لا أرى هانئاً؟ فقالوا : هو شاك ، فقال : لو علمت بمرضه لعدته ، ودعا محمد بن الأشعث ، وأسماء ابن خارجة ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ـ وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانىء بن عروة ، وهي أم يحيى بن هانىء ـ فقال لهم : ما يمنع هانىء بن عروة من إتياننا؟ فقالوا : ما ندري ، وقد قيل إنه يشتكي ، قال : قد بلغني أنه قد برىء ، وهو يجلس على باب داره ، فالقوه ومروه أن لا يدع ما عليه من حقنا ، فإني لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب .

فأتوه حتى وقفوا عليه عشيَّةً وهو جالس على بابه ، وقالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير؟ فإنه قد ذكرك وقال : لو أعلم أنه شاك لعدته ، فقال لهم : الشكوى تمنعني ، فقالوا : قد بلغه أنك تجلس كل عشيَّة على باب دارك ، وقد استبطأك ، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان ، أقسمنا عليك لما ركبت معنا ، فدعا بثيابه فلبسها ، ثمَّ دعا ببغلته فركبها حتى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحسَّت ببعض الذي كان ، فقال لحسان بن أسماء بن خارجة : يا ابن الأخ ، إني والله لهذا الرجل لخائف ، فما ترى؟ فقال : يا عمّ ، والله ما أتخوَّف عليك شيئاً ، ولم تجعل على نفسك سبيلا ، ولم يكن حسان يعلم في أيِّ شيء بعث إليه عبيدالله .

فجاء هانىء حتى دخل على عبيدالله بن زياد وعنده القوم ، فلما طلع قال عبيدالله : أتيتك بخائن رجلاه ، فلما دنا من ابن زياد ـ وعنده شريح القاضي ـ التفت نحوه فقال :

أريدُ حباءَه ويريدُ قتلي     عذيرُكَ مِنْ خليلِكَ مِنْ مُرَادِ

وقد كان أول ما قدم مكرماً له ملطفاً ، فقال له هانىء : وما ذاك أيها الأمير؟ قال : إيه يا هانىء بن عروة ، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له الجموع ، والسلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أن ذلك يخفى عليَّ؟ قال : ما فعلت ذلك وما مسلم عندي ، قال : بلى قد فعلت ، فلما كثر بينهما وأبى هانىء إلاَّ مجاحدته ومناكرته ، دعا ابن زياد معقلا ذلك العين ، فجاء حتى وقف بين يديه وقال : أتعرف هذا ؟ قال : نعم ، وعلم هانىء عند ذلك أنه كان عيناً عليه ، وأنه قد أتاه بأخبارهم فأسقط في يده ساعة .

ثم راجعته نفسه ، فقال : اسمع مني وصدِّق مقالتي ، فوالله ما كذبت ، والله ما دعوته إلى منزلي ، ولا علمت بشيء من أمره حتى جاءني يسألني النزول ، فاستحييت من ردّه ، وداخلني من ذلك ذمام فضيَّفته وآويته ، وقد كان من أمره ما بلغك ، فإن شئت أن أعطيك الآن موثقاً مغلَّظاً أن لا أبغيك سوءاً ولا غائلة ، ولآتينّك حتى أضع يدي في يدك ، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك ، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض ، فأخرج من ذمامه وجواره .

فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني أبداً حتى تأتيني به ، قال : لا والله لا أجيئك به أبداً ، أجيئك بضيفي تقتله؟ قال : والله لتأتيني به ، قال : والله لا آتيك به ، فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي ـ وليس بالكوفة شاميٌّ ولا بصريّ غيره ـ فقال : أصلح الله الأمير ، خلّني وإياه حتى أكلِّمه ، فقام فخلا به ناحية من ابن زياد ، وهما منه بحيث يراهما ، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان .

فقال له مسلم : يا هانىء ، أنشدك الله أن تقتل نفسك ، وأن تدخل البلاء في عشيرتك ، فوالله إني لأنفس بك عن القتل ، إن هذا ابن عمِّ القوم ، وليسوا قاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليهم ، فإنه ليس عليكم بذلك مخزاة ولا منقصة ، إنما تدفعه إلى السلطان .

فقال هانىء : والله إن عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى ، شديد الساعد ، كثير الأعوان ، والله لو لم يكن لي إلاَّ واحد ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه ، فأخذ يناشده وهو يقول : والله لا أدفعه إليه أبداً .

فسمع ابن زياد لعنه الله ذلك فقال : أدنوه مني ، فأدنوه منه ، فقال : والله لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك ، فقال هانىء : إذاً والله تكثر البارقة حول دارك ، فقال ابن زياد : والهفاه عليك ، أباالبارقة تخوِّفني؟ وهو يظنّ أن عشيرته سيمنعونه ، ثمَّ قال : أدنوه منّي ، فأدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدّه حتى كسر أنفه ، وسالت الدماء على وجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته ، حتى كسر القضيب ، وضرب هانىء يده على قائم سيف شرطي وجاذبه الرجل ومنعه .

فقال عبيدالله : أحروري سائر اليوم؟ قد حلّ دمك ، جرُّوه ، فجرُّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار ، وأغلقوا عليه بابه ، فقال : اجعلوا عليه حرساً ، ففعل ذلك به ، فقام إليه حسان بن أسماء فقال : أَرُسُلُ غَدْر سائر اليوم؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به هشَّمت أنفه ووجهه ، وسيَّلت دماءه على لحيته ، وزعمت أنك تقتله؟

فقال له عبيدالله : وإنك لههنا؟ فأمر به فلهز وتعتع وأجلس ناحية ، فقال

محمد بن الأشعث : قد رضينا بما رأى الأمير ، لنا كان أم علينا ، إنما الأمير مؤدِّب . وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئاً قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم ، وقال : أنا عمرو بن الحجاج ، وهذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة ، وقد بلغهم أن صاحبهم قد قُتل فأعظموا ذلك ، فقيل لعبيدالله بن زياد : وهذه فرسان مذحج بالباب؟!

فقال لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ، ثم اخرج فأعلمهم أنه حيّ لم يُقتل ، فدخل شريح فنظر إليه ، فقال هانىء لما رأى شريحاً : يا لله يا للمسلمين ، أهلكت عشيرتي؟ أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟ والدماء تسيل على لحيته ، إذ سمع الضجّة على باب القصر ، فقال : إني لأظنّها أصوات مذحج ، وشيعتي من المسلمين ، إنه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني .

فلمَّا سمع كلامه شريح خرج إليهم فقال لهم : إن الأمير لما بلغه كلامكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه ، فأمرني أن ألقاكم وأعرِّفكم أنه حيٌّ ، وأن الذي بلغكم من قتله باطل ، فقال له عمرو بن الحجاج وأصحابه : أمَّا إذا لم يُقتل فالحمد لله ، ثم انصرفوا .

فخرج عبيدالله بن زياد فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشُرطه وحشمه ، فقال : أمّا بعد أيها الناس ، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ، ولا تفرَّقوا فتهلكوا وتذلّوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا ، إن أخاك من صدقك ، وقد أعذر من أنذر ، والسلام .

ثمَّ ذهب لينزل فما نزل عن المنبر حتى دخلت النظارة المسجد من قبل باب التمارين يشتدّون ويقولون : قد جاء ابن عقيل ، فدخل عبيدالله القصر مسرعاً وأغلق أبوابه ، فقال عبدالله بن حازم : أنا ـ والله ـ رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هانىء ، فلمَّا ضُرب وحُبس ركبت فرسي فكنت أول داخل الدار على مسلم بن عقيل بالخبر ، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين : يا عبرتاه ، يا ثكلاه ، فدخلت على مسلم فأخبرته الخبر ، فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله فكانوا فيها أربعة آلاف رجل ، فقال : ناد : يا منصور أمت ، فناديت فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه .

فعقد مسلم رحمه الله لرؤوس الأرباع : كندة ومذحج وتميم وأسد ومضر وهمدان ، وتداعى الناس واجتمعوا ، فما لبثنا إلاّ قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يتوثّبون حتى المساء ، فضاق بعبيدالله أمره ، وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر ، وليس معه إلاّ ثلاثون رجلا من الشُرَط ، وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته وخاصته ، وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميين ، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم وهم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم .

قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فقام محمد بن الأشعث إلى عبيدالله بن زياد فكلَّمه في هانىء بن عروة ، فقال : إنك قد عرفت موضع هانىء من المصر ، وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك ، وأنشدك الله لمّا وهبته لي ، فإني أكره عداوة المصر وأهله ، فوعده أن يفعل ، ثم بداله وأمر بهانىء في الحال ، فقال : أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه ، فأخرج هانىء حتى أتي به إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم ، وهو مكتوف ، فجعل يقول : وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه ، يا مذحجاه ، أين مذحج؟ فلمَّا رأى أن أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ، ثم قال : أما من عصا أو سكين أو حجارة أو عظم يحاجز به رجل عن نفسه؟ ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ، ثم قيل له : امدد عنقك ، فقال : ما أنا بها بسخيٍّ ، وما أنا بمعينكم على نفسي ، فضربه مولى لعبيدالله بن زياد تركي يقال له : رشيد بالسيف ، فلم يصنع شيئاً ، فقال له هانىء : إلى الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك ، ثم ضربه أخرى فقتله .

ولله درّ الشفهيني عليه الرحمة إذ يقول :

يَا وَاقِفاً في الدارِ مفتكراً               مهلا فقد أودى بك الفِكْرُ

إِنْ تُمْسِ مكتئباً لِبَيْنِهِمُ                فعقيبَ كُلِّ كآبة وِزْرُ

هلاَّ صَبَرْتَ على المصابِ بهم        وعلى المصيبةِ يُحْمَدُ الصبرُ

وجعلتَ رُزْءَكَ في الحسينِ ففي             رُزْءِ ابنِ فاطمة لكَ الأجرُ

مكروا به أَهْلُ النفاقِ  وهل            لمنافق يُسْتَبْعَدُ المَكْرُ

بصحائف كوجوهِهِمْ وَرَدَتْ             سُوداً وَفَحْوُ كَلاَمِهِم هَجْرُ

حتى أناخ بِعقرِ سَاحَتِهِم              ثِقَةً تَأَكَّدَ منهُمُ الْغَدْرُ

وتسارعوا لقتالِهِ زُمَرَاً                   مَا لا يحيطُ بعدِّهِ حَصْرُ

طافوا بأَرْوَعَ في عَرينتِهِ               يُحْمَى النزيلُ وَيَأْمَنُ الثَّغْرُ

جيشٌ لَهَامٌ يومَ معركة                 وليومِ سِلْم وَاحِدٌ وترُ

فكأنَّهم سِرْبٌ قد اجتمعت            ألفاً فبدَّدَ شَمْلَها صَقْرُ

حتى إذا قَرُبَ المدى وبه              طَافَ العدى وَتَقَاصَرَ العمرُ

أردوه منعفراً تمجُّ دماً                 منه الظُّبا والذُّبَّلُ السُّمْرُ

تَطَأُ الخيولُ إِهَابَه وعلى الـ       خدِّ التريبِ لوطيِهَا أَثْرُ

فتجولُ في صَدْر أَحَاطَ على      عِلْمِ النبوَّةِ ذلك الصَّدْرُ

بأبي القتيلَ وَمَنْ بمصرعِهِ                 ضَعُفَ الهدى وَتَضَاعَفَ الكُفْرُ

بأبي الذي أَكْفَانُهُ نُسِجَتْ                 من عِثْيَر وَحَنُوطُهُ عَفْرُ

المصدر:المجالس العاشورية في المآتم الحسينية

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الجمعة 14 سبتمبر 2018 - 07:30 بتوقيت مكة
المزيد