في هذه الذكرى الميمونة والمباركة لولادة الإمام علي الهادي(ع)، نستحضر تلك الشخصية الإسلامية التي جاهدت بالكلمة الطيّبة والموعظة الحسنة، ودعت إلى الله بأحسن دعوة، وجسَّدت في عملها وحركتها كلّ أصالة الإسلام، وكلّ جوهر الدّين، في ضبطه لإيقاع الناس والحياة.
إنَّنا نرى أنَّه رغم خوف السلطة من أهل البيت(ع)، كانوا لا يستطيعون أن يُنكروا فضلهم والإحساس برفعتهم وقداستهم، ونضرب على ذلك عدّة أمثلة:
المثل الأوّل: يذكر المؤرّخون أنَّ المتوكل "مرض من خُراج (ما يخرج في البدن من القروح) خَرَج به فأشرف منه على الموت، فلم يَجْسُرْ أحدٌ أن يمسَّه بحديدةٍ، فنذرت أمُّه إنْ عُوفيَ أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمد (الهادي) مالاً جليلاً من مالها، فلما عُوفِيَ المتوكّل بعد هذا النذر فبُشّرت أمُّ المتوكّل بعافيته، فحملت إلى أبي الحسن(ع) عشرة آلاف دينار تحت خَتْمِها، واستقلَّ المتوكّل من علّته.. فلما كان بعد أيّام، سعى البطحاني (أحد أعوان السلطة) بأبي الحسن(ع) إلى المتوكّل وقال: عنده سلاحٌ وأموال، فتقدّم المتوكّل إلى سعيد الحاجب أن يهجم ليلاً عليه، ويأخذ ما يجد عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه، وهنا يحدّث إبراهيم بن محمد بأنَّ سعيد الحاجب قال له: صرتُ إلى دار أبي الحسن(ع) بالليل، ومعي سُلّمٌ، فصعدتُ منه إلى السطح ونزلتُ من الدرجة إلى بعضها في الظُّلمة، فلم أدرِ كيف أصل إلى الدار، فناداني أبو الحسن(ع) من الدار: "يا سعيد، مكانك حتى يأتوك بشمعة"، فلم ألبث أن أتوني بشمعةٍ، فنزلت فوجدتُ عليه جُبّة صوف وقلنسوة منها وسجّادته على حصير بين يديه وهو مقبلٌ على القِبلة. فقال لي: "دونك البيوت"، فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة مختومةً بخاتم أمِّ المتوكّل، وكيساً مختوماً معها، فقال لي أبو الحسن(ع): "دونك المصلّى"، فرفعته فوجدتُ سيفاً في جفنٍ ملبوس. فأخذتُ ذلك وصرتُ إليه، فلما نظر (المتوكل) إلى خاتم أمِّه على البَدْرَةِ بعث إليها فخرجت إليه، فسألها عن البدرة، فأخبرني بعضُ خَدَمِ الخاصّة أنَّها قالت: كنت نذرتُ في علّتك إنْ عُوفيت أن أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار، فحملتها إليه، وهذا خاتَمُك على الكيس ما حرّكه (لم يفتح الإمام(ع) الصرّة)، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار، فأمر أن يُضمَّ إلى البدرة بدرةٌ أخرى، وقال لي: احملْ ذلك إلى أبي الحسن، واردُد عليه السيف والكيس بما فيه. فحملت ذلك إليه واستحييت منه، فقلت له: يا سيدي، عزَّ عليَّ دخول دارك بغير إذنك، ولكني مأمور، فقال لي: {وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون}(1)[الشعراء:227].
وهكذا نشاهد أنَّ أمَّ المتوكّل عندما مرض ولدها لم تجد أحداً في المجتمع الإسلاميّ تتقرّب وتتشفّع به إلى الله غير الإمام الهادي(ع)، ما يدلّنا على أنَّ قداسة الإمام الهادي(ع) كانت تعيش في وجدان المسلمين، حتى في داخل بيت الخلافة المناهضة لخطِّ الأئمة عليهم السلام. كما أننا نستفيد منها كيف كانت حياة الإمام الهادي(ع) في بيته من حيث خشونة ملبسه وتواضعه لله في موقع صلاته، وكيف كانت مكتبته مملوءة بالمصاحف وكتب العلم.
المثل الثاني : هو أنّ الشخص الذي أرسله المتوكّل إلى المدينة (وهو يحيى بن هرثمة)، ليأتي بالإمام منها إلى "سامراء" حتى يضعه تحت نظره وأمره بإكرامه وإعظامه، يحدّث فيقول: "فذهبت إلى المدينة، فلما دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على عليّ (الهادي)، وقامت الدنيا على ساق (الجميع خرج مذهولاً)، لأنَّه كان محسناً إليهم، ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميلٌ إلى الدنيا.. قال يحيى: فجعلت أسكّنهم، وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنَّه لا بأس عليه، ثم فتّشت منزله، فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعيةً وكُتُبَ العلم، فعظُم في عيني، وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته"(2).
أمّا المثل الثالث: فهو أنَّ هذا الرجل نفسه (يحيى) يحدّث أيضاً ويقول: "فلما قدمت به بغداد، بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهريّ، وكان والياً على بغداد، فقال لي: يا يحيى، إنَّ هذا الرجل قد ولده رسول الله(ص) والمتوكّل مَن تعلم، فإن حرّضته عليه قتله، وكان رسولُ الله خصمَك يوم القيامة، فقلت له: والله ما وقعت منه إلاَّ على كلِّ أمرٍ جميل، ثم صرت به إلى سُرّ مَن رأى (سامرّاء)، فبدأت بوصيف التركي، فأخبرته بوصوله، فقال: لئن سقطت منه شعرةٌ لا يطالَبُ بها سواك، قال: فعجبتُ كيف وافق قولُه قولَ إسحاق، فلما دخلت على المتوكّل، سألني عنه، فأخبرته بحسن سيرته، وسلامة طريقه وورعه وزهادته، وأنّي فتشت داره فلم أجد غير المصاحف وكُتُبَ العلم، وأنَّ أهل المدينة خافوا عليه، فأكرمه المتوكّل وأحسن جائزته وأجزل برّه وأنزله معه سُرَّ من رأى"(3).
ونستطيع أن نأخذ فكرةً عن احترام الناس للإمام(ع) من خلال قصّة يرويها محمد بن الحسن بن الأشتر العلويّ، قال: "كنت مع أبي بباب المتوكّل، وأنا صبيّ في جمعٍ من الناس، ما بين طالبيّ (هاشمي) إلى عباسيّ إلى جنديّ إلى غير ذلك، وكان إذا جاء أبو الحسن(ع) ترجّل الناس كلُّهم حتى يدخل. فقال بعضهم لبعض: لِمَ نترجّل لهذا الغلام، وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسنّنا ولا بأعلمنا؟ فقالوا: والله لا ترجّلنا له، فقال لهم أبو هاشم (الجعفريّ): والله لترجلنَّ له صَغاراً وذلةّ إذا رأيتموه، فما هو إلاّ أن أقبل وبصروا به، فترجّل له الناس كلُّهم، فقال لهم أبو هاشم: أليس زعمتم أنَّكم لا تترجّلون له؟ فقالوا: والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجّلنا"(4).
إنَّ هذه الأمور والوقائع تدلُّ على أنَّ عظمة الإمام وهيبته وقداسته تجاوزت شيعته، وامتدّت حتى إلى المواقع التي قد تعاديه وتخاصمه وتظلمه، وهذا لا يتأتّى لأيِّ أحد، وإنَّما يحصل للذين انفتحوا على الله، فأدخل الله هيبتهم في نفوس النّاس حتى أعدائهم، وخدموا الناس بكلِّ ما عندهم من طاقة، حتى تعلّق الناس بهم من خلال ما قدّموه لهم، وأعطوا العلم حتى وصلوا إلى الدرجة التي يشعر فيها حتى العلماء بحاجتهم إليهم.
كان الأئمة(ع) يعيشون مع القاعدة في الساحة، لم يعِش أحدٌ منهم في برج عاجيّ، ولذلك كان الخلفاء يحملون العقدة ضدّهم من خلال هذا الامتداد الشعبي الذي يملكونه في الأمّة، لأنَّ أمثال هؤلاء الخلفاء لا يريدون لأيِّ رمز إسلاميّ كبير أن يحصل على هذه الثقة الممتدّة في الواقع الإسلاميّ، لا سيما إذا كان هذا الرمز ممن يعتقد فريقٌ من الأمة بإمامته، لأنَّ المسألة عندهم تحوّلت إلى خطر على الكرسي والمُلْك..
ولذلك، لو درسنا تاريخ أكثر الأئمة(ع)، لرأينا الجواسيس يحيطون بهم من كلِّ جانب، ممن قد يخبرون صدقاً وممن قد يفترون كذباً، ورأينا أنَّ الحاكمين آنذاك يعملون على التعسّف في تصرفاتهم معهم، فقد يسجنون إماماً هنا، وقد يحاصرونه في بيته هناك، وقد يستقدمونه من بلده إلى مركز سلطتهم ليكون تحت رقابتهم. ولكن ذلك كلّه لم يمنع شيعتهم من الاتصال بهم والدخول في التنظيم الإداري لهم والاستفادة من علومهم واتباع تعاليمهم، بالرغم من كل الأوضاع الصعبة المحيطة بهم، كما أنّ ذلك لم يمنع الأئمة(ع) من التحرك في المجتمع والحصول على مواقع الثقة العميقة الواسعة فيه.
المصادر:
(1)الإرشاد للشيخ المفيد، ص:302 وما يليها.
(2)تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي، ص:359.
(3)المصدر نفسه.
(4)بحار الأنوار، ج:5، ص:137. وذكر ذلك ابن شهرآشوب في (المناقب) مع تغيير يسير ج:4، ص:407.
المصدر:موقع بينات بتصرف