البيت الحرام...أم صرح الرخام؟

الإثنين 20 أغسطس 2018 - 12:59 بتوقيت مكة
البيت الحرام...أم صرح الرخام؟

الأمة الإسلامية تتقبّل دون حَولٍ ولا قوة، ودون نقد ولا مساءلة، كل الكبائر التي اقترفتها السلالة النجدية الحاكمة بحقّ آثار لها ما لها من قيمة روحانية وتاريخية وتراثية وإنسانية وعلمية ...

بلال رامز بكري

ما مِن مسلمٍ حقيقي تقوده قدماه، برًّا أو بحرًا أو جوًّا، إلى أرض الحَرَمَين للعمرة أو للحجّ، إلّا وتعتمل الأشواق في صدره للتزوّد الروحاني وللشحن الإيماني من تلك البقاع الطاهرة المباركة، التي اصطفاها الله عزّ وجلّ لتبليغ خاتمة رسالاته لبني الإنسان. تلك هي بلاد الحجاز التي اختُصَّت دون غيرها من سائر بلدان العالم بوجود الحرمَين الشريفين فوق ثراها المبارك، مما جعلها قبلة للحُجّاج والمعتمرين من كافّة أصقاع الأرض.

 وبين زمنٍ غابرٍ كانت تُطوَى فيه الأميال والفراسخ، في الأيّام والليالي، فوق ظهور الخيل والجِمَال والبغال والحمير، في رحلات كانت عبارة عن مغامرات حقيقية بما فيها من مشقّات ومخاطر ومكابَدات شتّى، وبين زمن حاضرٍ يتمتّع فيه الحاجّ والمعتمر بكافّة أسباب الراحة والرفاهية التي تؤمّنها وسائل النقل الحديثة، البرية والجوية والبحرية، في رحلات لا تستغرق إلا النزر اليسير من الوقت الذي كان يلزم لإتمام سفر الأقدمين، بين هاذين الزمنين لا تزال مكة هي مكة، ولا تزال المدينة هي المدينة، مهوى الأفئدة، ومثوى القلوب، ومقصد المنيبين والمخبتين والأوّابين، وموطن الموسم الإسلامي الذي كان ولا يزال شعارًا لوحدة هذه الأمّة.

ولكن إن كان الحَرَمان هما هما، لم تتغيٍر مكانتهما، ولم يَزُل تأثيرهما، فهل يا تُرى نستطيع قول الشيء نفسه عن معالمهما التاريخية والتراثية؟ هل نستطيع أن نزعم أننا اليوم نحظى بشواهد عمرانية جامدة صامدة من زمن صدر الإسلام؟

الأمة الإسلامية تتقبّل دون حَولٍ ولا قوة، ودون نقد ولا مساءلة، كل الكبائر التي اقترفتها السلالة النجدية الحاكمة بحقّ آثار لها ما لها من قيمة روحانية وتاريخية وتراثية وإنسانية وعلمية .

ولعلّنا لا نبالغ إن قلنا أن المعالم الأثرية الإسلامية في أمّ القرى وفي طيبة، أنها قد نزلت بها فاجعة كبرى لم تكن جرّاء زلزالٍ عنيف يجعل سافل الأرض عاليها، ولا بركان ثائر يقذف حِمَمَه في كل اتّجاه، وأُصيبَت بنكبة عظمى لم تكن نتيجة قصف نووي قام به أعداء الأمة للنيل من قبلتها ورمزها الروحاني ومسقط رأس رسالتها السامية الخالدة. فاجعة الحرمين الكبرى ونكبتهما العظمى كانتا من بطولة مَن كان يجدر بهم الحفاظ، بأهداب العين، على كل المعالم التاريخية والأثرية الحجازية، ممّن تولّوا أمر الجزء الأعظم من جزيرة العرب. وكل هذا حصل تحت ذرائع توسعة الحرمين لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الحُجّاج والمعتمرين، ولتوفير أسباب الأمن والطمأنينة والراحة والرفاهية لضيوف الرحمن.

 وهنا يحقّ لنا طرح سؤال وجيه، بل أسئلة لا تسكن ولا تستكين: ألم يكن من الممكن إجراء التوسعات المتتالية والتحديثات المتعاقبة دون المساس بالتراث العمراني الإسلامي الحجازي، ودون هدم بيوت النبي وزوجاته وصحابته، ودون إزالة معظم الآثار والأطلال لأزمنة الإسلام الأولى؟ لماذا لم يحرص الذين آلَت إليهم الدولة في الحجاز ونجد وتوابعهما، لماذا لم يحرصوا على الحفاظ على الثروة التراثية الإسلامية، وحوّلوا الآثار التي شهدت بزوغ فجر الإسلام إلى هشيمٍ تذروه الرياح؟

 وليس على المسلم الذي يريد الوقوف على هول الجائحة التي ألمَّت بالعمران الحجازي التقليدي وبالتراث الإسلامي في أرض الحرمين، ليس عليه إلا أن يشدّ الرحال معتمرا أو حاجًّا، ومن ثم يعرّج شمالًا إلى المدينة لكي تكتمل عنده الرؤية وتتّضح الصورة. سوف يرى، هذا المسلم المسكين، رخامًا فوق رخام. وسوف يعاين أبراجًا تنتصب بكلّ صفاقةٍ بجوار البيت العتيق، وسوف يشاهد عاتيات ناطحات السحاب تنافس كبرى الحواضر الدنيوية في الشرق والغرب، بالإضافة إلى أبذخ مراكز التسوّق التي توفّر ما لذّ وطاب وجَمُلَ من السِّلَعِ لكافّة الأذواق. أمّا إن أحبّ المسكين أن يزور بيت النبي في مكة، فسوف يكتشف بأنه قد أُزيل من الوجود.

 وبعد، فإن مواسم الحج تتوالى العام بعد العام، والمعتمرون يستمرّون بالتقاطر في كل أيام السنة، والأمة الإسلامية تتقبّل دون حَولٍ ولا قوة، ودون نقد ولا مساءلة، كل الكبائر التي اقترفتها السلالة النجدية الحاكمة بحقّ آثار لها ما لها من قيمة روحانية وتاريخية وتراثية وإنسانية وعلمية. والتوسعات في الحرمين تتوالى، ولا نسمع أصواتًا تنتقد أو حتى تسأل عن جدوى كل هذه المشاريع العملاقة، التي لا تقيم وزنًا لأي شيء له علاقة بالتراث وتتعمّد طمس المعالم الأثرية الحجازية.

 ولعلّ التوسعة الحقيقية التي تحتاج إليها هذه الأمة هي توسعة القلوب، فيعطف الغني على الفقير ويعطيه من ماله، ويحنو القوي على الضعيف ويمنحه دعمه وحمايته، وينبذ الجميع أسباب الشقاق والتباغض والتنافر. هذه هي التوسعات التي نحتاجها، وهذه هي القدرة الاستيعابية الحقيقية. أما الرخام، وما يواكبه من الإسراف في الإنفاق، فلن يشبع الجوعى، ولن يروي العطاش، ولن يكسو العراة، ولن يعلّم الجاهلين، ولن يداوي المرضى، ولن يمنح الخائفين الأمن والطمأنينة، ولن يجلب العزة والكرامة لهذه الأمة.

المصدر:موقع الجزيرة

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الإثنين 20 أغسطس 2018 - 11:16 بتوقيت مكة