آية الله السيد محمد حسين فضل الله
إذا جئنا إلى الصوم، فالصوم في معناه يمثل حالة سلبية تحمل بداخلها معنًى إيجابياً، لأن السلب عندما يكون مسؤولية، فإن إرادتك في حركة السلب تمثل حالة إيجابية أيضاً، فأنت تريد أن لا تأكل وأن لا تشرب وأن لا تتلذّذ، ولذلك هو ليس سلبية طبيعية بعيدة عن إنسانية إرادتك، بل هي حركة في الإرادة أن ترفض ما لا يريده الله منك.
ومن هنا، فإننا نستطيع أن نقول، كما أن الصلاة تدفعك إلى أن تؤصّل الرفض في نفسك للفحشاء والمنكر، فإن الصوم يدفعك إلى أن تحرك إرادتك في رفض كلّ ما لا يريده الله سبحانه وتعالى، وبذلك كان الصوم حركةً في الإنسان، من خلال هذا الخضوع الإرادي لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الصوم عبادة صامتة، لا يتحرك فيها شيء في جسدك ولا يتحرك فيها أيّ تعبير في لسانك.. فدور الصوم هو في أن يبقى في عمق إرادتك وفي عمق إحساسك وشعورك، وذلك بأن تكون بالصوم الإنسان الرافض، فالصوم هو حركة رفض في الوقت الذي تتوجّه في نفسك إلى القبول.
ومن هنا، فقد نعيش الصوم في هذه المفردات، وربما ننحرف في ممارستنا له، بأن نطوّق هذا الرفض في السحور وفي الفطور بنحو لا يحقّق شيئاً فيما نستعدّ له من مآكل قبل أن نصوم وبعد أن نصوم، كأننا نثأر من الرّفض على طريقة الحيل الشرعيّة التي تجعل الإنسان يضعف إرادته في مقدّمة الصوم وفي نهايته، فيما المطلوب من الصوم أن تكون إنساناً رافضاً لكلّ ما حرّمه الله، لأنّ هناك الصوم الصغير الذي هو مقدّمة للصوم الكبير، فإذا كان الله قد حرّم علينا أن نأكل أو نشرب أو نستمتع بما نستمتع به في هذا الوقت المعيّن، فلقد أرادنا أن نصوم في كلّ عمرنا عمّا حرّمه من مآكل ومشارب ولذّات وما إلى ذلك.
الرّفض السياسي:
وإذا انطلقت كإنسان يرفض المطاعم والمشارب والملذّات في هذا الوقت المعيّن، فإنك تنطلق أيضاً لترفض سياسياً ما يحرّمه الله من حركة السياسة، ولترفض اجتماعياً ما يحرّمه الله من حركة الاجتماع، ولترفض أمنياً وعسكرياً ما يحرّمه الله من حركة الأمن والعسكر في هذا المجال أو ذاك، لأن الفكرة واحدة، فكُن إنسان الله الذي يحبّ ما يحبّه الله، والذي يرفض ما يرفضه الله، فأنت تمتنع عن طعامك وشرابك، لأن الله يرفض لك أن تأكل أو أن تشرب في هذا الوقت، ومن خلال ذلك، عليك أن تعي معنى الرفض، وهو أن عليك أن ترفض الظلم في كلّ الناس من حولك، سواء الظلم الصغير أو الظلم الكبير، وأن عليك أن ترفض الانحراف في كلّ الخطوط التي يتحرك فيها الناس، وأن ترفض كلّ الضّلال وكلّ الفسق وما إلى ذلك، ولهذا ركّز الله الصوم في كلمة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. و"التقوى" كلمة تشمل كلّ الخطوط المستقيمة التي تنطق من إيمانك وإسلامك في الحياة، وهي "أن لا يفقدك الله حيث أمرك ـ في كلّ شؤون الحياة ـ ولا يجدك حيث نهاك" في كلّ مواقعها.
الصوم كإرادة:
لذلك نمتدّ بعد ذلك بالصوم كإرادة، عندما يحاصرك الظالمون ويحاولون أن يضغطوا عليك في طعامك وشرابك، فتجوع في سجن تكون فيه أو في واقع ضاغط، أو عندما ينطلق الاستكبار ليحاصرك كشعب وكأمّة في طعامك وشرابك، وعندما يحاول الآخرون إغراءك، كالوضع الذي نعيشه الآن مع الصهيونية التي تحاول أن ترسل بضائعها بسعر ملائم أكثر من السعر الذي تشتري به ما يصنع في وطنك أو في مكان آخر ينسجم معك، عندها يقول الصيام لك: صُمْ الصوم السياسي، ارفض بضاعة العدوّ حتى لو كانت تتلاءم مع أوضاعك الاقتصادية، ارفض الضغط الذي يضغط فيه العدوّ عليك لتفشي أسرار أمّتك وأسرار الناس من حولك، لأنك عندما تسقط تحت تأثير هذا الضغط، فإنّ معنى ذلك أنك توازن بين طعامك وشرابك وبين أمّتك، وتقدّم طعامك وشرابك على أمّتك.
إنّ الصوم يمثّل كلّ هذا الجوّ الذي يبدأ من تجربة تعيشها في حياتك بهذه المفردات الصغيرة، ولكنّه يمتدّ إلى كلّ ما يتصل بحياتك الخاصة والعامة، وربما نحتاج إلى أن نصوم إرادياً، بحيث نضغط على أنفسنا عندما تحتاج الأمّة إلى مشاريع، وتحتاج إلى مساعدات، وربما نحتاج أن نضغط على كمالياتنا لنساعد الأمّة عندما تحتاج إلى المياتم أو إلى المستشفيات، أو إلى أي شيء يكفل لها الحياة الكريمة. إنني أتصور أن هذا الصوم الإسلامي هو الذي جعل المسلمين الأولين يتحركون في خطّ الدّعوة وفي خط الجهاد وهم جياع وعطاشى، وهم يعانون الكثير من المشاكل المحيطة بهم.
عبادة الله:
لذلك فإنّ الصوم عبادة لله: "الصوم لي وأنا أجزي به"، هو عبادة لله، ولكنك كلّما اقتربت من الله أكثر، وقفت مع مسؤوليتك التي حمّلك الله إياها أكثر، وكلّما اقتربت إلى الله أكثر، اقتربت من الناس أكثر، لأن الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله من أدخل على أهل بيته سروراً.
وهكذا، تنطلق العبادة عندما تتصل بالله بخطٍّ من الله إلى الناس، لأنَّ هناك نقطة في عقيدتنا الإسلامية، وهي أنَّ الله ربما يكون في بعض الديانات شيئاً غامضاً، بحيث لا علاقة للبشريّة به، أو لا علاقة له بالبشر إلّا أن يتعبّدوا له، لكن تعالوا إلى ربّنا في عقيدتنا، فهو الرحمن وهو الرحيم وهو المعطي وهو الكريم وهو المغيث، ومعنى ذلك، أن ربّك لا ينفصل عن حياتك، فأنت عندما تتحرك في كل أصعدة حياتك، فإنك تشعر بأن الربّ المنعم قد أنعم بذلك عليك، وأنت عندما تفكر وتبدع في فكرك، تشعر بأن الربّ هو الذي أنعم عليك فألهمك، وعندما تحسّ القوة في نفسك، فإنك تشعر بأنك تستمدّ القوّة منه، وهكذا هو الرحمن الرحيم، وهو ربّ العالمين، وهو المعطي وهو الكريم وهو الجواد وهو الحكيم الذي يمنح حياتك من حكمته.
لذلك، فكلما عرفنا الله أكثر، اقتربنا من مسؤولياتنا بالحياة أكثر، وشعرنا بالأمن أكثر، ولقد كان رسول الله(ص) في أشدّ حالات الخطر، ولكنه كان يحسّ بالأمن تماماً كما لو لم يكن هناك خطر{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَ}.هذه المعيّة معيّة الله لعبده، تعني أنك لو كنت في الصحراء وحدك، فإنك لست وحدك، لأن الله معك، وفي الدعاء عندما نقول: "يا عدّتي في كربتي، ويا صاحبي في شدتي"، فإنّ الله هو صاحبك الذي يصحبك في الشدّة التي تهزّ كل كيانك، والله معك في شدّتك، بحيث يخفّفها عنك ويحميك من كلّ تأثيراتها. فالمسألة ليست مختصّة بالنبيّ فحسب، ولكنها مسألة المؤمنين أيضاً {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.