الأزهر مسجد جامع وجامعة، وهو أبرز المؤسسات الإسلامية في العالم. بدأ تاريخه سنة 361هـ/ 9722م وإليه يرجع فضل عظيم في حفظ الثقافة العربية الإسلامية. شهد منذ تأسيسه تطوراً في بنائه. بدأ جامعاً تقام فيه الصلوات والاحتفالات الدينية ثم صار إضافة إلى ذلك جامعة تضم معاهد التدريس والكليات في مختلف أنواع المعرفة والاختصاص.
بناء الأزهر
عندما دخل جوهر الصقلي مصر فاتحاً أنشأ مدينة القاهرة لتكون عاصمة للخليفة الفاطمي المعز لدين الله . وفي الناحية الجنوبية الشرقية منها بدأ ببناء الجامع الأزهر سنة 359هـ/ 970م فوق رقعة مساحتها نحو خمسة آلاف م2 ” نصف المساحة الراهنة ” يجاورها شمالاً حي الديلم وجنوباً حي الترك. والجدير بالذكر أن مصر عرفت قبل الأزهر ثلاثة مساجد جامعة هي: جامع عمرو بن العاص في الفسطاط سنة 21هـ/ 641م، وجامع العسكر في مدينة العسكر سنة 133هـ/ 750م وجامع أحمد بن طولون في مدينة القطائع سنة 265هـ/ 879م. وقد استغرق بناء الأزهر نحو عامين، وجعله جوهر خاصاً بالمذهب الشيعي الإسماعيلي تجنباً لإثارة مشاعر المصريين في مساجدهم آنذاك.
عُرف الأزهر في البداية بجامع القاهرة، وكان مؤرخو العصر الفاطمي، أمثال ابن الطوير وابن المأمون، يذكرونه بهذه التسمية. ثم عُرف بالأزهر ليوافق القصور الفاطمية التي كانت تسمى القصور الزاهرة.
يتألف بناؤه من قسمين، الأول مسقوف ويُعرف بالحرم والثاني مكشوف ويسمى الصحن. ويسمى هذا الحرم اليوم بالحرم القديم. وفيه محراب يُعرف بالقبلة القديمة وكان بجانب المحراب منبر نُقل فيما بعد إلى جامع الحاكم ” نسبة إلى الخليفة الحاكم بأمر الله “. ويضم الحرم القديم ستة وسبعين عموداً من الرخام الأبيض تنتظم في صفوف متوازية، والجدران مزينة بالآيات القرآنية المنقوشة بالخط الكوفي الجميل. وفي الجهة اليمنى من المحراب القديم نقشٌ ورد نصه في خطط المقريزي كما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم، مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم مَعَدّ الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين، على يد عبده جوهر الكاتب الصقلي وذلك سنة ستين وثلثمائة». وسقف الحرم من الخشب المتقن الصنع. وفي الحرم نوافذ للنور والهواء. وأما صحن الجامع فأرضه مرصوفة بالحجر. وتحيط به الأروقة ذات الأعمدة الرشيقة. وكان للأزهر في البداية منارة واحدة ومحراب واحد. ثم أنشئت فيما بعد منارات أصبحت خمساً، كما تعددت المحاريب حتى بلغت ثلاثة عشر محراباً لم يبق منها إلا ستة.
تعاقب الخلفاء الفاطميون على الاهتمام ببناء الأزهر؛ فقد جدد فيه العزيز بالله، وخصه الحاكم بأمر الله بكثير من الموارد المالية، كما جدد فيه المستنصر، وأنشأ الحافظ لدين الله مقصورة بجوار الباب الغربي للجامع سميت باسم فاطمة الزهراء عليها السلام .
لم يطرأ على بناء الأزهر في العهد الأيوبي شيء بارز. ومما يذكر أن صلاح الدين الأيوبي أوقف خطبة الجمعة فيه، واقتصرت الخطبة على الجامع الحاكمي.
وفي عهد المماليك بلغ الاهتمام بالأزهر ذروته. وكان ذلك بمنزلة العصر الذهبي للأزهر. فقد اهتم نائب السلطان الأمير عز الدين (أيدمر الحلّي) بترميم الأزهر وإصلاحه وتجميله. وأنشأ فيه الأمير بيلبك الخازندار قاعة كبيرة لتدريس علم الحديث والفقه الشافعي. وعيّن القراء لتلاوة القرآن الكريم ورتّب للأزهر أوقافاً كثيرة. وقد أدى زلزال سنة 702هـ/ 1302م إلى تصدع بناء الأزهر كما حدث لغيره من مساجد القاهرة فتولى الأمير سلار ترميمه وأعاد ما تهدم منه. وقد أنشئ بجانب الأزهر مدارس جديدة مالبثت أن ضُمت إليه. فقد بنى الأمير علاء الدين طيبرس المدرسة الطيبرسية سنة 709هـ/ 1310م إلى يمين الباب الغربي لتدريس المذهب الشافعي وفيها خزانة كتب كبيرة جاء وصفها في خطط المقريزي: «وتأنق في رخامها وتذهيب سقوفها حتى جاءت في أبدع زي وأحسن قالب وأبهج ترتيب لما فيها من إتقان العمل وجودة الصناعة بحيث لم يقدر أحد على محاكاة مافيها من صناعة الرخام على شكل محاريب. وبلغت النفقة عليها جملة كبيرة». وتشغلها الآن دار الكتب الأزهرية. وفي سنة 725هـ/ 1325م قام بتجديد الأزهر محتسب القاهرة القاضي نجم الدين محمد بن حسين الأسعروي. وفي سنة 740هـ/ 1339م بنى الأمير علاء الدين أقبغا عبد الواحد المدرسة الأقبغاوية في الجانب الأيسر من الباب الكبير للأزهر وقرر فيها درساً للشافعية ودرساً للأحناف. وفيها اليوم جانب من الكتب الأزهرية. وفي عهد السلطان الملك الناصر حسن بن محمد قلاوون اهتم بالأزهر الأمير سعد الدين بشير الجامدار إذ قام بتجديده سنة 760هـ/ 1360م وأمر بتبليطه وتبييضه ومنع الناس من المرور فيه ورتب فيه مصحفاً، وجعل له قارئاً وأنشأ على بابه حانوتاً لتسبيل الماء العذب، ورفع فوقه مكتباً لإقراء أيتام المسلمين، ورتب للفقراء من مجاوري الأزهر طعاماً يومياً، ورتب درساً لفقهاء الحنفية في المحراب الكبير، وأوقف على ذلك أوقافاً مُجزية، فكان مؤذنو الجامع يدعون للسلطان حسن كل جمعة وبعد كل صلاة.
تعرضت منارة الأزهر القديمة للسقوط عدة مرات. سقطت أول مرة سنة 800هـ/ 1397- 13988م فأعادها السلطان برقوق. وسقطت ثانية سنة 817هـ/ 1414م وثالثة بعد عشر سنوات وتم إصلاحها. كما أن السلطان المذكور أنشأ خزاناً للماء وأقام سبيلاً وميضأة.
وفي أواسط القرن التاسع هـ/ الخامس عشر م شيد جوهر القنقبائي المدرسة الجوهرية وأصبحت جزءاً من الأزهر. وأمر السلطان الأشرف قايتباي بإجراء إصلاحات في الأزهر سنة 881هـ/ 1476م وأنشأ المنارة الرشيقة ذات الزخارف الجميلة في الناحية الغربية وأقام منشآت للفقراء والعلماء وعُرف عنه أنه كان يتردد على الأزهر للصلاة متخفياً ويسمع ما يقوله الناس فيه.
وأنشأ السلطان قانصوه الغوري سنة 915هـ/ 15100م المنارة الجميلة ذات الرأسين وتعدّ من أجمل الآثار التي تعود إلى عهد المماليك في مصر.
وفي العهد العثماني تحولت القاهرة من عاصمة إلى مركز ولاية مرتبطة بالآستانة ” اصطنبول ” فخسرت شيئاً من مكانتها. ومع ذلك أجرى السلطان سليم الأول الذي دخل مصر سنة 923هـ/ 1517م أرزاقاً على الأزهر. وبقي هذا الجامع موضع اهتمام الولاة العثمانيين. فقد جدد والي مصر الشريف محمد باشا بناءه سنة 1014هـ/ 1605م وكذلك جدده بعد نحو قرن الأمير إسماعيل القاسمي. ومن الآثار المهمة في الأزهر المِزْولة الميقاتية وتقع في غربي الصحن، أهداها والي مصر الوزير أحمد باشا كور سنة 1163هـ/ 1750م وتحتها الأبيات المنقوشة:
مِـزْولة متقنة نظيرها لا يـوجد
راسمها حاسبها هذا الوزير الأمجد
تاريخها أتقنها وزيـر مصر أحمد
وأعظم ما شهده الأزهر في العهد العثماني كان على يد الأمير عبد الرحمن كتخدا فقد خصه بالمال الكثير وبنى الحرم الجديد بأعمدته الرخامية الخمسين، وأنشأ محراباً ومنبراً جديدين، وشيّد مكتباً يقوم على قناطر تقوم هي نفسها على أعمدة رخامية، خصصه لتعليم الأيتام، وأنشأ في داخله رحبةً واسعة وخزاناً كبيراً للماء وبنى داخل الرحبة مدفناً له تعلوه قبة. كما أنشأ هذا الأمير رواقاً للصعيديين وأغدق عليه محبةً بالشيخ علي الصعيدي العدوي.
الأزهر ودوره العلمي
ولم يكن الأزهر عند نشأته معهداً للدرس أو جامعة يتخرج فيها طلاب العلم، بل كان مسجداً رسمياً للدولة الفاطمية ومركزاً لدعوتها الدينية. فقد أمر جوهر الصقلي بقطع الدعوة للخلافة العباسية وأمر بإضافة عبارة «حيّ على خير العمل» إلى الأذان. وعندما قدم الخليفة المعز لدين الله إلى القاهرة أقيمت في الأزهر أول صلاة للجمعة في السابع من رمضان سنة 361هـ/ 972م كما أقيمت أول حلقة للتدريس في عهد المعز أيضاً سنة 365هـ/ 975م تولاها قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان القيرواني وقرأ فيها كتاب أبيه المسمى «الاختصار» في الفقه الشيعي. وتوالت بعد ذلك حلقات بني النعمان في الأزهر وهم من علماء المغرب الذين اصطفتهم الخلافة الفاطمية لدعوتها، وقد تولوا رئاسة القضاء زهاء نصف قرن.
ومنذ أوائل عهد الخليفة العزيز قرأ الوزير يعقوب بن كلّس على الناس في الأزهر ” رمضان سنة 3699هـ/ 980م ” كتابه «الرسالة الوزيرية» وأخذ الكثير مما فيه عن الخليفة المعز وابنه العزيز، ثم أصبح هذا الكتاب مصدراً للفتوى في ذلك الحين. وكان ابن كلّس يجمع بين السياسة والعلم، كما أن مجالسه لم تقتصر على الأزهر بل كانت أحياناً في داره، وعدَّ بعضهم هذه المجالس أُولى الحلقات الجامعية في الأزهر. وقد عيّن ابن كلس جماعة من الفقهاء يعقدون مجالسهم في الأزهر بعد صلاة الجمعة، وبلغ عددهم سبعة وثلاثين فقيهاً، رُتبت لهم أرزاق شهرية حسنة وأنشئت لهم دور للسكن بجوار الأزهر فكان هؤلاء أول الأساتذة الرسميين في الأزهر، فعملوا على تنظيم الدراسة فيه ويعدّ ذلك نواة للجامعة الأزهرية.
ومع هذا التحول في الأزهر فقد حرصت الدولة الفاطمية على إبقاء الأزهر المسجد الرسمي للدولة على حين أنشئت دار الحكمة في عهد الحاكم بأمر الله لتكون مقراً لمجالس العلم والحكمة.
وقد أشار في خططه إلى دور كل من الأزهر ودار الحكمة فقال: «إن قيام دار الحكمة لم يكن ناسخاً لدور الأزهر وإنما كان متمماً لهذا الدور». ومما يذكر أن القرن الخامس هـ/ الحادي عشر م شهد الدور المشترك للأزهر ودار الحكمة وجامع عمرو في الدراسات العالية وأسهم الأزهر بدور وافر في تخريج العلماء وفي مقدمتهم الفقهاء والمحدثون. كما شهد الأزهر مجالس الحكمة للنساء مثل مجلس أم زينب فاطمة بنت عباس المعروفة بالبغدادية وكانت وافرة العلم.
لم تكن الصبغة المذهبية للأزهر أيام الفاطميين قائمة على الفكرة والتعصب. وعندما وقع خلاف بين أهل السنة والشيعة في فهم بعض الأحكام أيام الحاكم بأمر الله، أصدر الخليفة بياناً جاء فيه: «لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده… لا يستعلي مسلم على مسلم مما اعتقده، ولا يعترض معترض على صاحب اعتمده… )يا أيُّها الذين آمَنُوا عَليكُم أنفُسَكُمْ لا يَضرّكُم مِنْ ضلَ إذا اهْتدَيْتُم، إِلى اللهِ مَرْجعُكم جَميعاً فينّبئُكُمُ بما كُنْتُم تَعْمَلَون( (المائدة: 105)». وقد زالت الصبغة المذهبية الفاطمية عن الأزهر بزوال الدولة الفاطمية ذاتها.
وفي العهد الأيوبي أمر السلطان صلاح الدين بإزالة الشعائر الفاطمية، وفقد الأزهر مكانته الخاصة التي كانت له في العهد الفاطمي. ومع ذلك بقيت له الصبغة الجامعية وقصده مشاهير العلماء، منهم الطبيب عبد اللطيف البغدادي وقد تولى تدريس المنطق وعلم الكلام والبيان والطب. وشهد الأزهر أيضاً نشاطاً فكرياً للمتصوفة من أمثال ابن الفارض وأبي القاسم المنفلوطي والمؤرخ ابن خلكان صاحب كتاب «وفيات الأعيان."
وعندما آل الحكم إلى المماليك عادت صلاة الجمعة إلى الأزهر بعد توقف استمر نحو مئة عام من 567 إلى 665هـ/ 1174 إلى 1269م وسعى في ذلك الأمير عز الدين أيدمر الحلّي نائب السلطان. ورتب كذلك درساً لقراء الفقه الشافعي واسترد للأزهر الكثير من أوقافه. ومع كثرة ما شيّد الأيوبيون والمماليك من المساجد والمدارس فقد بقي الأزهر يستقطب العلماء وطلبة العلم، وأشاد بذلك الرحالة ابن بطوطة عند زيارته لمصر سنة 726هـ/ 1318م.
وزادت أهمية الأزهر في العالم الإسلامي عندما دمّر المغول كثيراً من المراكز العلمية في البلاد العربية والإسلامية. ومنذ بدأ زحفهم في القرن السابع هـ/ الثالث عشر م إضافة إلى ما دمره الصليبيون وأخذوه من بلاد الشام.
وفي أعقاب سقوط الحكم العربي في الأندلس قام الإسبان بتدمير التراث الفكري العربي الإسلامي وإحراقه كما أنهم قتلوا وشردوا نحو ثلاثة ملايين من العرب المسلمين فتحولت معاهد الأندلس إلى الأزهر.
بلغ الأزهر في القرن التاسع هـ/ الخامس عشر م أوجه عندما حفلت مصر بجمهرة من أعظم علمائها ومفكريها منهم الحافظ بن حجر العسقلاني وأبو العباس القلقشندي صاحب كتاب «صبح الأعشى» وتقي الدين المقريزي صاحب «الخطط» المشهورة وشمس الدين السخاوي صاحب «الضوء اللامع». كما وفد إلى مصر في هذه الحقبة الفيلسوف والمؤرخ ابن خلدون فعقد مجالس العلم في الأزهر ودرس عليه كبار العلماء المصريين وعرض عليهم نظريته المشهورة في العمران ونشأة الدول التي وردت في مقدمته. وجاء من بعده إلى مصر العلامة المغربي الشهير تقي الدين الفاسي.
عندما دخل العثمانيون مصر، وكانت هذه قد خسرت مركزها الاقتصادي العالمي بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح، بدأ تيار الحضارة يضعف ولاسيما الحياة الفكرية. غير أن العثمانيين نظروا إلى المؤسسات الإسلامية وفي مقدمتها الأزهر نظرة الاحترام والإجلال واستقدمت اصطنبول عدداً من علمائه للإفادة من علمهم ومكانتهم. وأشهر الذين برزوا من علماء الأزهر: نور الدين علي البحيري، وشهاب الدين السنباطي، وعبد الرحمن المناوي، والإمام شمس الدين الصفدي المقدسي الشافعي، والإمام إبراهيم البرماوي (أحد شيوخ الأزهر)، والشيخ حسن الجبرتي الجد الثاني للمؤرخ عبد الرحمن الجبرتي.
وفي المدة القصيرة التي أمضتها الحملة الفرنسية في مصر (1213- 1216هـ/ 1798- 1801م)، وعلى الرغم من مقاومة الأزهر للاحتلال الفرنسي، لم يمنع ذلك علماء الأزهر من الاتصال بعلماء الحملة ومن بين من قام بذلك الشيخ حسن العطار (شيخ الأزهر) الذي وقف على كثير من الفوائد العلمية الحديثة، وقد عُرِّبت الكتب العلمية الأجنبية؛ ولاسيما ما يتصل منها بالعلوم الهندسية والطبيعية.
وعندما تولى محمد علي مصر سنة 1220هـ/ 1805م اتجه نحو الاستفادة من العلوم العصرية الحديثة وتقدمت مصر في زمنه فكرياً وعلمياً، وبقي الأزهر في معزل عن هذا التحول، فأصابه الركود وضعف تأثيره وهيبته، غير أن محمد علي اختار طائفة من نوابغ الأزهر مثل رفاعة الطهطاوي وإبراهيم النبراوي وغيرهما وأوفدهم في مقدمة البعثة العلمية إلى باريس سنة 1242هـ/ 1826م.
وفي عصر الخديوي إسماعيل ظهر تأثير الحركة الإصلاحية الجديدة فقد أيقظ جمال الدين الأفغاني[ر] الذي وفد إلى الأزهر المشاعر والعقول وحرر الفكر من الجمود الذي ران عليه وبذلك عاد إلى الأزهر نشاطه وتأثيره.
لم يكن للأزهر قبل عهد إسماعيل شهادات دراسية تمنح للطلاب إلا الإجازات التقليدية التي كان يمنحها كبار العلماء للمتفوقين، وقد أحقّت هذه الإجازات حامليها ممارسة التدريس والإفتاء. وفي عهد إسماعيل صدر أول قانون تنظيمي للأزهر وأوضح الأسس التي يمكن بموجبها نيل الشهادة العالمية وقد جُعلت على ثلاث درجات. وتضمن هذا القانون المواد العلمية وهي: علم الأصول والفقه والتوحيد والتفسير والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق. وفي عهد الخديوي عباس الثاني شهد الأزهر خطوة إصلاحية قادها الشيخ محمد عبده وقد شملت إعادة النظر في شؤون التدريس ونظام الأروقة والمرتبات والدرجات العلمية، كما أضيفت مواد دراسية جديدة هي مصطلح الحديث والأخلاق والحساب والجبر والعروض والقافية. وجُعلت مواد التاريخ الإسلامي ومتن اللغة والإنشاء ومبادئ الهندسة وتقويم البلدان، مفضلة في حال توافر المشتغلين بها على غيرهم.
وفي عام 1327هـ/ 19111م صدر قانون آخر لتنظيم الدراسة على أسس جديدة، وبموجبه أنشئ مجلس الأزهر الأعلى ويرأسه شيخ الأزهر، كما أنشئت هيئة كبار العلماء، وأقيمت معاهد دينية جديدة في بعض مراكز المحافظات مرتبطة بمشيخة الأزهر، وأضيفت مواد جديدة كالجغرافية والرياضيات والفيزياء والكيمياء.
كان التدريس في المساجد يأخذ شكل الحلقات: يتحلق الطلاب حول شيخهم يستمعون إليه، ويستند الشيخ عادة إلى أحد الأعمدة إما على الأرض وإما على مقعد يُعرف بالسُدَّة. ويبدأ الدرس بعبارة بسم الله الرحمن الرحيم، ثم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم يقرر الدرس. وفي نهايته يختم بقراءة الفاتحة ثم يُعين موعد الدرس المقبل ومكانه. وكثيراً ما يختص المدرس بمكان معين وله الأولوية فيه، ويتبع في التدريس أسلوب الرواية، ولاسيما في علم الحديث. وكانت الرواية تعتمد على السماع: فيدوِّن السامع ما يقوله أستاذه مع ذكر التاريخ والمناسبة. وعندما انتشر استعمال الورق للكتابة كثرت طريقة الإملاء.
وهناك قراءة البحث بالاعتماد على مرجع وغالباً ماتكون في حلقات المدرسين الذين يقرؤون ما ليس من إنتاجهم. ومن العيوب التي شاعت أن الطلاب لم يكونوا يتجاوزون الكتب التي يقرؤونها في حلقة الدرس بل كثيراً ما كانوا يلجؤون إلى تلخيصها في ملخصات.
وفي الحقبة الأخيرة دخلت الأزهر الأساليب الحديثة وأصبح الدرس في قاعات مخصصة مزودة بالمقاعد والسبورة ومنبر الدرس ووسائل الإيضاح وأصبح تدريس المواد العلمية التجريبية في المخابر. ولا يختلف الأزهر اليوم عن الجامعات الحديثة، ويُستثنى من ذلك بعض الحلقات التي مازالت تقام في المسجد وغالباً لتدريس علوم القرآن والحديث.
مكتبة الأزهر
عنيت الدولة الفاطمية بإنشاء المكتبات ومن أشهرها دار الحكمة ومكتبة القصر المعزي ومكتبة الأزهر التي أشار إليها المؤرخ ابن ميسر في أخبار سنة 517هـ/ 1332- 1333م وقد أسند الإشراف عليها إلى كبير الدعاة الفاطميين أبي الفخر صالح.
ثم أصبح لكل رواق في الأزهر مكتبة خاصة تيسيراً على الطلاب. واختص كل من رواق المغاربة ورواق الشاميين ورواق الصعيديين ورواق الحنفية بمجموعات كبيرة من الكتب. وتأتي مكتبة المغاربة في الطليعة.
وقد أشار المستشرق الإنكليزي بوركهارت إلى مجموعات الكتب الأزهرية ونشر عنها فهرساً بالإنكليزية سنة 1232هـ/ 1816م.
وعندما أنشئت دار الكتب المصرية سنة 1287هـ/ 18700م لم توافق إدارة الأزهر على ضم مكتبات الأروقة الأزهرية إليها فبقيت على حالها.
وفي عام 1314هـ/ 18977م أنشئت مكتبة عامة للأزهر بتوجيه من الشيخ محمد عبده، وكان شيخ الأزهر حسونة النواوي. وكان نواة هذه المكتبة الجديدة مجموعات الكتب التي في أروقة الأزهر ومكتبات بعض المساجد الأخرى. وأصبحت تضم ما يزيد على مئة ألف مجلد منها خمسة وعشرون ألف مخطوط، ومعظمها من أمهات كتب الحديث والتفسير والفقه وعلوم الدين واللغة. وتشغل مكتبة الأزهر هذه بناء المدرسة الأقبغاوية ويقع فهرسها في ستة مجلدات كبيرة تم طبعها سنة 1369هـ/ 1950م. وقد بقي من مكتبات الأروقة مكتبة رواق المغاربة وفيها أكثر من 8000 مجلد بينها عدد من المخطوطات النفيسة.
وقد نهل من هذه الكتب كثير من الأعلام مثل ابن خلدون وشهاب الدين المقّري ولا تزال تعليقاته على بعض المخطوطات شاهدة على ذلك.
مجلة الأزهر
أنشئت عام 1349هـ/ 19311م وهي مجلة جامعة تنشر المقالات والبحوث الدينية والتاريخية والاجتماعية والأدبية لمشاهير الكتاب والعلماء الأزهريين وغيرهم. تعاقب على إدارتها ورئاسة تحريرها أعلام بارزون مثل محب الدين الخطيب وعبد اللطيف السبكي والشيخ محمد خضر حسين ومحمد عرفة وأحمد حسن الزيات وغيرهم وتصدر هذه المجلة عن مشيخة الأزهر في أول كل شهر عربي (قمري) وبذلك يكون عدد أجزائها السنوية اثني عشر جزءاً بالعربية وجزءان بالإنكليزية للبلاد الناطقة بها.
إدارة الأزهر (مشيخة الأزهر وماليته)
كان الإشراف على الأزهر في العصر الفاطمي موزعاً بحسب طبيعة الأعمال. كان الإنفاق عليه وإصلاحه وشؤون عمارته تعتمد على الأحباس (الأوقاف) التي يخصصها الخلفاء والأمراء والوزراء. وأما شؤون الصلاة والخطبة فيتولاها الخطيب والإمام والمؤذنون والقَوَمة. والخطيب هو الرئيس الديني للجامع، وكانت الخطابة منصباً دينياً رفيعاً. ذكر ابن ميسر في أخبار سنة 517هـ/ 1332- 1333م أنها أسندت إلى داعي الدعاة أبي الفخر صالح مع الإشراف على المكتبة. أما إدارة المسجد الداخلية من فرش وتنظيف وتجميل فلها موظفون مختصون. وكان يرعى شؤون الدراسة والأساتذة والطلاب والنفقة عليهم الخلفاء وأهل البر وكبار رجال الدولة بما يخصصونه من الأوقاف.
ومن أشهر مشايخ الأزهر أحمد العروسي وعبد الله الشرقاوي وحسن العطار وسليم البشري (المالكي) ومحمد مصطفى المراغي ومحمد الخضر حسين وعبد الحليم محمود.
وفي الناحية المالية لم يكن للأزهر عند إنشائه ميزانية معينة وكانت نفقاته تعتمد على مصدرين هما: الأحباس والصدقات العامة والخاصة. وكان للأحباس ديوان خاص يشرف عليه قاضي القضاة.
وقد زادت الأحباس بمرور الزمن حتى غدت أقوى موارد الأزهر. أما الصدقات فكانت مالية ونوعية وقد أسهمت في تيسير سبل العيش لطلبة العلم. وكانت نسبة ليست قليلة من أساتذة الأزهر وطلابه تعيش حياة التقشف.
وفي أواخر القرن الثالث عشر هـ/ التاسع عشر م أصبح للأزهر ميزانية تعتمد على موارد الأوقاف المرصودة لصالح الأزهر يُضاف إليها العون المالي الذي تقدمه الحكومة.
الأزهر والحياة العامة
لم يكن لرجال العلم والدين في العصر الفاطمي أثر يذكر في توجيه السياسة والتشريع إلا فيما يتفق مع الدعوة الفاطمية. إلا أن الأزهر كان مقراً لمجالس الخلفاء والقضاة في كثير من الأحيان وكان لقاضي القضاة أيام محددة في الأزهر، كما أن المحتسب اتخذ من الأزهر مقراً له.
بقي الأزهر بعيداً عن الحياة العامة في العهد الأيوبي، أما في عهد المماليك فقد أسهم في توجيه الشؤون العامة وكان سلاطين المماليك يتقربون من علماء الأزهر ويجلونهم ويرون في ذلك شرفاً عظيماً لهم وتدعيماً لمركزهم في الحكم.
وفي العهد العثماني أظهر السلاطين إجلالاً للأزهر وكان السلطان سليم الأول في زمن إقامته في مصر يصلي الجمعة في الأزهر تبركاً به. وقد وصل نفوذ شيوخ الأزهر إلى حد التدخل في تغيير الولاة. كما عدّ العامة شيوخ الأزهر وعلماءه الزعماء الحقيقيين يلجؤون إليهم في الظروف العصيبة. ويورد المؤرخ الجبرتي أمثلة عديدة على ذلك منها أن الشيخ أحمد العروسي نجح في عزل الوالي التركي قبيل غزو نابليون بونابرت لمصر، كما أن الشيخ عبد الله الشرقاوي أسهم بدور مهم في تولية محمد علي على مصر سنة 1220هـ/ 1805م. وكثيراً ما كان ولاة الأمور يستندون إلى شيوخ الأزهر لإصدار الفتاوى في الأزمات السياسية.
وكان للأزهر صفحة مجيدة في مقارعة الاستعمار الفرنسي. فعندما وصلت الحملة إلى مصر سنة 12133هـ/ 1798م كان في مقدمة ما أعلنه نابليون ادعاؤه اعتناق الإسلام، وحاول الاستعانة بشيوخ الأزهر وعلمائه ظناً منه أن ذلك يساعده على تثبيت حكمه، كما طلب إليهم المشاركة في تسيير شؤون البلاد عن طريق الديوان الذي أنشأه والذي ضم آنذاك عدداً من شيوخ الأزهر ومنهم الشيخ عبد الله الشرقاوي. ولكن خطة نابليون أخفقت وتزعم الأزهر مقاومة الاحتلال. وعندما انفجرت ثورة القاهرة الأولى في عام الاحتلال الفرنسي أمر نابليون بقصف الأزهر – مقر الثورة – وانتهك جنوده حرمة الجامع، واحتلوا ساحاته وأروقته، وقدّم الأزهر عدداً من الشهداء كما أقدمت قيادة الحملة على إعدام لفيف من علمائه وطلابه ولاسيما بعد مقتل الجنرال كليبر على يد سليمان الحلبي (أحد طلاب الأزهر ) وأغلق الفرنسيون الأزهر وشردوا من فيه.
واشترك الأزهر في الثورة العرابية سنة 1881- 18822م لمقاومة التدخل الإنكليزي وكان أحمد عرابي ممن درسوا في الأزهر .
وفي ثورة 19199م أذكى الأزهر روح الثورة ضد الاستعمار البريطاني. وكان الأزهر معقلاً للحركة الوطنية تنطلق منه جماهير الشعب، حتى إن المندوب السامي البريطاني طلب إلى شيخ الأزهر أبي الفضل الجيزاوي إغلاق الأزهر ولكن الجيزاوي رفض وبقي الأزهر يتحدى السلطات الاستعمارية.
وقد قدّم الأزهر أعداداً كثيرة من المفكرين في كل العهود. وفي العصر الحديث يتبين أن الكثير من نوابغ العلم والأدب والصحافة ممن كان لهم أثر قوي في توجيه الرأي العام وإيقاظ الشعور الوطني قد درسوا في الأزهر وتخرجوا فيه. وللأزهر فضل كبير في النهوض بالحركة الفكرية عامة والأدبية خاصة.
ومن أقطاب قادة الفكر الأزهريين رفاعة الطهطاوي وحسن الطويل ومحمد عبده ومصطفى لطفي المنفلوطي وطه حسين وأحمد أمين وأحمد حسن الزيات وعبد العزيز البشري ومصطفى عبد الرازق وغيرهم كثير.
تطور الأزهر في الحقبة الأخيرة
شهد الأزهر منذ القرن (الثالث عشر هـ/ التاسع عشر م) تيارين أحدهما يحرص على بقاء الأزهر محافظاً على طابعه الديني القديم، فتبقى مهمته خدمة العلوم الدينية وما يتصل بها من علوم اللغة وسواها، والآخر ينادي بضرورة تطور الأزهر مع العصر ليكون جامعةً شاملة تُدرس فيها أنواع المعرفة كافة من علوم دينية وكونية بما فيها العلوم الحديثة، التي تقدمت تقدماً عظيماً في البلاد الأوربية، والأخذ بالأساليب العصرية التي تطبقها الجامعات الأخرى. وحجة أنصار هذا التيار أن التقدم العلمي الحديث متكامل مع العلوم الدينية ولا يتعارض معها. وقد شهد الأزهر بعض التجديد في عهد أسرة محمد علي مثل الخديوي إسماعيل والخديوي عباس الثاني والملك فؤاد الأول. وكان لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلاميذهما دور في ذلك. ولكن النهضة التي شهدها الأزهر تمت بعد ثورة تموز 1952. فقد أصدر الرئيس جمال عبد الناصر عام 1961م القانون رقم 103 بتحويل الأزهر إلى جامعة حديثة وأصبح الأزهر بموجبه يضم إضافة إلى الكليات والمعاهد السابقة كليات جديدة في الطب والهندسة والصيدلة والعلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والزراعية والجيولوجية. وأصبح شيخ الأزهر في مرتبة وزير.
اتجه ألوف الطلاب إلى كليات الأزهر الحديثة منذ حدث هذا التحول. واقتضى ذلك إنشاء مدينة تابعة للأزهر فيها مبان عدة للكليات والأقسام والمخابر وأصبح لهذه الكليات الأزهرية الحديثة فروع في الكثير من المدن المصرية الأخرى مثل الإسكندرية في الشمال وأسيوط في الصعيد (أواسط مصر). وزاد الإقبال على الأزهر الحديث وأصبح عشرات الألوف من الطلبة يسعون إليه من مصر ومن الأقطار العربية والإسلامية ومن كثير من بلاد العالم. وتم من أجل استقبال هؤلاء الوافدين بناء مدن جامعية سكنية تتوافر فيها الخدمات المختلفة من أسواق وملاعب رياضية ومستشفيات وسواها. كما أصبح للأزهر أقسام إدارية لمختلف الاختصاصات والخدمات ليضاهي بذلك أحدث الجامعات.
وقد زاد اتساع نشاط الأزهر في الكثير من الأقطار ولاسيما في إفريقية. ويقوم علماء الأزهر ودائرة البعوث الإسلامية فيه بنشر الدعوة عن طريق التعليم والإرشاد وإقامة صلات ثقافية واسعة بالكثير من المساجد الجامعة في العالم والمراكز الثقافية العلمية الإسلامية.
المصدر : الموسوعة العربية