كيف يكون المعصوم قدوة؟

الثلاثاء 20 مارس 2018 - 12:51 بتوقيت مكة
كيف يكون المعصوم قدوة؟

إذا كان وليّ الله معصومًا منذ طفولته ومؤيّدًا منذ صغره، فكيف يمكن أن نتّخذه قدوةً لنا؟

السيّد عبّاس نورالدين

إذا كان وليّ الله معصومًا منذ طفولته ومؤيّدًا منذ صغره، فكيف يمكن أن نتّخذه قدوةً لنا؟

تثبت الأدلّة العقليّة والنقليّة أنّ الأنبياء والرّسل هم أشخاص معصومون عن الخطأ ولا يمكن أن يرتكبوا أي معصية في سلوكهم وفي تلقّيهم للوحي وفي تبليغهم للرسالة. وهم مؤيّدون بروح القدس الذي بفضله تنكشف لهم قبائح المعاصي وبشاعة الذّنوب إلى الحدّ الذي تكون في مذاقهم كالسمّ الزّعاف والجيفة النتنة. فهل رأيتم من يُقبل على تناول السمّ بإرادته أو أكل الجيفة برغبته؟
ومن جانبٍ آخر، هناك دورٌ أساسيّ لهؤلاء المعصومين يتمثّل في تربية النّاس ودعوتهم بالعمل والتّجسيد الأخلاقيّ ليسلكوا سبيلهم الذي هو سبيل الوصول إلى الله. والله أمرنا بذلك كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ في‏ رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ والْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرا}(1)
بل إنّ أحد أهم أسباب بعث الأنبياء من بين البشر هو تمثّل هذه القدوة والأسوة للنّاس؛ ولو بعث الله ملائكته إلى البشر لما استفادوا منهم إلّا القليل ولقالوا إنّهم ملائكة لا يشعرون بما نشعر، ولا يعانون ممّا نعاني، ولا يواجهون تحدّيات الشّهوة والغضب والجوع والمرض. فينتفي الغرض من وراء وجود الأنبياء والأوصياء الإلهيّين الذين يُفترض أن يُقنعوا النّاس بسلوكهم وحياتهم وصبرهم وتحمّلهم.
وقد شاهد معاصرو الأنبياء هذه النّماذج الرّائعة للصبر والتضحية والكدح بأعلى صورها، ونفذت هذه المشاهد إلى أعماق قلوبهم، وإن اختلفوا في مستوى التأسّي والاقتداء. لكن، لم يتطرّق إلى أذهانهم يومًا ما يمكن أن نعبّر عنه باستحالة المضيّ على هذا الطّريق أو القيام بهذه الأعمال الحسنة والشريفة.
لقد نفذت تأثيرات هذه النّماذج إلى القلوب قبل أن يتطرّق إلى الأذهان أيّ اشتباهٍ أو تساؤل حول مدى جدوائيّتها وضرورتها وحُسنها. فقد كانت سيرة هؤلاء الرّجال الإلهيّين بمستوًى من التّأثير إلى الحدّ الذي لا يترك معه أي مجال للتّساؤل حول عظمتها وأهميتها.
وهكذا اختطّ أولياء الله المعصومون طريقًا ميسّرًا نحو الفضيلة والكمال، مع علم الناس بما لهم من منزلة ومقام رفيع عند الله. ومع علم البعض بأنّهم متّصلون بالوحي ويستمدّون من عصمة الله ويجتنبون كلّ قبيح.
ثمّ انقطع النّاس عن نهج النبوّة والرّسالة وهجروا أولياء الله، وبدأوا بدراسة سيرتهم من بعيد وأرادوا أن يفهموا حقائق النبوّة والإمامة بحدود عقولهم، فاعترضتهم الشّبهات وزلّت بهم الأوهام. كلّ ذلك لابتعادهم عن حضور المعصوم ومعايشته. ولذلك تجد البعض منهم يرفع هذا المعصوم إلى مستوًى ينفي معه إمكانيّة الاقتداء، ويسعى لتمجيده ولو على حساب دوره المحوريّ في هداية البشريّة. ثمّ تجد البعض الآخر يُنزل هذا المعصوم إلى مستوًى يسلبه أدنى درجات العقل فيصرّ على جهالته، كما في القصّة المشهورة المختلقة حول خطأ النبيّ في قضية تأبير النخيل وما جرى بعدها من هلاك الموسم. فنسبوا إلى هذا النبيّ العظيم ما لا يقوم به أدنى الحكماء. لأنّ الحكمة ليست في المعرفة فحسب، بل في الاعتراف بالجهل حين يكون، وعدم المضيّ في الجهالة.
أجل، لقد كان هذا كلّه حين حلّ الجدل محل الوجدان الصّافي، فاختفى العديد من مشاهد ومصاديق القدوة، وحُرمنا من أعظم مدارس التربية.
والآن فلنتوقّف قليلًا عند مقامات المعصومين ونتفكّر في معنى قدوتهم لنا وما يمكن أن نستفيده في هذا المجال.
لا شك أنّ لهؤلاء نحو اتّصال بالسّماء يؤهّلهم لإدراك أعمق ما في الوحي الإلهيّ والتأكّد من تمثيله لإرادة الله تعالى. فكلّ واحدٍ منّا يسمع الوحي الربّاني، لأنّ الله معنا أينما كنّا، لكن الأغلبية السّاحقة لا تفهم منه شيئًا بسبب الغفلة والإعراض. والقليل من النّاس من يأخذ من هذا الوحي ما يدلّه على الخير (مثل موارد الوجدان والتمييز بين الفجور والتقوى)، كما قال تعالى: {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها}(2)أي يتمكّن من تفسير هذا الوحي في هذا المستوى من إدراك ما يريده الله تعالى. أمّا الأنبياء ومن ورثهم فهم قادرون على ترجمة الوحي بكلّ تفاصيله التي تصل إلى حدّ إدراك التكليف والإرادة الإلهيّة في الصلاة والصوم والحج وغيرها من دقائق الأعمال.
وسرّ ذلك يرجع بالدّرجة الأولى إلى مستوى الطّهارة الذي يتمتّع به أنبياء الله وأوليائه بفضل تمسّكهم الشّديد بعصمة الله تعالى التي يفيض بها على جميع البشر. وحين علم الله تعالى منهم الأمانة في التّبليغ بعثهم إلى الناس رسلًا مبشّرين ومنذرين.
فالعلاقة بين الطّهارة والأمانة من جهة، وبين المهمّة الخاصّة من جهة أخرى، هي التي ترسم لنا معادلة النبوّة والرّسالة والإمامة الإلهية. وبذلك تتجلّى لنا القدوة في أوضح مصاديقها. ولا يوجد أيّ إبهامٍ أو غموض في هذه المعادلة، وإن كانت الأسرار والحقائق الخفيّة من نتائجها.
لهذا، يعلم كلّ مؤمنٍ واعٍ أنّ السّير في طريق الطّهارة واجتناب المعصية بقدر الوسع والاستطاعة هو الذي يسلك به طريق الكمال والقرب. وليس مطلوبًا تحديد أي مستوى يمكن أن يبلغه وليس الكمال في مهمّة دون مهمة، بل في السّعي الحثيث لأداء التكليف بعد تشخيصه.
فعند الله تعالى، الشّرف والفضيلة يكمنان في مثل هذا السّعي والمجاهدة الدائبة للتخلّص من كلّ أسباب المعصية والقذارة المعنويّة.
وقد استطاع الأنبياء أن يرسّخوا هذه القدوة في أذهان ونفوس أتباعهم، وعلم هؤلاء أنّهم يستطيعون أن يتحرّكوا على طريق الأنبياء، الذي يهدف إلى إصلاح الأرض والمجتمع (ليكونوا بذلك من الصالحين)، وفهموا معادلة التّوفيق في هذا السبيل، ولم يتطرّق إلى نفوسهم شبهات المتكلّمين وأوهام المجادلين.
فالنهج واضح، والسبيل معبّد، والمسؤولية محدّدة، والقدرة متوفّرة. وما علينا إلّا أن ننظر سيرة هؤلاء المعصومين ونستلهم منهم دروس الصّبر والعمل والفضيلة والسّعي والوعي والبصيرة؛ وهل يوجد ما هو أهم من هذه الدروس؟!

الهوامش

(1) سورة الأحزاب، الآية ٢١.

(2)سورة الشمس، الآية ٨.

المصدر: موقع إسلامنا

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 20 مارس 2018 - 12:51 بتوقيت مكة