التقيد بنص الدعاء ...أقرب الى المطلوب!

الجمعة 23 فبراير 2018 - 21:12 بتوقيت مكة
التقيد بنص الدعاء ...أقرب الى المطلوب!

وفي هذا السفر السريع البطئ ، والطويل القصير ، لا حاجة إلى أي شيئ ، سوى التركيز على نقطة المبدأ ، ومركز الانتهاء.

السيد محمد رضا الحسيني

إن الدعاء ـ في الحقيقة ـ يمثل المعاني القيمة ، التي تتبلور في نفس الداعي ، ويستتبع التوجه العميق إلى الذات الإلهية ، فالفناء في وجوده الواجب ، ثم الرجوع إلى عالم المادة ، لأداء مهمة الروح العليا ، روح العدالة والحق والصدق وبالتالي : الخلاص من كل العبوديات.

وفي هذا السفر السريع البطئ ، والطويل القصير ، لا حاجة إلى أي شيئ ، سوى التركيز على نقطة المبدأ ، ومركز الانتهاء.

فلا يمكن أن نقيد الدعاء ـ بعد أن كان عملا روحيا ـ بأي قيد ، من زمان أو مكان أو لفظ ، ولا بأية لغة أو صيغة أو نص.

وقد رسم الإمام الصادق ، أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام ، لهذه الفكرة خطة واضحة ، في الحديث التالي :

عن زرارة ، قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : علمني دعاء؟ فقال : إن أفضل الدعاء ما جرى على لسانك (وسائل الشيعة ٤ /١١٧١)

فإذا كان الداعي لم يطق أن يستوعب أكثر مما يجري على لسانه ، فإن ذلك يكفيه ، والمهم أن يكون ملتفتا إلى أساس الدعاء ولبه وهو التركيز على نقطة المبدأ ومركز الانتهاء ، في سيره الروحي.

وقد أفصح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الحقيقة لما سأل رجلا : كيف تقول في الصلاة؟

فأجاب الرجل : أما إني أقول : (اللهم إني أسألك الجنة ، وأعوذ بك من النار). وأضاف الرجل : أما إني ـ والله ـ لا أحسن دندنتك ، ولا دندنة معاذ. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حولها ندندن (وانظر : كنز العمال ٢ / ٨٨)

لكن الإسلام قد حدد للدعاء المختار حدودا ، وقرر له شروطا ، راعى في ذلك بلوغه إلى الكمال المطلوب ، ومن ذلك ما يرتبط بألفاظه ولغته.

ففي الوقت الذي أكد على جوانب معناه وأهدافه ، لم يهمل جانب أدائه وصيغته. والحق ، أنا إذا أردنا أن نركز التفاتنا كاملا ، فإن كل الحواس ـ وهي ترتبط بواسطة الأعصاب بعضها بالأخرى ـ لا بد أن تتجه وتلتفت سواء الحواس الخارجية وجوارحها ، أم الحواس الباطنية وقابلياتها ، وحاسة النطق ـ وهي المعبرة عن الجميع ـ وآلتها اللسان ، لا بد أن تتحرك أعصابه ، فتكون كلمة الداعي حاسمة ، وتكون ألفاظ الدعاء مركزة موجهة.

أليست الألفاظ تعبيرا عن مكامن الضمير ، وسرائر الوجدان؟ أليست الكلمات النابعة عن طلبات الروح ، أصدق دليل على التركيز في التوجه والالتفات؟

ومن يدري؟! فلعل العبد الداعي يكون أقرب إلى مولاه الجليل ، عند بعض الحالات ، وأداء بعض النغمات ، وتلاوة بعض الكلمات ، وفي بعض المقامات والأوقات؟ دون غيرها؟!

إن النية الواحدة ، قد تصاغ بأشكال مختلفة ، وتؤدى بأساليب متنوعة ، وقد تصحبها أنغام متفاوتة.

فأيا منها نختار؟ لنتوسل به إلى هذا السر الروحي ، ونتزود منه على هذا الطريق الصعبة ، ونتوصل بسببه إلى النتيجة المنشودة.

ما أروع للداعي ، لو عرف ، أو تنبه إلى أجمل لفظة في أبدع أسلوب ، وإلى أليق تعبير في أرق نغمة ، وكان دعاؤه نابعا من أعماق الضمير ، ليكون أرغب إلى مقام الأنس ، وأقرب إلى حظيرة القدس ، وآكد في تحقيق رغبات النفس. أليس هذا هو الأحسن ، والأضمن لحصول الإجابة؟

لكن ليس الافراط في المحافظة على اللفظ ، والتوغل في مراعاة أداء الحروف وضبط الحركات ، هدفا للمتكلم الواعي ، ولا غاية للإنسان الهادف ، فضلا عن المسلم الذي يقوم بمهمة عظيمة مثل الدعاء.

فإن الدعاء ـ قبل أن يبلور في الجمل والكلمات ـ إنما هو نور مضي ينقدح فيفيض عن اللسان ، ولو كان القلب كدرا لم ينقدح فيه ذلك النور ، فأين له أن يظهر على لسان صاحبه الدعاء؟!

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : تجد الرجل لا يخطي بلام ولا واو ، خطيبا مصقعا ولقلبه أشد ظلمة من الليل المظلم (أصول الكافي،٢ /٤٢٢).

وهكذا الانهماك في تطبيق القواعد اللفظية ، بما يصرف توجهه عن المعاني ويقطع التفاته عن الهدف.

وهو ما ذكره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما روي عنه ، من قوله : من إنهمك في طلب النحو سلب الخشوع.(بحار الأنوار 1 / ٧ ـ ٢١٨)

نعم ، إن إغفال جانب اللفظ وحسن التعبير ، وصحح النص وسلامة العبارة عيب ، بلا ريب ، في الدعاء يحطه عن مرتبة الكمال اللازم في كل جوانب الدعاء من لفظه ومعناه، ولابد للداعي العارف ، المتمكن من ذلك أن يتصف به ، فيكون دعاؤه بمستوى ما يطلب من المقام الرفيع المنشود.

ومن هنا ورد التأكيد البليغ على إتصاف الدعاء بالأدب ، ويراد به (الأدب العربي) في مراعاة القواعد اللغوية والنحوية والبلاغية ، إذا بلغ الداعي مرتبة عالية من العلم والمعرفة ، وبلغ من الدين والعقيدة مبلغا يحسن مثل هذا الطلب منه.

قال الإمام أبو جعفر محمد بن علي الجواد عليه‌السلام : ما إستوى رجلان في حسب ودين ـ قط ـ إلا كان أفضلهما عند الله آدبهما.

قال الراوي : جعلت فداك ، قد علمت فضله عند الناس ، في المنادي والمجالس ، فما فضله عند الله عزوجل؟!

قال عليه‌السلام : بقراءة القرآن كما أنزل ، ودعائه الله عزوجل من حيث لا يلحن ، وذلك أن الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عزوجل (عدة الداعي/ ١٨)

إن الكمال اللازم يجب أن يعم أدب الداعي ومعارفه، فيكون كاملا في لغته التي يتقدم بالدعاء بها ، بعيدا عن اللحن المزري ، فإن الله يحب أن يرى عباده يناجونه أليس عباده يناجونه بأحسن ما يناجي به أحد أحدا.

أليس القرآن ـ وهو كلام الله ـ نزل بأبلغ ما يكون الكلام وأعذبه ، فليكن ما يخاطب به العبد مولاه ـ كذلك ـ في أوج ما يقدر عليه من الكلام الطيب والذكر البديع ، المنزه عن عيب اللحن ، والوهن.

إن الإسلام ـ في الوقت الذي ينص على الاكتفاء بما يجري على اللسان من الدعاء ، إذا لم يعرف الداعي نصا مأثورا ، لأن ذلك أدنى ما يأتي منه ـ فإنه لا يكتفي ممن يمكنه الوصول إلى المأثور ، أن يقنع بالدعاء الذي يخترعه من عند نفسه. فعن عبد الرحيم القصير ، قال: دخلت على أبي عبد لله عليه‌السلام ، فقلت : جعلت فداك ، إني اخترعت دعاء! قال عليه‌السلام : دعني من اختراعك. إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله عليه وآله وصل ركعتين تهديهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (الكافي ، كتاب الصلاة ، باب صلاة الحوائج٣ / ٤٧٦)وعلمه دعاء يتلوه.

إن الدعاء المأثور'>الدعاء المأثور ، هو ـ بلا ريب ـ أقوى ، وأصدق ، وأضبط ، فهو أوصل إلى المطلوب ، مما يخترعه ذهن الإنسان العادي ، ويلوكه لسانه.

٢ ـ المحافظة على نص المأثور :

فإذا كان الدعاء المأثور'>الدعاء المأثور بهذه الدرجة من الضرورة ، فلا بد أن تكون المحافظة عليه شديدة جدا ، ولا بد أن يواظب الداعي على نصه، كي لا يتجاوزه في حرف أو حركة، وإلا لم يبلغ المنشود المترقب من ذلك الدعاء ، وقد عرفنا (أن الدعاء الملحون لا يرفع).

وقد جاء النهي الصريح عن تجاوز نص الدعاء المأثور'>الدعاء المأثور ، أو تخطيه ، ولو بالزيادة فضلا عن النقيصة ، أو بتغيير لفظ إلى ما يرادفه ، أو بوضع جملة مكان أخرى ، وإن كانا يهدفان غرضا واحدا، وذلك كله تقيدا بالمأثور ، وأداء لما ورد كما ورد. فعن البراء بن عازب : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا براء ، كيف تقول إذا أخذت مضجعك؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا آويت إلى فراشك طاهرا ، فتوسد يمينك هم قل : (اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، وبنبيك الذي أرسلت). من قالها في ليلته ثم مات ، مات على الفطرة.قال البراء : فقلت ـ استذكرهن ـ : (.. ورسولك الذي أرسلت ...). فقال بيده في صدري : (لا ، ونبيك الذي أرسلت)( أورده البخاري في صحيحه في مواضع : كتاب الوضوء ١ / ٣٠٨ ، وكتاب الدعوات ١١ / ٩٣ و ٩٧ و ٩٨ ، وكتاب التوحيد ١٣ / ٣٨٨)

وعن إسماعيل بن الفضل ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل(وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (طه ٢٠ : ٣٠).

فقال فريضة على كل مسلم أن يقول قبل الشمس عشر مرات ، وقبل غروبها عشر مرات : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت بيده الخير ، وهو على كل شئ قدير). قال : فقلت : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ويميت ويحيى ...فقال : يا هذه ، لا شك في أن الله يحيي ويميت ويميت ويحيي ، ولكن قل كما أقول (الخصال للصدوق/ ٤٥٢)

وعن العلاء بن كامل : قال :سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول) (الأعراف ٧ : ٢٠٥) عند الماء : لا الله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ويميت ويحيي ، وهو على كل شئ قدير. قال : قلت : ... بيده الخير. قال : إن بيده الخير ، ولكن قل كما أقول ..( أصول الكافي/٢ /٣٨٣)

وعن عبد الله بن سنان ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : ستصيبكم شبهة ، فتبقون بلا علم يرى ولا إمام هدى ، لا ينجو منها إلا من دعاء بدعاء الغريق. قلت : كيف دعاء الغريق؟ قال : تقول : (يا الله ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك). فقل : يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك. فقال : إن الله عزوجل مقلب القلوب والأبصار ، ولكن قل كما أقول : (يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك) (إكمال الدين للصدوق،١ / ٣٥٢)

تدل هذه الأحاديث على أن الأدعية المأثور توقيفية ، وقع التعبد بخصوص ألفاظها الواردة ، وأن أدنى تغيير أو تبديل في كلماتها ، أو أي لحن أو تحريف في حركاتها وحروفها ، وإن لم يغير المعنى ، يوجب أن لا يكون أداؤه صحيحا ، فلا يتوقع منه ما يترقب منه فيما لو كان أداؤه تاما من الآثار الروحية.

وينبئك بمدى تأثير الألفاظ المختلفة للنتائج المتغايرة ، وإن كان الأثر الشرعي المترتب على جميعها واحدا ، ما ورد في باب (اليمين) وهو ما رواه الكليني بسنده عن صفوان الجمال ، قال :

حملت أبا عبد الله عليه‌السلام الحملة الثانية إلى الكوفة وأبو جعفر المنصور بها ، فلما أشرف على الهاشمية ـ مدينة أبي جعفر ـ أخرج رجله من غرر الرحل ثم نزل ، ودعا ببغلة شهباء ، ولبس ثياب بيض وكمه بيضاء ، فلما دخل قال أبو جعفر : لقد تشبهت بالأنبياء. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وأني تبعدني عن أبناء الأنبياء؟ فقال : لقد هممت أن أبعث إلى المدينة من يعقر تخلها ويسبي ذريتها.

فقال : ولم ذلك ، يا أمير المؤمنين؟ فقال : رفع إلي أن مولاك المعلى بن خنيس ، يدعو إليك ويجمع لك الأموال.

فقال : والله ما كان.

فقال : لست أرضى منك إلا بالطلاق والعتاق والهدي والمشي.

فقال : أبالأنداد من دون الله تأمرني أن أحلف؟! إنه من لم يرض بالله فليس من الله في شئ.

فقال : أتتفقه علي!

فقال : وأنى تبعدني من الفقه ، وأنا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

فقال : فإني أجمع وبين من سعى بك.

قال : فافعل.

فجاء الرجل الذي سعى به ، فقال له أبو عبد الله : يا هذا!

فقال : نعم ، والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، لقد فعلت.

فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : ويلك ، تمجد الله ، فيستحيي من تعذيبك ولكن قل : "برئت من حول الله وقوته ، ولجأت إلى حولي وقوتي".

فحلف بها الرجل ، فلم يستتمها حتى وقع ميتا.

فقال أبو جعفر : لا أصدق بعدها عليك أبدا ، وأحسن جائزته ورده. (الكافي ، كتاب الزي والتجمل)

وقريب منه في قصة يحيى العلوي مع عبد الله بن مصعب الزبيري لما وشى به عند هارون الرشيد العباسي ، فحلفه يحيى. (الحدائق الوردية للمحلي ،١ /١٩٢)

المصدر: مجلة تراثنا /العدد14

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الجمعة 23 فبراير 2018 - 21:12 بتوقيت مكة
المزيد