إن الحجة لم يمت ولم يرفع إلى السماء و لكن...

الثلاثاء 23 يناير 2018 - 23:01 بتوقيت مكة
إن الحجة لم يمت ولم يرفع إلى السماء و لكن...

وبالتوفيق بين ضرورة بقاء المعصوم الماسك لأطراف عالم الممكنات والشاهد على الإنسان في حركته‌ وبين إستحالة البقاء ظاهرا كان لا بـد من أن يغيب الإمام عن الأنظار.

د. بلال نعيم

غياب الإمام المهدي(ع)وهو آخـر‌ الحـجج‌ الإلهـية‌ عن الأنظار، كان وفق سنة غير قابلة للتبديل أو التعديل، قوام هذه السنة أمران: الأول‌ هو ضـرورة بقاء الحجة على الأرض لأنه لا يمكن تصور خلو المعمورة من‌ الحجة، والثاني هو اسـتحالة‌ بقاء‌ الحجة الأخيرة ظـاهرة ومـشهورة بين الناس بسبب الظلم الطاغي والسائد والذي سوف يؤدي إلى قتل هذه الحجة. وبالتوفيق بين ضرورة بقاء المعصوم الماسك لأطراف عالم الممكنات والشاهد على الإنسان في حركته‌ وبين إستحالة البقاء ظاهرا كان لا بـد من أن يغيب الإمام عن الأنظار لكن مع بقائه في هذه الدنيا، أي أن الإمام لم يمت ولم يرفع إلي السماء وهو ما زال‌ حيا‌ يعيش بيننا، يتفقد أمورنا ويرعي أحوالنا ويسدد خطانا ويحتضن مسيرتنا ويصوب المسار، وهـو مـوجود بكل ما للكلمة من معنى، إمام عابد يقوم بالتكاليف الفردية الملزم بها، ويحضر للتكليف الإلهي البشري‌ الاجتماعي‌ السياسي النهضوي التغييري على مستوي رعاية وتسديد وتوجيه المحبين والموالين بإتجاه إمتلاك المـواصفات التـي تخولهم مؤازرته والمشاركة في نهضته العالمية.

*المحافظة على الوجود

وأما وجه الانتفاع بالإمام في غيبته‌

فقد‌ حددها الأئمة عليهم السلام في الروايات التي وردت عنهم بأنه كوجه الانتفاع بالشمس عـندما تـحجبها الغيوم أو الغمام، أو عندما يختفي قرصها خلف السحاب، فغياب القرص عن الأعين والأنظار‌ لا‌ يعني‌ غياب الحرارة وانعدام وصول الأشعة‌ إلي‌ الأرض‌ وإلا لكان احتجاب الشمس خلف الغيوم يؤدي إلى كارثة حقيقية بـفعل إنـعدام الحـياة على الكرة الأرضية مع تـضاؤل مـعتد بـه في‌ حرارة‌ الشمس‌ فكيف بغيابها التام، وكذلك الإمام المهدي(ع)فهو غائب‌ خلف‌ غيوم الظلم والاضطهاد والفجور والرذيلة والمساوئ البشرية وتراكم الآفـات والشـهوات والمـعاصي والآثام، وغيابه بفعل هذه الغيوم لا يعني انعدام‌ تـأثيراته‌ وفـاعليته‌ والتي علي رأسها أنه الحافظ لوجود الممكنات بفعل وجوده، والله‌ سبحانه أخذ على نفسه أن يمسك بالأرض من وسطها ومـحورها عـلى يـد حجته على العباد وعلي الكائنات، وعندما‌ قال‌ سبحانه‌ بأنه يـأتي الأرض ينقصها من أطرافها، وفُسر ذلك بأن نقصان عمر‌ الأرض‌ يكون بموت العلماء الربانيين الذين يؤثرون في ثلم الإسلام وبـالتالي مـا يـمثله هذا الإسلام من حفظ‌ للوجود‌ الممكن‌. والله سبحانه لم "يقل" أنه يأتي الأرض يـنقصها مـن وسطها، لأن في‌ هذا‌ الوسط‌ يوجد الإمام المعصوم الذي لا يمكن أن يغيب لحظة عين واحدة عن الأرض لأنها‌ تسيخ‌ بـمن‌ عـليها. فـإذن الفائدة الأولي أو وجه الانتفاع الأول من الإمام رغم احتجابه وغيابه هو‌ المحافظة‌ علي الحـياة وعـلي النـاس وعلي الكائنات تماما كما تحافظ أشعة الشمس التي تخترق‌ الغمام‌ لتصل‌ إلي الأرض علي الحياة.

* الرعـاية والتـسديد

أمـا وجه الانتفاع لخصوص المؤمنين وحركتهم، فإن الإمام‌ بوجوده‌ المقدس يرعي ويسدد ويبارك ويرشد وخـصوصا المـقام المعظم المتمثل بولاية الأمر لأن هذا‌ المقام‌ إلهي‌ لا يبلغه إلا الصالحون، ولا يمكن أن يطاله الظالمون لأنـه عـهد مـن عهود الله.(ولا‌ ينال‌ عهدي الظالمين)، وهذا التسديد هو الذي يساعد في تطور حركة الإيمان والمؤمنين‌ وفـي‌ تـصاعدها‌ بالرغم من غياب الحجة من جهة وبالرغم من تراكم الفساد وإنتشاره في البـر والبـحر، حـيث‌ لا‌ يمكن‌ أن يحصل التطور والتصاعد في عديد المؤمنين وفي حالتهم وفي مسيرتهم لولا‌ عين‌ الإمام ورعايته الدائمـة وتـفقده للأوضاع ومتابعته للأمور ومواكبته للأحداث وإلهامه للقادة وتسديده للمسؤولين ورعايته للظروف الخـاصة‌ ومـساعدته‌ عـلي علاج المعضلات وتدخله في الأوضاع الصعبة وفي المحن وعند المخاطر والمنزلقات‌ وعند‌ التحديات حيث فـي الرخـاء والشـدة يد الإمام‌ وعينه‌ موجودتان‌، لكن عدم إلتفاتنا إليهما لا يعني غيابهما‌، فعندما‌ تـحتجب الشـمس وراء الغيوم يقول الناس ذهبت الشمس، لكنهم لا يحسون بوجودها من‌ خلال‌ حرارتها التي تبعث الحياة واستمراريتها‌، ونـحن‌ قـد لا‌ نشعر‌ بتدخل‌ الإمام وبرعايته الخاصة لكن ذلك ليس‌ إلا‌ من جهة قصر النظر والغـشاوة المـانعة من الوصول إلى حقانية الحق الذي‌ يجسده‌ الإمـام والذي لا يـغيب عـن العالم‌ حتى لو كنا لا‌ نراه‌، لأنه لو كان هـناك إمـكانية‌ لذلك‌، لكان من الأفضل والأيسر أن يرفع الله إليه وليه الأعظم كما رفع إليه‌ نـبيه‌ عـيسي بن مريم(ع)، وإن الأحداث‌ التي‌ حـصلت‌ فـي النصف الثـاني‌ مـن‌ هـذا القرن هي خير‌ شاهد‌ ليس فـقط عـلى وجود الإمام بل على تدخله المباشر في الأحداث، خصوصا الثورة الإسلامية‌ المـباركة‌ فـي إيران التي جاءت مخالفة للسياق‌ الطـبيعي‌ الذي تسير‌ عليه‌ البشرية‌ فـهي بـحصولها أشارت إلي‌ يد غيبية سـاهمت فـي الحصول مما يجعل الموالين والمحبين يتلفتون يمينا وشمالا لكي يروا وجه‌ صاحب‌ الزمـان أرواحـنا فداه في كل أبعاد‌ هـذه‌ الثـورة‌ مـنذ‌ إنطلاقتها‌ إلى ثباتها إلى مـواجهتها‌ للاعتداء إلى إستمرارها. وأيضا المـقاومة الإسـلامية في لبنان، التي قامت في بلد غير مهيأ من ناحية‌ الظروف‌ والمعطيات‌ السياسية والاجـتماعية وغـيرها، فالمقاومة في لبنان قامت‌ ونهضت‌ وإسـتمرت‌ وتـصاعدت‌ وتجاوزت‌ التـحديات‌ وإجـتازت العـوائق حتى وصلت إلى الإنتصار ، وكـل ذلك كان بفعل عوامل غيبية كانت ظاهرة في المحطات وخصوصا في الشدائد، والعوامل هذه تومىء إلى صـاحب الزمـان(ع)ممثل الغيب‌ في ساحة الشهادة.

*مـتابعة الأنـصار

وأيـضا هـناك وجـه انتفاع من الإمـام رغـم غيابه عن الأبصار المغطاة بغشاوة الآثام يرتبط بخصوص الأنصار كأفراد، حيث يتابع الإمام(ع)أوضاعهم  وأحوالهم وشـؤونهم وتـصرفاتهم ويـقوم‌ مسارهم‌ ويزكي أعمالهم ويضاعف من آثار أعـمالهم ويـبارك خـطواتهم ويـقيل عـثراتهم كـل ذلك بحسب أستعدادات كل منهم وتوجهاته نحو الحق وأقباله عليه ومستوي الحركة والفاعلية والحضور في المجالين الفردي والاجتماعي‌، مما‌ يؤثر في النتيجة وبحسب مفهوم ما نطقت به الروايـات في تهيئة ليس فقط الأرضية الصالحة لخروج الإمام المهدي(ع)وإنما أيضا في تهيئة العدد‌ اللازم‌ والضروري من القادة والأنصار الذين‌ سيتولون‌ مهمة المشاركة مع الإمام المهدي(ع)وإلى جانبه في إقامة دولة العـدل الإلهـي علي هذا العالم.

التشرف بالرؤية

ويبقى أن أشير إلى نكتة هامة، صحيح‌ أن‌ الإمام المهدي(ع)غائب عن‌ الأنظار‌ إلا أن ذلك لا يعني انتفاء الحقيقة التالية:

إن الله عز وجل أبقى الإمام على الأرض ولم يرفعه إلى السماء وبحسب المـنطق الإلهـي فإن كل ما هو موجود على الأرض‌ قابل‌ للرؤية وهو يري، أي أن الإمام(ع)وهو موجود بين الناس فإنه يراهم. وكونه موجودا بينهم الأصـل أنـهم يستطيعون رؤيته، كما أن الشمس عـندما تـكون مخفية القرص، فلأنها موجودة فرؤيتها ممكنة‌ ولو‌ بوساطة آلة‌ أو وسيلة، كذلك رؤية الإمام(ع)فإنها ممكنة وإن احتاجت إلي عين قادرة على اختراق الحجب المانعة من‌ هذه الرؤية، أي إلى عـين قـلب لم تنكسه الذنوب ولم تغطه‌ العـيوب‌ ولم‌ يحط بآثار المعاصي وسوداوية الآثام، من هنا كانت القصص الكثيرة التي نُقلت عن ربانيين من أهل الحق ‌‌الذين‌ تشرفوا برؤية الإمام(ع)ومن هنا أيضا وردت الروايات التي تقول أن الإمام عند‌ خـروجه‌ يـقول‌ أكثر الناس بأنهم قد شاهدوا وجهه من ذي قبل، فإما ذلك لأن وجهه هو وجه‌ فطرتهم الذي يعرفونه لأنه جزء منهم، وإما لأنهم فعلا قد شاهدوه في بعض‌ محطات حياتهم من دون‌ أن‌ يـعلموا حـينها بأنه الإمـام المهدي صاحب الزمان أرواحنا له الفداء. فلنسأل الله سبحانه تعالى أن يعيننا على تجاوز حجب الذنوب من أجل أن نتشرف بـالطلعة البهية والغرة الحميدة لعين الكائنات وروح‌ الكون ومالك الزمان وسلطان العـصر الذي تـنجلي بـرؤيته كل الهموم والغموم.

المصدر: مجلة بقية الله

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 23 يناير 2018 - 23:01 بتوقيت مكة
المزيد