كيف و هو إبن خمس سنوات؟

الإثنين 27 نوفمبر 2017 - 20:57 بتوقيت مكة
كيف و هو إبن خمس سنوات؟

يرتفع هذا النوع من الاستغراب حينما نعلم أن الإمامة هبة يمنحها الله تعالى من يشاء من عباده، ممن تتوافر فيه عناصر الإمامة وشروطها، شأنها في ذلك شأن النبوة.

ولي الامام الحجة أمر الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عام (260 هـ)، وهو ابن خمس سنين. وهنا.. ربما يتساءل البعض استغراباً:
كيف يجعل إماماً وهو في هذه السن من الطفولة المبكرة؟!
ويرتفع هذا النوع من الاستغراب حينما نعلم أن الإمامة هبة يمنحها الله تعالى من يشاء من عباده، ممن تتوافر فيه عناصر الإمامة وشروطها، شأنها في ذلك شأن النبوة.. وهو ما برهن عليه في مجاله من مدونات وكتب الإمامة عند الشيعة بما يربو على التوفية.
يقول السيد صدر الدين الصدر: "إن المهدي المنتظر قام بالإمامة، وحاز هذا المنصب الجليل، وهو ابن خمس سنين، طفل لم يبلغ الحلم.. فهل يجوز ذلك؟! أم لابد في النبي والرسول والخليفة أن يكون بالغاً مبلغ الرجال؟! هذه مسألة كلامية، ليس هنا محل تفصيلها، ولكن على وجه الإجمال، نقول: بناء على ما هو الحق من أن أمر الرسالة والإمامة والنبوة والخلافة بيد الله سبحانه وتعالى، وليس لأحد من الناس فيها اختيار ، يجوز ذلك عقلاً، ولا مانع منه مع دلالة الدليل عليه، لأن الله سبحانه وتعالى قادر أن يجمع في الصبي جميع شرائط الرسالة والإمامة".[6]
على أن إمامة الإمام المنتظر (عليه السلام)لم تكن الحدث الوحيد من نوعها، فقد أوتي النبي يحيى (عليه السلام) الحكم صبياً: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وآتيناه الحكم صبياً}[7]، وجعل عيسى بن مريم (عليه السلام) نبياً وهو في المهد رضيعاً: {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً}[8].. كما هو صريح القرآن الكريم.
وكان جده الإمام محمد الجواد (عليه السلام)، وجده الإمام علي الهادي (عليه السلام)، ولي كل منهما الإمامة وهو ابن ثماني سنوات،.. وكان أبوه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وليها وهو ابن عشرين عاماً.
وواقع هؤلاء الأئمة (عليهم السلام) في علمهم بالشريعة، وتطبيقهم لأحكامها، في سلوكهم، ومختلف مجالات حياتهم الذي سجله التاريخ بإكبار ـ بالإضافة إلى الدليل العقائدي الذي أشرت إليه ـ يكفينا في رفع ذلكم النوع من الإستغراب... وبخاصة حينما نعلم أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا (مصحرين بأفكارهم وسلوكهم وواقعهم تجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الفكر.. والتاريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لأفكارهم، وتعريضهم لمختلف وسائل الإغراء والاختيار، ومع ذلك فقد حفل التاريخ بنتائج اختباراتهم المشرفة وسجلها بإكبار.
ولقد حدث المؤرخون عن كثير من هذه المواقف المحرجة، وبخاصة مع الإمام الجواد، مستغلين صغر سنّه عند تولي الإمامة.
وحتى لو افترضنا سكوت التاريخ عن هذه الظاهرة، فان من غير الطبيعي أن لا يحدث أكثر من مرة تبعاً لتكرار الحاجة إليها، وبخاصة وأن المعارضة كانت على أشدها في العصور العباسية.
وطريقة إعلان فضيحة الشيعة بإحراج أئمتهم فيما يدعونه من علم أو استقامة سلوك، وإبراز سخفهم لاحتضانهم أئمة بهذا السن وهذا المستوى ـ لو أمكن ذلك ـ أيسر بكثير من تعريض الأمة إلى حروب قد يكون الخليفة من ضحاياها أو تعريض هؤلاء الأئمة إلى السجون والمراقبة، والمجاملة أحياناً.[9]
ولعل من روائع ما سجله التاريخ في هذا المجال: شهادة أحمد ابن عبيد الله بن خاقان، عامل المعتمد العباسي على الخراج والضياع بكورة (قم)،.. وكان معروفاً بانحرافه عن أهل البيت (عليهم السلام)، في معرض حديثه مع جماعة حضروا مجلسه في شهر شعبان من سنة (278 هـ)، بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بثماني عشرة سنة، وقد جرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسامراء، ومذاهبهم، وصلاحهم، وأقدارهم عند السلطان.[10]
يقول: "ما رأيت ولا أعرف بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن على بن محمد بن الرضا، في هديه، وسكونه، وعفافه، ونبله، وكرمه عند أهل بيته والسلطان وبني هاشم كافة، وتقديمهم إيّاه على ذوي السن منهم والخطر،.. وكذلك حاله عند القواد والوزراء والكتاب وعامة الناس. كنت يوماً قائماً على رأس أبي ـ وهو يوم مجلسه للناس ـ إذ دخل حجابه، فقالوا: أبو محمد بن الرضا بالباب.
فقال ـ بصوت عال ـ: ائذنوا له.
فتعجبت منه، ومنهم، من جسارتهم أن يكنّوا رجلاً بحضرة أبي، ولم يكنّ عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنّى.
فدخل رجل أسمر، أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة.
فلما نظر إليه أبي، قام فمشى إليه خطوات.. ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد وأولياء العهد.
فلما دنا منه عانقه، وقبّل وجهه وصدره ومنكبيه، وأخذ بيده، وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه، مقبلاً عليه بوجهه... وجعل يكلمه، ويفديه بنفسه وأبويه، وأنا متعجب مما أرى منه، إذ دخل الحاجب، فقال: جاء الموفق وهو أخو المعتمد الخليفة العباسي، وكان الموفق إذا دخل على أبى تقدمه حجابه، وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين الدار سماطين، إلى أن يدخل ويخرج.
فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد، يحدثه، حتى نظر إلى غلمان الموفق، فقال له ـ حينئذ ـ: إذا شئت ـ جعلني الله فداك ـ أبا محمد...ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين، لا يراه هذا (يعني الموفق).
فقام، وقام أبي، فعانقه، ومضى. فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويحكم.. من هذا الذي كنيتموه بحضرة أبي، وفعل به أبي هذا الفعل؟!...فقالوا: هذا علوي، يقال له: الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا.
فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره، وأمر أبي، وما رأيته، منه، حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة، ثم يجلس، فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات، وما يدفعه إلى السلطان.

فلما صلى وجلس، جئت فجلست بين يديه، فقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم.. فان أذنت سألتك عنها..
قال: قد أذنت..
قلت: من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة، وفديته بنفسك وأبويك؟!
فقال: يا بني.. ذاك إمام الرافضة، الحسن بن علي، المعروف بابن الرضا..وسكت ساعة..
ثم قال: لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله، وعفافه، وصيانته، وزهده، وعبادته، وجميل أخلاقه، وصلاحه.. ولو رأيت أباه، رأيت رجلاً جزلاً، نبيلاً، فاضلاً.فازددت قلقاً، وتفكراً، وغيظاً على أبي، وما سمعته منه فيه، ورأيته من فعله به. فلم تكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره، والبحث عن أمره. فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام، والمحل الرفيع، والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه..فعظم قدره عندي، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً، إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه).[11]
وكان الإمام المنتظر (عليه السلام) خاتم الأئمة الاثني عشر، أوصياء نبينا محمد (صلى الله عليه وآله).
_________________________
[6] - ص 107.
[7] - الآية 12 من سورة مريم.
[8] - الآيتان 29 و30 من سورة مريم.
[9] - محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفة المقارن ص 183.
[10] - يراجع: السيد محسن الأمين، ص 317.
[11] - الشيخ المفيد، الإرشاد، ص 309 و310.

المصدر:مؤسسة السبطين العالمية

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الإثنين 27 نوفمبر 2017 - 20:44 بتوقيت مكة