الشهيد.. مهام و مسؤوليات (القسم الثاني)

السبت 11 نوفمبر 2017 - 10:17 بتوقيت مكة
الشهيد.. مهام و مسؤوليات (القسم الثاني)

قلنا إن الدور الأول للشهيد هو التذكير، ورسالة التذكير هي الدعوة إلى اللّه، والتذكير به، والدعوة إلى [الموقع الوسط]، تذكيراً وتعليماً. والدور الثاني للشهيد هو تجسيد القدوة للناس، للاقتداء والتأسّي.

الفقيد آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي

عوامل الإعراض والصدود:

عوامل الإعراض و الصدود عديدة ، إلا أننا نذكر منها عاملين يذكرهما القرآن الكريم:

الأول: الشيطان.

يقول تعالى: {فأنساه الشيطان ذكر ربه}.

{استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه}.

والشيطان يصد عن ذكر اللّه {يصدكم عن ذكر اللّه}.

والثاني: الانغماس، والاستغراق في متاع الحياة الدنيا ولذاتها. يقول تعالى: {ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بورا}.

وساعات اليسر والرفاه تنسي الإنسان ذكر اللّه، وبالعكس فان ساعات الشدة والعسر تذكر الإنسان باللّه تعالى.

يقول تعالى: {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون}.

{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذَّكَّرون}.

أسلوب التذكير:

يتلخص مفتاح قلوب الناس في شيئين: الصدق والرفق.

والكلام عندما يصدر من الإنسان عن صدق ويكون صاحبه مؤمناً بما يقول، وعاملاً بما يقول، يكون حينئذ له في النفوس من الفعل والتأثير ما ليس لغيره، فإن الكلام عندئذ يصدر من عمق النفس، ويحمل معه قناعة صاحبه وإيمانه وتفاعله معه، والكلام عندما يحمل معه تلك الخصائص، يكون له من التأثير ما ليس للكلام الذي يصدر عن سطح ضحل من سطوح النفس، ودون أن يكون له عمق وامتداد في نفس الإنسان.

ولأمر ما ينهانا اللّه تعالى أن نقول ما لا نفعل. يقول تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون * كبُرَ مقتاً عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون}.

و (الرفق) المفتاح الآخر من مفاتيح النفس. والذين آتاهم اللّه تعالى مفتاح الرفق ، يُحسنون النفوذ بالتذكير والموعظة إلى القلوب، وتلين لهم القلوب الصعبة، وتستجيب لهم القلوب النافرة. ومهمة الوعظ ترقيق القلوب، فإذا رقّت القلوب إستجابت للتذكير، وإنفتحت على ذكر اللّه، وأقبلت على اللّه تعالى، أما عندما تعشو القلوب فلا تستطيع الذكرى أن تنفذ إليها.

فلابدّ للمذكّرين باللّه والدعاة إلى اللّه لكي يهتدوا إلى قلوب الناس أن يرفقوا بها، ويتخيّروا من أساليب الوعظ والتذكير أرقّها وأكثرها ليناً ورفقا، ويتجنّبوا الشدّة والقسوة في الكلام، فإن القلوب تستجيب للرفق، وتصدّ عن الشدة. ولهذا السبب يجب أن لا نحمّل الناس في الوعظ والتذكير ما لا يتحمّلون وما لا يعرفون.

عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): « إنا أمُرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس بقدر عقولهم. أمرني ربي بمداراة الناس، كما أمرنا بإقامة الفرائض ».

ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): « خالطوا الناس بما يعرفون، ودعوهم مما ينكرون ».

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) ليونس (رحمه الله): « يا يونس حدّث الناس بما يعرفون، واتركهم مما لا يعرفون ».

ومن الرفق أيضا الاعتدال في الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء.

عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): « ألا أخبركم بالفقيه حقاً ؟ من لم يقنّط الناس من رحمة اللّه، ومن لم يؤمّنهم من عذاب اللّه، ولم يؤيسهم من روح اللّه، ولم يرخّص في المعاصي».

الرفق والعنف في الإسلام:

إن الرفق والعنف وجهان لحركة الدعوة على وجه الأرض، ومن دون أن يقترن هذان الوجهان لا تتمكّن هذه الدعوة أن تشق طريقها إلى قلوب الناس على وجه الأرض، من خلال العقبات والعوائق التي يزرعها ويضعها الطاغوت، أمام حركة الدعوة.

والوجه الأول لهذه الحركة هو الرفق واللين في دعوة الناس إلى اللّه تعالى، وتذكيرهم باللّه واليوم الأخر.

{ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسنُ}.

{اذهبا إلى فرعونَ إنه طغى * فقولا له قولاً ليّناً لَعلّه يتذكّرُ أو يخشى}.

{وإذا سمعوا اللغوَ أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالُنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين}.

{ولا تجادلوا أهلَ الكتاب إلاّ بالتي هي أحسنُ إلاّ الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهُكم واحدٌ ونحن له مسلمون}.

{ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللّه وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمينَ * ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ ادفع بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميمٌ}.

{اذهبْ إلى فرعونَ إنه طغى * فقلُ هل لك إلى أن تزكّى * وأهديَك إلى ربِّك فتخشى}.

هذا هو الوجه الأول من حركة الدعوة وهو وجه الرفق واللين. والوجه الأخر وجه يختلف تماماً عن هذا الوجه، وهو وجه العنف والشدّة. ولنقرأ بعض ملامح هذا الوجه الأخر في كتاب اللّه تعالى.

يقول تعالى: {واقتلوهم حيثُ ثقفتموهم وأخرجوهم من حيثُ أخرجوكم}.

{فخذوهم واقتلوهم حيثُ ثقفتموهم}.

{فإما تثقفنّهم في الحربِ فشرّد بهم من خلفهم}.

وهذا هو الوجه الأخر لحركة الدعوة، وهما وجهان متكاملان وليسا وجهين متناقضين. إن الوجه الأول هو الذي تواجه به الدعوة الناس في حركتها على وجه الأرض، فلا يقبل الناس على هذا الدين إلاّ بالرفق واللين، ولا تكسب الدعوة قلوب الناس ولا تنفذ إليها إلاّ بالرفق واللين، والتفاهم، والحكمة، والموعظة الحسنة. ولكن الطاغوت لا يدع هذه الدعوة تتحرّك على وجه الأرض بين الناس لتكسب قلوبهم وقناعاتهم وإنما يحاول أن يضع العقبات والعوائق في طريق الدعوة، ويصد الناس عنها، ويفتنهم ليتخلّوا عنها، ويعمل من أجل أن يحول بين الناس وبين رسالة اللّه تعالى.

ولكي تواصل الدعوة حركتها على وجه الأرض، لابدّ أن تدافع عن نفسها وعن الناس الذين تطلبهم، ولابدّ أن تواجه العقبات والفتن التي يزرعها الطاغوت في طريق حركة الدعوة بالقوة والشدة والعنف.

ولا يكاد ينفع هنا الرفق والإحسان، فإن لغة الرفق تنفع الناس وتكسبهم إلى جانب الدعوة وتفتح مغاليق قلوبهم، أما الطاغوت في رحلة المواجهة والصراع فلا تردّه إلاّ لغة القوة والعنف، ورد الكيد بالكيد، والمكر بالمكر، والشدّة بالشدّة.

وهذا هو الوجه الأخر للدعوة، ومن دونه لا تستطيع أن تواصل حركتها على وجه الأرض. ولكن علينا أن نعرف جيداً أن الوجه الأخير من دون الوجه الأول لا يشق طريق الدعوة، ولا يفتح قلوب الناس. وإن الذي كسب الناس للإسلام في الفتوح الإسلامية العسكرية في صدر الإسلام ليس القوة والسيف، وإنما الرفق واللين، واستخدم المسلمون القوة فقط لكسر شوكة الطاغوت وإزالة العقبات من أمام حركة الدعوة.

المهمة الثانية للشهيد في الحياة الدنيا: القدوة:

يقول تعالى: {لقد كان لكم فيهم اُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو اللّه واليومَ الاخرَ ومن يتولّ فإن اللّهَ هو الغنيُّ الحميدُ}.

الشهيد [مذكّر] و[قدوة]:

قلنا إن الدور الأول للشهيد هو التذكير، ورسالة التذكير هي الدعوة إلى اللّه، والتذكير به، والدعوة إلى [الموقع الوسط]، تذكيراً وتعليماً. والدور الثاني للشهيد هو تجسيد القدوة للناس، للاقتداء والتأسّي. وفي الرسالة الثانية لا يدعو الشهيد إلى الموقع الوسط، وإنما يجسّد بسلوكه الموقع الوسط. فلا يشذّ عنه في قول أو فعل، ولا ينحرف، ولا يشطّ، ولا يقصّر، ولا يزيد. ويجد الناس فيه تبلوراً واقعياً وحقيقياً للموقع الوسط. والقدوة بهذا التصوّر تعني المرآة التي يجد الإنسان فيها نفسه وما أودع اللّه فيه من كنوز اليقين، والمعرفة، والتوحيد، والقيم، والجد، والعزم، والقوة، والشجاعة، والمقاومة، والحب.

يرى الإنسان في (القدوة) كل ما أودع اللّه فيه من هذه الكنوز، فهو من سنخ خلقه، إنسان يمشي في الأسواق، فما يجد في القدوة من المعرفة والقيم والكفاءات موجودة عنده، غير أن (القدوة) يمكن أن يبرزها إلى الفعل ويخرجها إخراجاً حسناً، وهو لم يفعل ذلك.

ولو كان الأنبياء من الملائكة لما وجد الإنسان فيهم مرآة صادقة لنفسه، وقد كان المشركون يستنكرون أن يكون الرسول من نوع البشر، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويطلبون أن يكون الرسول من غير البشر، من الملائكة، مثلاً. ويرد عليهم القرآن الكريم ردّاً بليغاً:

يقول تعالى: {وما أرسلنا قبلَك من المرسلينَ إلاّ إنهم ليأكلونَ الطعامَ ويمشونَ في الأسواقِ وجعلنا بعضَكم لبعض فتنةً أتصبرونَ وكان ربٌّكَ بصيراً * وقال الذين لا يرجونَ لقاءَنا لولا أنزل علينا الملائكةُ أو نرى ربَّنا لقد استكبروا في أنفسِهم وعتوا عتوّاً كبيراً}.

{وقالوا ما لهذا الرسولِ يأكل الطعامَ ويمشي في الأسواقِ لولا أنزل إليه ملكٌ فيكونَ معه نذيراً} [58].

{ولو جعلناه ملَكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون}.

والرد واضح، فإن الملكَ لا يكون قدوة للإنسان، ولا يكون مرآة تعكس له شخصيته وقيمته وكفاءاته.

وبالنتيجة لا يعكس له ما ينبغي أن يكون، ولا يعكس له مقدار تخلّفه وتقصيره.

أما القدوة (الإنسان) فيصلح أن يكون مرآة للناس، تعكس لهم أنفسهم، وتعكس لهم ما ينبغي أن يصلوا إليه ويحققوه، وتعكس لهم مقدار تخلّفهم وعجزهم، وتنبّه الناس إلى ضرورة تدارك أخطائهم وجبر نقاط الضعف والنقص في سلوكهم، وتعديل أفكارهم وأعمالهم بموجب ما تعكسه هذه المرآة.

أسلوبان في الدعوة:

هناك فرق واضح بين أسلوب الشهيد في الدعوة إلى اللّه، والأسلوب الذي يتّخذه غير الشهداء من عامة الناس إلى اللّه.

فمن الدعاة من يدعو الناس إلى الموقع الوسط ويرشدهم إليه. أما الشهيد (القدوة) فلما كان يجسّد بأقواله وأفعاله الموقع الوسط فهو يأخذ الناس معه إلى ذلك الموقع. والناس ـ على طريق اللّه ـ ينجذبون إلى من يقول لهم: هلموا معي إلى اللّه، أكثر مما ينجذبون إلى من يقول لهم: إذهبوا إلى اللّه.

وكانت دعوة الإمام الحسين (عليه السلام) من النوع الأول، يدعو الناس إلى مواجهة الظالمين، ويتقدمهم وأهل بيته وذراريه، فكان يقول لهم: « نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم ».

يروي الكاشاني في كتابه الصافي في تفسير القرآن أن أصحاب الحسين (عليه السلام) كانوا إذا أرادوا الخروج استأذنوا الحسين (عليه السلام) وقالوا: السلام عليك يابن رسول اللّه، فيردّ عليهم السلام، ويقول لهم: نحن على الأثر قادمون، ثم يقرأ قوله تعالى: {فمنهم من قضى نحبَه ومنهم من ينتظرُ وما بدّلوا تبديلاً}.

ويقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) عن حروبه مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): « كنا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه ».

وفي حرب الأحزاب كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بنفسه يحفر ويحمل التراب من الخندق ويقول: « لا عيش إلاّ عيش الآخرة ».

وإذا كان (صلى الله عليه وآله) مع أصحابه في سفر، وكانوا يوزّعون الأعمال فيما بينهم قال: « وعليّ يلمُّ الحطب ». وهذا هو الفرق بين الشهيد وغيره. إن الشهداء من الأنبياء والأوصياء والعلماء والدعاة إلى اللّه يجسّدون الموقع الوسط، ويأخذون الناس معهم إلى هذا الموقع، أما غير الشهيد من العلماء والدعاة، فيدلّون الناس على الطريق، ويدعون الناس إلى الإعمال الصالحة.

ولذلك دعوة الشهيد لا تضاهيها دعوة، ولا حركة، ولا يكون لغير الشهيد من التأثير والنفوذ في حياة الناس، ومن القدرة على تغيير مجرى التاريخ ما يكون للشهداء. وفي سير علمائنا الشهداء نجد نماذج كثيرة من أمثال هؤلاء، ممن كانوا يجسّدون المقاومة والثبات والصبر في البأساء والضرّاء، قبل أن يدعوا الناس إليها. وقد كان شيخ الشريعة الأصفهاني (رحمه الله) يحضر بنفسه القتال مع الانجليز، وهو في سنّ متقدمة من الشيخوخة، وكان يعسكر مع عساكر المجاهدين ويسير معهم، وكان القائد العثماني التركي يقول: كلما أرى خيمة شيخ الشريعة المتواضعة في وسط المعسكر ازداد قوة وطمأنينة وثقة.

وقد انقلب به القارب في النهر، وكاد أن يغرق، لولا أن أنقذه بعض المجاهدين.

يتبع.....

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 11 نوفمبر 2017 - 09:55 بتوقيت مكة