آية الله نمر باقر النمر
تمهيد:
إن الدعوة إلى الوطنية والوحدة الوطنية والولاء الوطني تستبطن في أحشائها أهدافاً جاهلية شيطانية؛ نسجها الطاغوت ليبقى متربعاً على كرسي العرش في بيت العنكبوت، وجاثماً على صدر المجتمع خامداً لأنفاس الأحرار الذين يأمرون بالقسط والعدل؛ لأن حقيقة الدعوة إلى الوطنية والوحدة الوطنية والولاء الوطني هي عنوانٌ للترهيب والتخدير، وهي قناعٌ لتكوين عَبَدَة الطاغوت، وهي تمزيقٌ لأمة التوحيد، وليست توحيدًا لوطن؛ وذلك لأن:
أولاً: الوطن فُصِّلَ ويُفصَّل على مقاس الطاغوت.
ثانياً: الطاغوت هو المانع من وحدة الأوطان.
فالمجتمع في المغرب يريد أن يتوحد تحت راية دولة المغرب العربي، وكذلك المجتمع في الهلال الخصيب يريد أن يتوحدَ تحتَ رايةِ دولة الهلالِ الخصيب، وكذلك المجتمعُ في الجزيرة العربية يريدُ أن يتوحّدَ تحت راية دولة الجزيرة العربية، وكذلك المجتمع في النيل والحبشة يريد أن يتوحد تحت رايةِ النيل، ومعهم أيضاً مجتمعُ جزر القمر، وهكذا كل مجتمعات الدول العربية أجمع تريدُ أن تتوحدَ تحتَ رايةِ دولة الولايات العربية المتحدة، وهكذا هم يريدون مع باقي المجتمعات الإسلامية أن يتوحدوا تحت راية دولة الولايات الإسلامية المتحدة.
ولكن الذي يمنع المجتمعات من الوحدة هو الاستكبار الدولي الذي سيفقد بالوحدة العربية أو الإسلامية قدرته على نهب ثروات العالم العربي أو العالم الإسلامي المتحد، ولكن الاستكبار ليس ذي بال، وسيتهاوى لو توحدت إرادة الزعامات التي تحكم الأمة، ولكن المانع الحقيقي والمنيع هم الحكام الطغاة الذين يعبدون كرسي الحكم؛ والوحدة تعني نزول أو سقوط الطاغي من على هذا الكرسي، وهذا ما لا ولن يُسمح لأحدٍ بأن يهمُسَ به، فضلاً عن الصدع به، وفضلاً عن منازعته الكرسي؛ ولو تطلب الأمر أن يحفرَ أخاديد تجري فيها بحيراتٌ من الدماء.
ولم يطالب مجتمعٌ من المجتمعات الإسلامية بالانفصال عن الدولة التي تحكم بلاده إلا بسبب الاضطهاد والظلم والعدوان والبغي والجور والطغيان الذي تمارسه السلطات الحاكمة عليهم من التمييز والحرمان والاستعباد، وسلب الحريات، وتغييب العدالة، وهتك الحرمات، وانتهاك الكرامة الإنسانية.
ومن أجل بيان الرؤية الثاقبة، والموقف الرشيد، والبصيرة القرآنية، والحكم السديد من الوطنية والوحدة الوطنية والولاء الوطني سيكون الحديث بعد هذا التمهيد عن ستةٍ وعشرين عنواناً وهي:
أولاً: المدخل.
ثانياً: معنى الوحدة.
ثالثاً: دواعي الوحدة وأهدافها.
رابعاً: المعيار الشرعي للوحدة.
خامساً: البصيرة القرآنية لوحدة الأرحام.
سادساً: البصيرة القرآنية للوحدة الإنسانية.
سابعاً: أقوى العوامل الداعية للوحدة.
تاسعاً: البصيرة القرآنية للوحدة المذهبية.
عاشراً: البصيرة القرآنية لوحدة الأمة المؤمنة.
حادي عشر: أكرمية الإنسان وأفضليته على المخلوقات.
ثاني عشر: الأصالة والسيادة للقيم الرسالية أولاً وبالذات.
ثالث عشر: أهم القيم المعرفية.
رابع عشر: أهم القيم الإنسانية.
خامس عشر: أهم قيم الفرد والمجتمع.
سادس عشر: أصالة الإنسان وسيادته على القوانين الوضعية والوطن.
سابع عشر: معنى الوطن في اللغة والعرف.
ثامن عشر: معنى الوطن في المصطلح الشرعي.
تاسع عشر: العلاقة بين هوية الإنسان والهوية الوطنية.
عشرون: ما هو المراد من الوطن في الروايات؟
واحد عشرون: وقفة تأمل في رواية " حب الوطن " من الإيمان.
ثاني وعشرون: البصيرة القرآنية للوطنية والوحدة الوطنية والولاء الوطني.
ثالث وعشرون: الولاء لله ولا ولاء للوطن.
رابع وعشرون: الوطنية في دولة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
خامس وعشرون: الموقف المبدئي بعد وضوح الرؤية الرسالية ومعرفة الحكم الشرعي.
سادس وعشرون: مسك الختام.
«أولاً» : المَدْخلُ
إن الله سبحانه وتعالى خلقَ كتابَ التكوين، وخلق الإنسانَ وجعلهُ سيداً على الكونِ، وأنزل كتابَ التشريعِ وجعله حاكماً على الكون والإنسان؛ ومما جاء في كتاب التشريع:
1. إن للتوحيد الإلهي عنصرين هما العبودية لله، واجتناب الطاغوت. ولكننا لم نجتنب الطاغوت، فاختلطت العبودية لله بالعبودية لغيره، ولذلك استبدلنا الذي هو أدنى (الرجس من الأوثان) بالذي هو خير (التوحيد الإلهي).
2. إن الله سخَّر الأشياءَ للإنسان، وجعلها تابعةً له، وطوعَ إرادته؛ ولكننا عبدنا الأشياء وأمسينا أسراء لها.
3. إن الولاية والحكم جعل إلهي حرّمَهُ الله على الجاهل والظالم، وخصها بأهل اليقين والصبر، وهم المتقون من الفقهاء الذين يفقهون ثوابت الشريعة، ومتغيرات الحياة السياسية والاجتماعية؛ ولكننا تغافلنا عن الجعل الإلهي، وجعلنا السلطة والحكم للجهلة والظلمة من الناس، وركنَّا إليهم.
4. إن المرجعية للتشريعات هي وحي السماء فقط (الإسلام)، ولكننا أبينا إلا مرجعية تصورات وأوهام البشر، وهوى وشهوات السلاطين.
5. إن الأرض لله وهي لجميع عباد الله، ولكننا قطَّعناها وسجَّنا بعضنا بعضاً في قِيعة ضيقة، وسميناها دويلة.
6. الكرامة حق لكل إنسان مهما كانت عقيدته. ولكننا سحقنا الإنسانية وكرامتها، واستمرينا (1) الذُّلَ والهوان وحياة الغاب.
7. إن الله جعل الناس شعوباً وقبائل مختلفة الألسن والألوان من أجل تكامل البشرية، ولكننا جعلنا الإختلاف للحروب والصراع والنزاع والنهب وتحجيم البشرية وآفاقها.
8. إن لكل الناس حقوقًا متبادلة باعتبار الإخوة الدينية، أو النظارة (2) الإنسانية؛ ولكنا قبرنا الإخوة الإيمانية، ومزقنا النظارة الإنسانية.
9. إن الأمة الإسلامية أمة واحدة، ولكننا قطَّعناها زبراً، وملَّكناها طغاة السلطة والعلم والمجتمع.
10. إن الرابط الوثيق للنسب هو التقوى التي أنجبت الإخوة الإيمانية، ولكننا اتخذنا روابط المال والمصالح والوطن (3)، فأنجبت التعالي والصراع والمحن.
11. إن الناس سواسية؛ لا فضل للسانٍ على لسان، ولا للونٍ على لون، ولا لبلدٍ على بلد، ولا لقيعة (4) على قيعة، ولا ... فلا تفاضل بينهم إلا بالقيم الرسالية من التقوى وثمراتها؛ ولكننا أشْرَبْنا قلوبَنا زيف سمو اللسان واللون والوطن.
12. إن الدنيا دارَ ممرٍ فانية، والآخرة دارَ مقرٍ باقية. ولكننا عمَّرنا الفاني وخرَّبْنا الباقي فخسرنا الاثنين معاً.
والخلاصة:
إننا اختزلنا الآخرة ونعيمها الدائم، واستبدلناها بالدنيا وكدرها المتفاقم، واختزلنا كلمات وتشريعات الله التي لا تنفد، واستبدلناها بكلمات وتشريعات البشر، فاختزلنا كل الحقائق ونورها المُنْجِم، واستبدلناها بالدعاوي وزيفها المظلم، ثم اختزلنا الأمة الإسلامية الواحدة، واستبدلناها بقيعة وطن، ثم اختزلنا الوطن في قبيلة أو حزب، لا ينجب إلا رجس الطغاة، وجعلناه إلهاً من الوثن، فلم يغرب عنا طاغٍ آسِن (5) إلا واستبدلناه بطاغٍ آسَن (6) .
وبمعنى آخر إننا اختزلنا الأمة الإسلامية في الوطن، واختزلنا الوطن في الحزب الحاكم أو القبيلة الحاكمة، واختزلنا القبيلة الحاكمة أو الحزب الحاكم في الزعيم الطاغي، وأمست رؤانا ومواقفنا تابعة لهوى الطاغي وأسيرة لشهواته، فلم نحفظ وحدة الأمة، ولم نشيّْد الدولة.
يتبع......
(1) استطيبناه ووجدناه مريئاً.
(2) المماثلة في النوع.
(3) ويقصد به الوطن التراب أو الدولة بالمعنى الوضعي.
(4) من قاع ويقصد بها الوطن كما في السابق.
(5) أي عفن.
(6) صيغة مبالغة وتعني أكثرُ عفونةً