ظاهرة العنف: المفهوم والملابسات التاريخيّة

الثلاثاء 24 أكتوبر 2017 - 08:51 بتوقيت مكة
ظاهرة العنف: المفهوم والملابسات التاريخيّة

مقالات ـ الكوثر

إنّ إنسانًا قادرًا على تجاوز المسافة التي تربطه بالواقع المعاش والمباشر، والإنسان الذي يترك لنفسه حرّيّة النظر إلى هذه الحياة بكلّ ضجيجها، سيشهد، بنحو أكيد، كيف أنّ البشريّة أثبتت قدرتها الاستثنائيّة على الولوغ بدمها، وكيف أنّها قدَّست قرارها على تدمير ذاتها بوعي تحرّكه اندفاعات لا واعية.

فالعنف في بيئة الإنسان ليس ظاهرة بين الظواهر الاجتماعيّة فحسب، بل لعلّنا غير مجازفين إذا قلنا إنّه واحدٌ من العلل المحرِّضة على التشكّل الاجتماعيّ وصياغة الهويّات الفرديّة أو الجماعيّة

مما يبرِّر لنا البحث عن مصدر العنف دونما حاجة منهجيّة للبحث عن معناه أنّه أظهر وأوضح من أيّ تعريف يشخِّص حدوده الماهويّة. بل إنّ كلّ محاولة من هذا النوع إن هي إلّا كشف لوجه من وجوهه؛ أو يمكن القول جهة من جهات النظر إلى واقع هذه الحقيقة الماكثة مع الإنسان منذ سيره الأوّل ومع كلّ وجهة اتّجه إليها ونحوها.

وفي قراءة لموضوعة العنف، ظهر خطٌ انبنى على العودة إلى الأصول الأولى؛ فالعهد القديم أعادها إلى ما زرعه الإنسان من تناقضات في أصل تشكّله الجمعيّ ونظرته إلى الوجود. فسفر التكوين يقول:

جَبَلَ الربّ الإله آدم ترابًا من الأرض ونفخ فيه نسمة حياة”[1]. إلى أن “أوقع الربّ الإله سباتًا على آدم فنام فأخذ واحدةً من أضلاعه, وملأ مكانها لحمًا. وبنى الربّ الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحمٌ من لحمي. هذه الآن تُدعى امرأةً لأنها من امرءٍ أُخذت[2].

وبذلك كان الأصل هو آدم والآخر المتفرِّع عنه كان امرأةً، ليكون الاختلاف الذاتيّ للأصل ناشئًا من التراب ومن نفحة الحياة ومنهما يجيء الآخر المرأة التي تتوسّط قرار موافقة آدم بعدم التزام أمر الربّ, الأكل من شجرة الخير والشر. والتوسّط هنا، كان بالإصغاء إلى دعوة الشرّير الذي دخل تحويل فعل الأصل “آدم” عبر المتفرِّع عنه “حوّاء”. ليحيلهما إلى عريٍّ رأياه بعدما امتلكا قدرة التواصل مع المعرفة والتفريق بين الخير والشر، ممّا استوجب بروز الردّ العنفيّ الأوّل وهو إسقاطهما ممّا كانا فيه من قدسيّة أحاديّة الجانب في النظرة والسلوك، إلى صراع بين ذاك المقدَّس والحرام المنتمي إلى بيئة الطين والتراب الأرضيّة، والتي استوجبت فيما بعد صورة موقف آخر بين أخوين من آدم وحوّاء هما قايين وهابيل، اللذان حوَّلا حُسن الخلاف بينهما إلى قربان، فما إن تُقُبِّل من أحدهما حتّى نشب بينهما الخلاف واستبان وجه العنف الإنسانيّ بفعل القتل المنتج للموت. والموت هنا، رمزٌ للشرّير مرّةً أخرى وإن بشكل جديد يختلف من حيث الصورة, عن صورة الأفعى.

ويرتحل بعدها هابيل كما ارتحل أبواه من قبل عن الموطن نحو الغربة. والارتحال لم يتوقّف، ففي الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين يذكر أنّ “الأرض كانت كلّها لسانًا واحدًا ولغةً واحدةً, وحدث أنّهم في ارتحالهم من الشرق وجدوا سهلًا في أرض شنعار فأقاموا فيها”. وغيَّروا أرضهم بل وحتّى بناء بيوتهم فبدل الحجر استخدموا اللبن، وعملوا على بناء مدينة بابل وبرجها. فتركهم الربّ يعملون فيما ينوون إلّا أنّه بلبل عليهم لسانهم حتّى ما عادوا يفهمون بعضهم على بعض؛ “لأنّ الربّ بلبل لسان كلّ الأرض. ومن هناك بدَّدهم الربّ على وجه كلّ الأرض”[3]

وهكذا كان كلّ ارتحال يشكِّل غربة عن الموطن الأصليّ, وبالتالي يؤسّس لاختلاف جديد تتّسع دائرته ليتحوّل إلى واحد من أقسى أنواع العنف، وهو ضرب رمز التواصل الذي تحمله اللغة في دلالاتها ومستلزماتها من التفاهم والتحاكي.

واللافت هنا أنّ الارتحال – كما الاختلاف – كان ينبع دومًا من التناقض الإنسانيّ الذي كان يدخل الشيطان فيه تارةً, وربّ العهد القديم تارةً أخرى؛ إذ الربّ هنا دخل بين نيّة الجماعة وبين فعلها ليقوِّض فعاليّة رمز التواصل “اللغة”، ليشتدّ فيهم واقع الغربة والمفارقات والموت، حتّى جاء وعد الربّ التوراتيّ كما في العهد القديم (لإبرام) حتّى يخرج برحلة استعمار أرض جديدة لشعب سيكون هو الشعب المختار. فبحسب سفر التكوين: “في ذلك اليوم قطع الربّ مع أبرام ميثاقًا قائلًا: لِنَسلِكَ أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير؛ نهر الفرات

وهكذا يتبلور مفهومان هما:

أ. مفهوم القبيلة؛ وهي التعبير عن عصبويّة عنفيّة لذات لا ترى في الآخر إلّا أغيار. وأنّ الجامع بينها إن هو إلّا عصبويّة مقدَّسة بميثاق الربّ الذي صار مع شعب إسرائيل أبًا عمل يعقوب على ضدّيّة احترابيّة معه أدّت إلى إطفاء إحدى عينيه بحيث لا يرى شعب يعقوب التوراتيّ المختار.

ب. مفهوم رسم حدود جغرافيّة مبنيّة على كيانيّة دولة حدودها هي: مصالح الشعب المختار, وأداتها استعمار الأغيار إمّا باستعبادهم المباشر داخل سلطة الحدود الجغرافيّة, وإمّا باستعبادٌ غير مباشر يكون فيه الأغيار ضمن مستلزمات توفير مصالح ذاك الشعب.

وبعد هذه المراحل، صعَّدت القراءة اللاهوتيّة المسيحيّة كلّ رموز العهد القديم, لتتحدّث عن يقظة عند الأب الذي تنحَّى عن دوره لابنه الوحيد فأرسله برحلة جديدة تدخل الزمن بحيث يتحوّل الإله الكلّيّ إلى إنسان تامّ ممّا جعله مؤهّلًا بجمعه لنقيضين في ذاته “الإله المقدَّس” و “الإنسان/ التراب” ليكون فداءً لحسم إشكاليّة العلاقة بين الله والإنسان.

وقد رأت أنّ الأصول التي أثبتها سفر التكوين إنّما أبرزت وجه الخطيئة التي هي منبع كلّ شر وعدوانيّة في الذات الإنسانيّة. وهذا الشرّ كلّما تفاقم كان لا بدَّ لنعمة الروح أن تتفاقم أيضًا ليحلّ محلّ آدم الأوّل؛ (آدم الخطيئة) آدم الثاني؛ (آدم المسيح). وهذا نحوٌ من الصراع الجوهريّ في داخل الإنسان وفي مسار الزمن، سيحتاح إلى أن يتحوّل مفهوم الصراع مع الأب إلى تصالح عبر كبش فداءٍ يمثِّله الابن متجرِّعاً كلّ غصَّات كأس الألم في منافسة الذات الإنسانيّة عسى أن يعيدها إلى موطنها الأصليّ بعد اغترابها الدنيويّ.

ولتحقيق هذا الهدف يبرز مفهوم الأخيار: وهم الذين اختارهم سرّ المسيح هذه المرة؛ المسيح الذي حسب الإنجيل يدخل الهيكل ليعدّه بيت أبيه وليطرد منه أبناء الأفاعي, وليفتح المجال لاستبدال مفهوم القبيلة بمفهوم الكنيسة كجسد يمثِّل روح المسيح بلحمه ودمه، وكأنّما الكنيسة هي حوّاؤه وموطنه وأرضه التي يرغب بامتدادها كفاصلة بين الأخيار وغير الأخيار.

ثمَّ إنّه لمّا ينقض عليه الموت, يبرز أقصى نقيضه بالدخول في الجحيم ليعلن انتصاره عليه، متّخذًا الجبل لكونه أعلى بقعة في مسمّيات الأرض، مبرزًا فيه اتحاد وجه الموت وشخصانيّة الحياة، ليرتفع أمام الأنظار فوق الجبل بعودٍ نحو سماء الأبديّ, وليلقي لإخوته أجنحةً من نار المعرفة تغزو الأمم بلسان متّحدٍ بعدما تبلبل اللسان في العهد القديم، وليتحوّل كلّ الأمر إلى سرّ يختار منه من يريد.

أمّا الآخر فسيبقى مهدَّدًا بالجحيم. والسرّ هنا يتجاوز كلّ لغة تواصل وكلّ لغة معرفة؛ لأنّه فوق خيارات الإنسان. وبالتالي فسيبقى العنف مغلَّفًا بالحقيقة, وسيبقى شرّ الخطيئة مغلَّفًا بالغفران, وستبقى الجحيم كما الموت مغلَّفةً بالسماء والحياة, وسيبقى الإله مغلَّفًا بالإنسان؛ لأنّ كلّ ذلك تشكَّل بسرّ لا يفصح عن تناقضاته لا بالعقل ولا باللغة. بل بالنفوذ لإيحاءات تُلقى إلى روع يصطرعه الكبت ورغبة الانتقام من الذات والنقص والسلطة الرمزيّة بكلّ وجوهها النفسيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة العامّة.

وهذا المنطق وإن رسم له القرآن مسارات مختلفة, إلّا أنّه اعترف بوجود صيغ حقيقيّة للعنف. ففي القرآن، لم يبرز آدم كأصل دون حوّاء، إذ كلاهما من ترابٍ واحد، ونفس واحدة. وآدم الإنسان يحمل إمكانيّة العبث والإفساد وسفك الدم، لكنّه من حيث الأصل يستودع في كيانه سرّ صفاء الفطرة وحفظ وديعة الأمانة الإلهيّة بالإعمار والهداية. وعَدْوُه في الأرض ينشأ من عداوة الشيطان, كما من التنافس في تحقيق صيغ البناء الإيجابيّ.

وهو على ضعفه ينطوي على كلّ بذور الكمال والتسامي. وضعفه قد يجرّه ليتشكَّل بأطر قبليّةٍ وشعوبيّة, لكنه ذو طموح إراديّ كادح نحو تحويل المتفارقات المتباينات من الحدود إلى تجاور تعارفيّ يخوض فيه صراع تحويل الفهم والعيش إلى منطقة التكارم بالتقوى كتعبير عن التوحّد مع غايات المثال الأعلى الذي يطمح للقرب إليه؛ وهو الله سبحانه وتعالى.

وبالتالي، فصور استخدام العنف هي مجرَّد آليّات تُستخدم للوصول إلى تحقيق الرؤية ونفاذ الإرادات في أرض لا يملكها، بل هو مجرَّد مستخلَف ومستأمن فيها وعليها.
ورحلة الاغتراب إن هي إلّا هجرةٌ إلى الله ورسوله، وليست استبدال موطن, لأنّ الأرض على سعتها هي لله. ومن كانت هجرته إلى الله فلا يُعدُّ غريبًا.

أمّا التصالح مع الله سبحانه فلا يكون بوسيط كبش زراعيّ أو حيوانيّ أو إنسانيّ؛ إذ من كلّ ذلك لا ينال الله شيئًا, بل ما يناله التقوى من الناس؛ والتقوى هي التذرّع بحصانة الله.

أمّا الموت فإنّه حياة الذين زرعوا الصالحات في دنياهم ليحصدوا نتائجها جنّات في عالم الحياة الأبديّة.

وهو ما يصارعه كلّ إنسان بوعي منه وإرادة ليكون شاهدًا وشهيدًا على الحقّ.

ويحمل هذا الصراع عناوين متعدّدة من مثل: “التدافع”، و”الفتنة” و”الابتلاء”، إلى آخره
وتبدأ حركة الأصول العنفيّة من تلك العداوة مع إبليس الذي صار شيطانًا. والشيطان سمة تلبّسها كلّ من عادى إنسانيّة الإنسان من الجنّ والإنس فيما بعد، التي وإن انطلقت من الطين بما يعنيه من تثاقل نحو الأرض ورغبة في الشهوة، وطموح نحو تنزيل الذات منزلة الإله ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾[4], وهي الحالة الفرعونيّة التي كثر ورود ذكرها في القرآن.

إلّا أنّ صورة العنف برزت بحسب القرآن من الأخوين اللذين دخل عنصر الرغبة بإمرأة محدّدة بينهما كسبب للخلاف، إلّا أنّ قبول الله من أحدهما دون الآخر شكَّل عنصرًا نفسيًّا جديدًا عنوانه الحسد المولِّد لغيرة وحميّة عصبيّة المكانة الاجتماعيّة ممّا أوقع بينهما قتلًا ينبع من عقدة النقص، برز بحيرة هابيل عن اكتشاف الأسلوب المناسب لستر سوأة أخيه, هذه الحيرة التي حوَّلها مشهد الغراب وهو طائر اللون الظلاميّ الأسود، وهو يحفر في الأرض, ليضع جثة طائر آخر إلى احتقار علنيّ للذات دفعته لهروب من ذاته الفرديّة وذاته الجماعيّة بانفصاله عنها.

ممّا يعني أنّ العنف هو سبب التفارق بين الناس بما يحمله من وثائق الصلة مع روابط الجماعة التي ينتمي إليها والتي ترقبه وتضبطه، وهذه الحقيقة يعلن القرآن عنها بتصريحه ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾[5].

وبعدها يصوِّر القرآن كيف يتشكَّل المجتمع بصيغه المتعدّدة إلى كيانات تتفارق بفعل الناتج النفسيّ للإنسان.

هذا، وإن كان التفسير النفسيّ للعنف قد ذهب بعيدًا في ذكر تأثيره على واقع الحياة الاجتماعيّة, إلّا أنّه قلّما فرَّق بين جبريّة تأثير الفعليّ النفسيّ, وبين كونه نزوعًا قابلًا للتبدّل والتكيّف مع المحيط والبيئة العامّة عبر تداوليّة في التأثير.

وهذا ينسجم مع ما أطلق عليه السيد الصدر اسم الشكل الثالث من السنن التاريخيّة:

وهو شكلٌ اهتمّ به القرآن الكريم […] هو السنة التاريخيّة المصاغة على صورة اتجاه طبيعيّ في حركة التاريخ, لا على صورة قانون صارم حدِّي؛ فهناك اتجاهات موضوعيّة في حركة التاريخ وفي مسار الإنسان لكن مع شيء من المرونة, بحيث إنّها تقبل التحدّي ولو على شوط قصير, وإن لم تقبل التحدّي على شوط طويل”[6].

وهذا النزوع النفسيّ لا تنبع أصالته من كونه سببًا فاعلًا لمظاهر العنف, بل هو سببٌ بدوافع غائيّة أخرى، وهي نفسيّة أيضًا ولا تجد تعبيرها إلّا بالظهور بمظاهر خارجيّة. وبالتالي، فالحافز والمحرِّض النفسيّ يسير في عمليّة بناء الإنسان الفرد والجماعة بشكلٍ لا ينفصل عن العمليّة الاجتماعيّة الخارجيّة.

وعليه، فيمكن التأكيد أنّ العنف – لكونه أمرًا نفسيًّا يتأثّر بالخارج – لا يمكن أن يُقضى عليه بكلّ إجراءات الكبت التي يمكن أن تُمارس عليه. والكبت وإن أسكته وعطَّل ردّات فعله على المدى القصير, إلّا أنّه لا يمكن أن ينسفه ويفنيه ولو على المدى الطويل من الزمن، لما يحمله العنف النفسيّ من مخبوءات – ستتبدّى فيما بعد- تتمثَّل بمشاعر المظلوميّة والاستعباد والقهر وغير ذلك.

من هنا، فإنّ القرآن الكريم اعترف بالعنف كقيمة يمكن أن نحكم عليها بالسلبيّة أو الإيجابيّة، لكنّه ربطها بأمور خارجةٍ عنها.

من هذه الأمور:

أوّلًا: الدفاع عن المظلومين والعمل على ردّ كلّ صنوف الظلم، التي منها:

  • التعدّي على الحقوق الإنسانيّة: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾[7].
  • التعدّي على الحقوق الإلهيّة: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾[8].

ج. البغي والعدوان في الأرض: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[9].

ثانيًا: حفظ الهويّة الدينيّة: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ للهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[10].

فقانون التدافع والقتال فيه هنا تثبيت هويّة التوحيد.

ثالثًا: إعلان الولاء المطلق لإرادة المثال الأعلى للحياة وأمره، ويتمثَّل، بحسب فهم القرآن الكريم، بالله سبحانه وتعالى. ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ…﴾[11.

]أمّا الوجوه السلبيّة فهي كلّ أمر صادر عن بغي وتجنٍّ وظلم أو التزام بمثال حياتيّ منخفض يفرِّق بين الناس ويوقع بينهم الفتنة والعداوة والبغضاء.

هذا، وقد ذهب السيّد الصدر إلى أنّ الطابع العنفيّ الذي تولِّده المثل المنخفضة إّنما يعود لكون نتاج قيم قبليّة وعنصريّة وفرعونيّة تحرِّك عناصر الفساد والقتل والعبث في الحياة.

وأودُّ أخيرًا أن أختم بملاحظة تحتاج في ظنّي إلى تدقيق وبحث لا يسعه المجال الآن، وهي أنّ تفسير العنف برحلة وجوديّة لاهوتيّة عند اليهود جعلت الإله يستوطن الأرض بشعبه المختار، ردَّت عليها المسيحيّة برحلة لاهوتيّة أخرى استعادت الإله ليستقرّ بما أطلقوا عليه اسم السماء.

أمّا في الإسلام، فلا رحلة للإله ولا اغتراب يعيشه، إذ ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾[12]. وما أطلق عليه اسم السماء هناك أطلق عليه الإسلام اسم الآخرة.

وبالتالي، فإنّ الإسلام أقام تفسيره على أنّ الآخرة لها أحكامها كما أنّ للأرض أحكامها الخاصّة بها. والعنف التدافعيّ ليس من أحكام الآخرة, بل هو من أحكام الدنيا. فأيّ تفسير لمصدر العنف يقدِّمه أيّ باحث في الحقل النفسيّ، أو الأناسيّ، أو الاجتماعيّ، أو الاقتصاديّ، هو قابل للأخذ والردّ على أن يُربط بعامل إضافيّ نوعيّ وهو دخالة الله في حركته وسنّ سننه، لينطلق من رؤية توحيديّة كونيّة ووجوديّة تتسع لكلّ مساحات عالمَي الغيب والشهادة، بعيدًا عن روح الأسطورة وإن اعتمد أحيانًا لغتها الرمزيّة، وبعيداً عن الشيئيّة وإن جعلها واحدة من معدّات العلّة التي تنتج مثل هذه الحركات للسنن الإلهيّة.

بقلم الشيخ شفيق جرادي

المصادر:

[1] الكتاب المقدّس، العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني/7-8.
[2]
الكتاب المقدّس، مصدر سابق/ 21-25.
[3]
الكتاب المقدّس، مصدر سابق/9.
[4]
سورة الفرقان، الآية 43.
[5]
سورة يونس، الآية 19.
[6]
السيد محمّد باقر الصدر، السنن التاريخية، الصفحة 88.
[7]
سورة الحج، الآية 39.
[8]
سورة الأنعام، الآية 21.
[9]
سورة الشورى، الآية 42.
[10]
سورة الحج، الآية 4.
[11]
سورة الأنفال، الآية 60.
[12]
سورة النور، الآية 42.

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 24 أكتوبر 2017 - 08:25 بتوقيت مكة