حيث تدخلت مصر لتأييد الثورة فتزايد الخطر على العائلة السعودية الحاكمة، التي اعتقدت أن الثورة فى اليمن وتأييد مصر لها يعنى بداية خلق صراع في المملكة وحفز المعارضة السعودية غير الظاهرة للعيان على البروز .
وفى غمرة ارتباك السياسة السعودية إزاء الثورة اليمنية ومع تزايد حدة الصراع على الحكم بين سعود وفيصل قام كل من الملك المذكور وكمال أدهم وعدنان خاشقجى (مجموعة فيكتوريا) بدورة ناشطة وفقاً لتوجيهات المخابرات المركزية الأمريكية ، وكان ذلك تحت إمرة مباشرة من قبل رئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي فى ذلك الوقت المدعو روبرت كومر الذى كان على صلة قوية "بإسرائيل" وأرامكو .
وقد جابهت هذه المجموعة مشكلة صعبة وحادة فى شخص الرئيس الأمريكى "جون كيندى" الذى كان على علاقة حسنة مع عبد الناصر حيث كان بين الاثنين إعجاب متبادل لدرجة أنه اقتنع بالاعتراف بالثورة اليمنية وأخبر فيصل رسمياً أن مخاوفه من عبد الناصر والثورة اليمنية أمور مبالغ فيها وأن على العائلة السعودية أن تصرف اهتماماتها إلى تطوير بلادها بدلاً من أن تخوض خصومات لا مبرر لها .
غير أن رسائل "كومر" باعتباره مسؤولاً عن مجلس الأمن القومى الأمريكى استمرت بالوصول إلى كيندى وركزت على نقطة الضعف لدى أي رئيس أمريكي وهى ضرورة حماية أمن "إسرائيل" وتجنب معاداة السامية وقد طلب من الرئيس الأمريكى أن يخبر الأمير فيصل لدى اجتماعه به فى تشرين الأول (أكتوبر) عام 1962 ما يلي :
1 - إن مساعدتنا لمصر تهدف إلى كبح جماح عبد الناصر واحتوائه وليس إجباره على الارتماء فى أحضان السوفييت .
2 - إنه من الضرورى للمملكة العربية السعودية أن لا تتبع سياسة التمييز ضد اليهود الأمريكان العاملين فى المملكة ، وإذا لم يحترم السعوديون هذا العهد الذى قطعه الملك سعود فسوف يكون تأثير ذلك سلباً على علاقات الصداقة السعودية – الأمريكية لأن "إسرائيل" وجدت لتبقى دائماً .
وقد أبلغ فحوى الرسالة إلى فيصل وكان الهدف منها ثنيه عن أية خطة لديه للتعامل مباشرة مع "إسرائيل" لمجابهة عبد الناصر وفي غضون أيام قليلة وصل فيصل إلى لندن لمناقشة كيفية معالجة الوضع فى مواجهة الثورة اليمنية والتدخل المصري اللذين كانا خطراً يهدد كلاً من الحكم السعودى واستمرار الوجود البريطانى فى اليمن الجنوبى ، بل ويشمل في تهديده كل منطقة الخليج [الفارسي] وتدفق النفط الذى يشكل شريان الحياة بالنسبة للغرب .
وتحرك على الفور كومر مع مجموعة فيكتوريا ، وإذا كان كنيدى لا يريد اتخاذ موقف أمريكى بشأن اليمن استجابة للضغط السعودى فإن البريطانيين كانوا مستعدين ليفعلوا ذلك لأنهم شعروا بالخطر المباشر فى عدن ، آخر معقل للإمبراطورية البريطانية فى الوطن العربى والذى يسعى عبد الناصر لإزالته .
كانت الاستراتيجية الصهيونية هي أن تضع ولأول مرة فيصل على اتصال مباشر مع "إسرائيل" بواسطة عضو مجلس العموم البريطانى المحافظ الصهيونى الميول الذى ترأس ما يسمى جماعة السويس المدعو جوليان إيمرى ” وذلك بالتعاون مع النائب ثم الوزير البريطانى دنكان سانديز الذى كان يزيد على "
الإسرائيليين فى عدائه لعبد الناصر ولكى يعطى الاجتماع أهمية خاصة قام السير دوجلاس وايت رئيس جهاز التجسس البريطانى ” إم .آى سكس ” بتقديم فيصل إلى إيمرى وحضور القسم الأول من الاجتماع .
وفى كتابه "الصراع على اليمن" ذكر إيمرى أنه أخبر فيصل بأن نجاح الكولونيل عبد الناصر فى الحصول على موطىء قدم فى الجزيرة التى هي مركز أهم الاحتياطات البترولية فى العالم العربى والعالم قاطبة ينذر بالشر وينبغى على جميع الأطراف المتأثرة مصالحها مقاومته . وقد أخبر فيصل أن أية محاولة لمواجهة ناصر عسكرياً سوف تسحق ، وأن الحل هو إقحام اليمن فى حرب أهلية يكون "لإسرائيل" فيها دور أساسى ومباشر . هذا بالإضافة إلى إيجاد تحالف قوى بين النظامين السعودى والأردنى وإنهاء حالة التوتر الموجودة بينهما .
وفى ذات الاتجاه سعت بريطانيا رسمياً محاولة تغيير الموقف الأمريكى إزاء ناصر والثورة اليمنية .
***
قاعدة "إسرائيلية" فى السعودية :
وشهدت المناقشات بين لندن وواشنطن خلافات حادة حول الأسلوب الأمثل لمعالجة الأزمة اليمنية ، وللتعامل مع عبد الناصر فى اليمن ، وقد ارتاعت لندن من إلحاح كنيدى على إيجاد تسوية فى اليمن مادامت بريطانيا لا تعتبر الثورة حركة ضارة ، لذلك تحركت بالتعاون مع "إسرائيل" لإثارة القوى الضاغطة ممثلة بشركات النفط والبنوك التى إذا ما وجهت ضغوطها استطاعت أن تنجز شيئاً .
وعلى الرغم من كل ذلك فإن كيندى اعترف بالنظام الثورى فى اليمن وإن كان اعترافه هذا مصحوباً ببعض الشروط ، وعلى ما يبدو فإن فيصل ربما كان مقتنعاً بأن التعاون مع "إسرائيل" يجب إلغاؤه بعد الإطاحة بسعود وتتويجه ملكاً مكانه ، ولكن موافقته فى اجتماع تشرين الأول (أكتوبر 1962) على التعاون السعودى الإسرائيلى لمهاجمة الثورة وعبد الناصر أوجدت وضعاً على أرض الواقع لا يمكن إلغاؤه أو التخلص منه بسهولة ، ويعتبر هذا التعاون مهماً جداً كونه أول تعاون تآمرى مع" إسرائيل" موجه ضد أكثر من دولة عربية. ولتدعيم هذا التعاون نجح كومر فى إجبار أمريكا على إرسال سرب جوي إلى المملكة العربية السعودية للبقاء هناك تدليلاً على تصميم أمريكا على الدفاع عن النظام السعودى ومنع أي هجوم على حدوده وقد تم ذلك بسبب إلحاح الخطة (السعودية – الإسرائيلية) عليه .
تمكن خاشقجى من الحصول على ميزانية غير محدودة لشراء جميع الأسلحة اللازمة للمرتزقة "الإسرائيليين" والبريطانيين الذين تقرر إرسالهم إلى اليمن ، وكذلك لتسليح القبائل التي انحازت إلى جانب الملكيين والسعودية .
كذلك حصل كمال أدهم على ميزانية مفتوحة لرشوة القبائل اليمنية ومواجهة متطلبات الجانب "الإسرائيلي" تحت ستار مساعدة العناصر اليمنية . وبالإضافة لكل ذلك اتخذت إجراءات أخرى مثل :
1- استئجار الجنود المرتزقة العائدين من بيافرا والكونغو .
2 - اعلان جوليان إيمرى النائب البريطانى الصهيونى ودنكان سانديز عن تشكيل مكتب باسم ” لجنة الدفاع عن اليمن الإمامية ” مستخدمين الضابط البريطانى المرتزق جون كوبر لشراء وتأجير المرتزقة وشكلت وحدة عمل لهذا الغرض مقرها فى سلون ستريت بلندن .
3- تشكيل إيمرى مع فتزورى ماكلين زوج ابنة هارولد مكملان لجنة فى مجلس العموم البريطانى تحت شعار ” عدن لن تلحق السويس "هدفها الإعلان مباشرة أن بريطانيا تدعم وتشارك فى كل شىء يفعله النائب الصهيونى المحافظ جوليان إيمرى".
4 - تحرك الضابط البريطانى المرتزق جون كوبر عبر الحدود السعودية إلى منطقة الجوف اليمنية ليشكل أو ل وحدة عمل (سعودية - "إسرائيلية") مشتركة لتوجيه جنود المظلات الإسرائيليين من أصل يمنى الذين سينزلون ليذوبوا فى المجتمع اليمنى كما هو مقرر حيث سيقودون عمليات تخريبية .
5 - افتتاح مكتبين لتجنيد المرتزقة أحدهما فى لندن والآخر فى عدن لنفس الغرض . وقد كان المكتب الثانى تحت إشراف سكرتير الحاكم البريطانى فى عدن الضباط فى القوات الجوية الملكية (أر.أ.اف) انتونى الكسندر بويل كما أشارت صحيفة الأوبزرفر البريطانية فى عددها الصادر فى 9 آيار (مايو) عام 1964 ، وذكره أيضاً انتونى ماكلير فى كتابه ” المرتزقة ” .
6 -كما كان مقرراً أن تتحرك بريطانيا بواسطة هؤلاء المرتزقة عبر الحدود بينما تتحرك إسرائيل من جدة وجيبوتى لإنزال الأسلحة لهؤلاء المرتزقة ومؤيديهم فى الجبال اليمنية .
7 - افتتاح مكتب ارتباط (سعودى – إسرائيلي") ببيروت إبعاداً لتلك الأنشطة عن الأراضى السعودية ، وقد أقلق وجود المكتب فؤاد أيوب اللبنانى آنذاك فأرسل تفاصيل نشاطه إلى القاهرة لكى يحمي نفسه من عواقب نسج المؤامرات فى لبنان ضد مصر .
وكان هدف العملية ("الإسرائيلية البريطانية السعودية") المشتركة استنزاف طاقات مصر فى اليمن ومحاولة إسقاط النظام الثوري هناك ، وقد لعبت المخابرات السعودية دوراً أساسياً وخطيراً جداً فى تاريخ العرب الحديث بتبذيرها المال على "إسرائيل" وتآمرها السري معها، إذ تشير بعض المصادر إلى أنه ربما كانت السعودية هى الممول الحقيقي لتطبيق فكرة الغزو الصهيوني للأرض العربية عام 1967 . وكان أيضاً الطرف العربى الوحيد الذى عرف بخطة الغزو عشية الخامس من حزيران/يونيو عام 1967 وكان إلى الجانب "الإسرائيلي" فى أغلب الحروب – رغم الإدعاءات والأوهام التى روجت عن حرب النفط عام 1973 – وما يجرى اليوم ضد سوريا ولبنان (حزب الله) وقوى المقاومة الفلسطينية، بل وضد مصر فى سيناء مع جماعات الإرهاب الوهابية، وبعد مهزلة التنازل المصرى عن جزيرتي تيران وصنافير، والذى جاء لكى تضع السعودية وبأوامر أمريكية قدماً لها فى اتفاقية كامب ديفيد وأن تكون بداية للتطبيع والعلاقات العلنية بدل تلك السرية.. كل هذه الأدوار السعودية التاريخية تؤكد على الروح التآمرية ضد قضية العرب المركزية قضية فلسطين، وتؤكد أنها تخدم وتعمل بإخلاص لصالح العدو الصهيونى منذ نشأت المملكة (1932) وحتى يومنا هذا (2016).
يتبع.....
د. رفعت سيد أحمد