د. سادات: المبادئ الفكرية للسلفية الجهادية (القسم الأوّل)

الأحد 30 إبريل 2017 - 11:57 بتوقيت مكة
د. سادات: المبادئ الفكرية للسلفية الجهادية (القسم الأوّل)

ظهر في العصر الحديث ما يعرف بالسلفية الجهادية، وهو مصطلح أطلق منذ نهاية الثمانينيات على بعض جماعات الإسلام السياسي التي تتبنّى الجهاد منهجاً للتغيير.

ويعلن هذا التيار أن الجهاد أحد أركانه، وأن الجهاد الذي يجب وجوباً عينياً على المسلمين يتمّ تطبيقه ضدّ العدو المحتلّ وضدّ النظام الحاكم المبدِّل للشريعة الإسلامية، والذي يحكم بالقوانين الوضعية، أو النظام المبالِغ في الظلم والقهر.

ومن أشهر الجماعات التي تنتمي للمنهج المذكور: جماعة أنصار بيت المقدس؛ والقاعدة؛ وحركة طالبان؛ والدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش»، وجبهة النصرة؛ وجماعة الشباب المجاهدين في الصومال؛ وجماعة أنصار الشريعة في تونس وليبيا.

تنبع أهمّية هذه الدراسة من أهمّية دراسة أفكار ومبادئ التيارات السلفية الجهادية بشكلٍ عام على الصعيد المحلّي والإقليمي والدولي، بما أن مصطلح السلفية الجهادية مثبت في الأدبيات الجهادية نفسها منذ سنوات، وتحديداً منذ ثمانينيات القرن العشرين عند الرموز الأساسيين الذين يحملون لواء هذا الخطّ المتشدِّد ويمثِّلونه، مثل: أبو محمد المقدسي، عبد القادر عبد العزيز سيّد إمام، أبو قتادة الفلسطيني، أبو مصعب السوري، أيمن الظواهري، وإنْ كانت صياغاته النظرية الأولى تمّت في مصر في الستينيات على يد سيد قطب.

إن أدبيات التيارات السلفية الجهادية زاخرة بشرح مكانة الجهاد المتقدّمة عندها، سواء في التنظير أو في الممارسات العملية. ويستند أتباع تلك التيارات إلى أقوال ابن تيمية وابن القيِّم الجوزية. وينقل سيد قطب في كتابه معالم في الطريق ما لخّصه ابن القيِّم عن سياق الجهاد في الإسلام في كتابه زاد المعاد.

ويتبين من خطاب التيارات السلفية الجهادية أنها تسعى لأهداف تعتبرها ساميةً؛ لكونها تتعلَّق بإحقاق أمر الله، وتطبيق شريعته، والجهاد في سبيله؛ لتحقيق مرضاته، والفوز بجنّته، وتجنُّب غضبه. ويرَوْن أنهم لتحقيق ذلك لا بُدَّ من تنفيذ الأوامر الإلهية الواضحة. لقد سعى منظِّرو هذه التيّارات إلى تأصيل بعض المفاهيم كالحاكمية لله، وجاهلية المجتمع، وكفرانيّة النظم، والجهاد من خلال إقامة الدلائل النقلية والعقلية عليها، وتوظيف كلّ المرجعيات العقائدية والفقهية؛ لبناء منظومتهم الفكرية على المستوى النظري، والانطلاق إلى المستوى العملي الجهادي.

إن الجماعات السلفية الجهادية استحضرَتْ ما يكفي من الفتاوى من المذاهب الإسلامية السنّية الأربعة لتأكيد مشروعيتها في قتال مَنْ تصفهم بالكفّار أو مَنْ تنعتهم بالشِّرْك، سواء كانوا داخل البلاد الإسلامية أو خارجها، وذلك في إطار الجهاد الابتدائي. واعتبرت أن مجرَّد كفرهم أو شركهم كافٍ لتبرير شنّ الحرب عليهم، وإدخالهم في الإسلام، ولا يشترط قيامهم بأعمال عدائيّة ضدّ المسلمين. بناءً عليه فإن السلفيين الجهاديين يرَوْن أنه إذا وجب قتالهم الكفّار والمشركين من أجل إدخالهم في الإسلام فإن قتالهم بسبب عدوانهم على المسلمين يكون أوجب، وكذلك الأمر من أجل دفع شرورهم عن الإسلام والمسلمين.

والهدف الأساس لهذه الدراسة هو الإجابة عن عدد من التساؤلات، منها:

ـ ما هي المرتكزات الفكرية التي استند اليها أتباع السلفية الجهادية؛ لتبرير أعمالهم؟

ـ مَنْ هي الشخصيات التي صاغت تلك الأفكار، واستطاعت تجنيد الشباب المسلمين من كلّ أنحاء العالم، وخاضت بهم المعارك على أكثر من جبهةٍ، وفي غير مكان؟

ـ كيف استطاعت السلفية الجهادية تطويع النصوص الدينية؛ خدمةً لأغراضها؟

ـ هل للسلفية الجهادية تفسيرٌ واحد للنصّ الديني؟ وما هي أنواع تلك الحركات المحاربة؟

ـ ماذا عنَتْ السلفية الجهادية بالحاكمية، وجاهلية المجتمعات الإسلامية، وكفرانيّة النظم الحاكمة؟ وما هي غايات الجهاد عندها؟

ولمّا كان الكثير من النتاجات الفكرية للحركات السلفية التكفيرية محظوراً من النشر، حتّى غدا الإنترنت سبيلاً شبه وحيد لتوسّع تلك الحركات وانتشارها، فإنّ اللجوء إلى الإنترنت كان ضرورياً للحصول على مراجع سلفية تكفيرية، بما يوفِّر فهماً صحيحاً لهذه الاتجاهات.

مقدّمة

يحتلّ الجهاد ضدّ المشركين والكفّار أولوية في فكر الجماعات السلفية الجهادية. ولذلك قاموا بجمع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تعطي مشروعية لقتالهم، فقالوا بأن العلماء، سَلَفاً وخَلَفاً، اتَّفقوا على وجوب قتال أهل الكفر ما توافَرَتْ القدرة على ذلك. ويستشهدون بجملة من الآيات القرآنية الكريمة، منها:

ـ «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ» البقرة: 193

ـ «وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» التوبة: 36

ـ ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ البقرة: 286.

ـ ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ الأنفال: 60.

ـ ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ التوبة: 5.

ـ ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾ الأنفال: 39.

ـ ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ التوبة: 29.

ويصنِّف أتباع السلفية الجهادية الكافرين ضمن فئتين: «فإن الكافر إمّا أن يكون معاهَداً؛ أو غير معاهَد. فإنْ كان غير معاهَد فهو مباح الدم والمال؛ وإنْ كان معاهَداً فإن العهد يعصم دمه فترة العهد، ولا تزول عصمة دمه إلاّ بزوال العهد، أو أن يقوم هو بنقض العهد، أو أن ينبذ إليهم عهدهم.

وقال الرسول|: أمرت أن أقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّ الإسلام، وحسابهم على الله.

وقال|: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا مَنْ كفر بالله.

وهذه النصوص وغيرها تبيِّن بجلاءٍ أن علّة قتال الكفار هي كفرهم، فقد رتبت الآيات والأحاديث القتال على كونهم كفاراً. قال القرافي: ظواهر النصوص تقتضي ترتيب القتال على الكفر والشرك… وترتيب الحكم على الوصف يدلّ على عِلِّيَة ذلك الوصف لذلك الحكم، وعدم عِلِّية غيره».

 

تعريف المصطلحات


أـ الجهاد

الجهاد من الجهد لغةً، و«الجَهْدُ والجُهْدُ: الطاقة، تقول: اجْهَد جَهْدَك؛ وقيل: الجَهْد المشقّة، والجُهْد الطاقة. الليث: الجَهْدُ ما جَهَد الإِنسان من مرض أو أَمْر شاق، فهو مجهود؛ قال: والجُهْد لغةً بهذا المعنى…. وجاهَدَ العدوَّ مُجاهَدة وجهاداً: قاتله وجاهد في سبيل الله. وفي الحديث: لا هِجْرة بعد الفتح ولكنْ جهاد ونيَّةٌ؛ الجهاد محاربة الأعداء، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل، والمراد بالنية إخلاص العمل لله أي إنه لم يبْقَ بعد فتح مكة هجرة؛ لأنها قد صارت دار إسلام، وإنما هو الإخلاص في الجهاد وقتال الكفّار»5.

ويقول ابن فارس: «الجَهْدُ والجُهْدُ: الطاقةُ. وقرئ: والذين لا يَجِدون إلاّ جَهْدَهُمْ وجُهْدَهُمْ. قال الفرّاء: الجُهْدُ بالضمّ الطاقةُ. والجَهْدُ بالفتح من قولك: اجْهَدْ جَهْدَكَ في هذا الأمر، أي ابلُغ غايتك.

ولا يقال اجْهَدْ جُهْدَكَ. والجَهْدُ المشقَّةُ. يقال: جَهَدَ دابته وأَجْهَدَها إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها. وجَهَدَ الرجل في كذا أي جَدَّ فيه وبالغ»6؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاَّ جُهْدَهُمْ﴾ التوبة: 79.

أما مصطلح «الجهاد» فقد أحيط بملابساتٍ عدّة نجمَتْ عن إضافات مختلفة عبر التاريخ إلى المعنى الأوّلي لأصل المدلول اللغوي لهذه الكلمة الجهاد؛ إذ كان في استعمالاته الأولى يشير إلى: الأرض المستوية أنبتت أو لم تنبت، والصحراء، والأرض الصلبة… وإلى بذل الجهد للوصول إلى هدفٍ ما… فبات مصطلحاً يشير إلى رزمة من الأعمال التي تتطلَّب الكّدَ والتعب، تشمل الجهاد بالمال والنفس. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ الأنفال: 72، ويقول عزَّ وجلَّ أيضاً: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ التوبة: 20.

ويتّضح من الآيتين أن الدعوة إلى الإسلام كانت تتضمَّن الدعوة إلى بذل للجهد في سبيل الله؛ للوصول إلى رضوانه عزَّ وجلَّ، ولم يتمَّ حصر المعنى بالحرب؛ إذ قدّمت المساهمة المالية في سبيل إحداث التغيير الاجتماعي المطلوب على الجهاد بالنفس.

ب ـ مفهوم السَّلَفية

إن مفهوم السلفية يُعَدّ من المفاهيم التي تحتاج إلى دراساتٍ كافية لتحديد جذوره التاريخية، والمجالات المتعدِّدة التي تمّ استخدامه فيها، وكيفية تطوّر مضمونه منذ نشأته إلى اليوم.

يقول ابن منظور في مادة سلف: «سلف يسلف سلفاً وسلوفاً: تقدّم، والسالف: المتقدم. والسلف والسليف والسلفة: الجماعة المتقدِّمون. وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ﴾. والقوم السلاف: المتقدِّمون. وسلف الرجل: آباؤه المتقدِّمون، والجمع أسلاف وسلاف… والسلف أيضاً: مَنْ تقدَّم من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السنّ والفضل، وأحدهم سالفٌ. وقيل: سلف الإنسان مَنْ تقدَّمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سُمِّي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح».

وعليه فإن مفهوم السلفية «مصطلح ينسحب على الماضي بالكامل، متحصناً بمشروعية موضوعية تقع في صلب التعبير التاريخي السلف الصالح الصيغة الأكثر شيوعاً في المؤلفات والكتب، والأشدّ تداولاً على ألسنة الفقهاء والمحدِّثين، وبالتالي فإن أي حديث عنها سيعني قطعاً التوجُّه نحو الماضي، والتعلُّم منه، والأخذ به».

ويعرّف الشيخ أحمد السكندري في كتابه «السلفية، قواعد وأصول» السلف بأنهم: «الصحابة، والتابعون، وتابعوهم من أهل القرون الخيرية الثلاثة الأول، عدا أهل البدع، كالخوارج، والمعتزلة، والقدرية، والجهمية، وغيرهم من فرق الضلالة. والسلفيون هم الذين يعتقدون معتقد السلف الصالح رضي الله عنهم، وينتهجون منهج السَّلَف في فهم الكتاب والسنة».

السلفية هي منهج إسلامي يدعو إلى فهم الكتاب والسنّة بفهم سلف الأمّة، وهم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، باعتباره يمثِّل نهج الإسلام الأصيل، والتمسُّك بأخذ الأحكام من القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، ويبتعد عن كلّ المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، والتمسّك بما نقل عن السلف. وهي تمثّل في إحدى جوانبها إحدى التيارات الإسلامية العقائدية في مقابلة الفرق الإسلامية الأخرى.

وفي جانبها الآخر المعاصر تمثِّل السلفية مدرسةً من المدارس الفكرية الحركية السنية التي تستهدف إصلاح أنظمة الحكم والمجتمع والحياة عموماً إلى ما يتوافق مع النظام الشرعي الإسلامي بحَسَبْ ما يرَوْنه. برزت بمصطلحها هذا على يد أحمد بن تيمية في القرن الثامن الهجري، وقام محمد بن عبد الوهاب بإحياء هذا المصطلح من جديدٍ في منطقة نجد في القرن الثاني عشر الهجري، وقد كانت الحركة الوهّابية التي أسَّسها من أبرز ممثِّلي هذه المدرسة في العصر الحديث. ومن أهمّ أعلامهم: عبد العزيز بن باز، ومحمد ناصر الدين الألباني، ومحمد بن صالح بن عثيمين، ويعقوب الباحسين.

ويرى الدكتور رضوان السيد أن «السلفية تيار عقدي إسلامي، يهدف في الأصل إلى تصحيح العقيدة والعبادة، وتنقيتهما وتنقية اعتقادات المسلم وممارساته من البدع الموروثة والطارئة. وكما كان الإمام أحمد بن حنبل في القديم، على سبيل المثال، أحد أعلام السلفية الكبار، لكنّها ما كانت مقصورة عليه، فكذلك الأمر في الأزمنة الحديثة والمعاصرة؛ إذ كان الشيخ محمد بن عبد الوهّاب عَلَماً من أعلام السلفية في نجد وشبه الجزيرة العربية، بَيْدَ أن السلفية ما اقتصرت على نجد والجزيرة، بل انتشرت في القرنين الأخيرين في الحجاز واليمن وأفريقيا والهند والمغرب ومصر والشام».

ويرى آخرون أن مسمَّى الحركة السلفية «يعني المدرسة النَّجْدية ذات الجذور الحنبلية، التي أسَّسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد».

أنواع السَّلَفية

تعتبر السعودية المعقل الرئيس للدعوة السلفية المعاصرة، منذ تأسيسها الأول في القرن السابع عشر، والثاني بداية القرن العشرين، حين تزاوجت الدعوة بالدولة، واستثمر الحكّام ذلك خلال النصف الأول من القرن العشرين في توحيد الأراضي السعودية تحت غطاء الشرعية الدينية، ما أدّى إلى توزيع المجالين السياسي والديني بين حكّام السعودية وعلماء السلفية.

تتميّز السلفية في السعودية بطابعٍ فريد، مقارنةً بالدول الأخرى، فإنْ لم يكن هنالك دستور مكتوب للمملكة فإنّ ذلك يعود إلى العلاقة الخاصّة بين الدين والدولة، وتحديداً الدعوة السلفية، منذ لحظة ميلاد الدولة الحديثة في العام 1744؛ إذ تكوَّنَتْ الدولة واكتسبَتْ شرعيتها بتزاوج حكم محمد بن سعود ودعوة محمد بن عبد الوهّاب، وأصبحت الدعوة السلفية ـ الوهابية مكوِّناً أساسياً من مكوِّنات الدولة وشخصيّتها السياسية والتاريخية، وعاملاً مهمّاً في تطوُّرها ووحدتها السياسية.

ولم تختلف الحال مع الميلاد الثاني للدولة في بداية القرن العشرين على يد عبد العزيز بن سعود؛ إذ استعان بشيوخ الدعوة السلفية؛ لبسط سيطرته وسلطته، ومواجهة خصومه، وتعزيز شرعيته السياسية والدينية. وتكرَّست السَّلَفية بوصفها الأيديولوجيا الواقعية للدولة السعودية، فأصبحت المذهب السائد في مختلف شؤون الحياة التعليمية والاجتماعية والثقافية والدينية.

تُرك للدعوة السلفية سلطة الهيمنة على المجال الديني والتأثير في المجال الاجتماعي، وتسييره بما يتوافق مع عقائدها ومبادئها ومواقفها الدينية، فيما ساعدت الدعوة السلفية خلال العقود السبعة الأولى من القرن العشرين على تثبيت الشرعية الدينية للدولة، والتخلّي عن «المجال السياسي» لآل سعود، وخضعت ديناميكية الدولة والحكم لمبدأ تقاسم الأدوار السياسية والدينية بين ذرّية محمد بن سعود وذرّية محمد بن عبد الوهاب وأتباعه.

ليس ثمّة سلفية واحدة، بل سلفيات عدّة، مع مسمَّيات متنوعة: «منها التقليدي، ومنها الإصلاحي، ومنها الجهادي النظري، ومنها الجهادي التكفيري. ومن هنا صعوبة التصنيف والتقسيم التي هي في النهاية مجرّد محاولة منهجية يقتضيها البحث؛ لفهم الظاهرة، وتسهيل دراستها وتحليلها؛ ليتيسّر نقدها وتحديد الطريقة التي يجب التعامل بها معها».

وهناك تقسيمات أخرى لأنواع السَّلَفية، منها: التاريخية أو التقليدية، والتي ارتبطت بتيار «أهل السنّة والجماعة، أو أهل الحديث، والذي اتَّضحت معالمه من خلال الاختلاف الفكري الذي دار مع أهل العقل، أو أهل الرأي من أهل الكلام والفلاسفة والمناطقة، حول المرجعية الشرعية في تأويل النصّ القرآني والحديث بعد وفاة الرسول، حيث رأى الفريق الأوّل أن السَّلَف أصحاب النبيّ هم الوحيدون أصحاب هذا الحقّ، وعلى الخَلَف الرجوع إليهم كأصلٍ في الفهم والسلوك».

السَّلَفية الجهادية

شهد الربع الأول من القرن المنصرم العام 1928 تحديداً ولادة حركة الإخوان المسلمين، وهي جماعة إسلامية قدَّمَتْ نفسها بأنها حركة إصلاحية شاملة، وطرحت مشروعاً فكرياً ـ سياسياً بديلاً عن الأنظمة والأيديولوجيات السائدة، من شيوعية ورأسمالية، واقترحت العودة إلى الإسلام باعتباره الحلّ. «فالعالم كلّه حائر مضطرب، وكلّ ما فيه من النظم قد عجز عن علاجه، ولا دواء له إلاّ بالإسلام. فالإسلام رسالة عالمية فيها حلٌّ لجميع المشاكل والويلات التي كانت الحضارة الرأسمالية والاشتراكية وراءها. إنه قادرٌ على الوقوف في وجه هذه الموجة الطاغية من المادّة التي جرفت الشعوب الإسلامية، فأبعدتها عن زعامة الإسلام، وهداية القرآن».

وفي سنة 1939 أنشأ حسن البنّا تنظيماً عسكريّاً سرّيّاً تابعاً لجماعة الإخوان المسلمين أطلق عليه اسم «النظام الخاصّ». وكان من أهدافه «الجهاد ضدّ الاستعمار الأوروبي، والقيام بالعمليات الفدائية ضدّ أولئك المستعمرين. وبعد العام 1946، ومع تصاعد الهجرات اليهودية إلى أرض فلسطين، جعل النظام الخاصّ قضية فلسطين من أهمّ أهدافه وأعماله». وقد لعب مسلَّحو الجماعة التنظيم الخاصّ دوراً إلى جانب الجيش النظامي المصري في حرب فلسطين في العام 1948، بعد أن قامت الحكومة المصرية بالتصريح للإخوان المسلمين رسميّاً بجمع الأسلحة، وحشد المتطوِّعين، وتكوين مراكز تدريب لهم على مختلف الأسلحة، وتسفيرهم إلى فلسطين.

وفي 14 أبريل/ نيسان 1948 كانت «أوّل معركة للإخوان في فلسطين»، فلمّا جاء شهر مايو/ أيار من ذلك العام، ومع إنهاء الإنجليز انتدابهم على فلسطين، «ظنّ الإخوان أن عهد التضييق والإرهاب قد انتهى بانسحاب الإنجليز، وأنهم يستطيعون الآن إدخال قوّاتهم دون خوفٍ أو وَجَل، وأن الوقت قد آن ليفي مرشدهم العظيم بوعده، فيدخل فلسطين عشرة آلاف مقاتل كدفعةٍ أولى…. ظنّ الإخوان ذلك، ولكن جاءت الحوادث لتخلف ظنَّهم، وتقنعهم بأن سياسة الإنجليز باقيةٌ وإنْ انسحَبَ جنودهم من الميدان…».

وفي هذا المجال يقول محمد مهدي عاكف، الذي كان مرشداً للجماعة: «إن مشاركة الجماعة في حرب فلسطين كان لها الدور الأساس في قرار حلّ الجماعة. فبعد هزيمة الجيوش العربية قرَّر القصر الحاكم في مصر حلَّ جماعة الإخوان المسلمين، واعتقال جميع الإخوان. وقام الجيش المصري باعتقال مجاهدي الإخوان من فلسطين حتّى مصر، وذلك بتدبير من سفراء إنجلترا وأميركا وفرنسا، الذين طلبوا ذلك من النقراشي حين اجتمعوا به في مدينة فايد بمحافظة الإسماعيلية، بحَسَب ما كشفت عنه المحاكمات لاحقاً، واتّهموا الجماعة وقتها بحرق محلاّت اليهود الكبيرة، مثل: «شيكوريل»، على الرغم من أن هذه الأحداث تورَّط فيها الاحتلال؛ لتأليب القصر على جماعة الإخوان المسلمين».

يقول محمد مهدي عاكف عن دور الجهاز الخاصّ ومهمّاته: إنه كان يتركّز على «إعداد نخبة منتقاة من الإخوان للقيام بمهمّاتٍ خاصّة، والتدريب على العمليات العسكرية ضدّ العدو الخارجي، وذلك لمصلحة مصر، وليس ضدّ الداخل»، إلاّ أن ذلك لم يتمّ التقيُّد به من قبل المولجين بمتابعة نشاطاته العملانية، فأصبح «النظام الخاصّ هو التنظيم فوق التنظيم، وازدادت قوّته مع تدفُّق الإخوان العائدين من حرب فلسطين، وتوثُّق الصلات مع ضباطٍ في الجيش كانوا في الحرب على الجبهة أيضاً.

وليس صدفة أن يكون معظم الضبّاط الأحرار بمَنْ فيهم عبد الناصر والسادات قد انتمى في وقتٍ ما إلى النظام الخاصّ للإخوان. وكان طبيعياً أن يلجأ هذا التشكيل العسكري السرّي إلى العنف كوسيلةٍ سياسية نابعة من تكوينه ومن قواه وقوّته، كغيره من مثل هكذا تشكيلات في العالم… ويلفت الانتباه هنا موقف الشهيد حسن البنّا في تعليقه على عمليات الاغتيال والتفجير التي قام بها النظام الخاصّ في عامي 1948 و1949، حين قال كلمته الشهيرة: ليسوا إخواناً، وليسوا مسلمين…».

وعن ظروف تلك المرحلة يشرح محمد مهدي عاكف قائلاً: «النظام الخاصّ تمّ كشفه بشكلٍ كبير في المحاكمات التي قدّمت لها الجماعة في عام 1949، في الوقت الذي لم تكن كافّة قيادات الجماعة تعلم بأمر هذا التنظيم الخاصّ، ما تسبَّب في أزمة بعد كشفه في ما أطلق عليه ثنائية القيادة. لذلك قرَّر الهضيبي إعادة تشكيله، وجعل قيادته مركزيّة تتبع مكتب الإرشاد والمكاتب الإدارية للجماعة بالمحافظات المختلفة. وهذا ما أيَّدَتْه أغلبية القيادات. وبعدها بعامٍ ألغاه المستشار حسن الهضيبي بشكلٍ كامل، على أساس أنه كان نظاماً سرّيّاً، ولا يعرفه إلاّ القليل، ومهمّته انتهت؛ لأنه تمّ إنشاء جهاز علني يدعى الجهاز الوطني لتدريب الناس على الأعمال العسكرية؛ للدفاع عن البلاد».

وعن دور عبد الرحمن السندي، قائد هذا التنظيم، قال عاكف: «إن السندي كان من أخلص وأنشط الإخوان، لذلك قام البنّا بتكليفه بقيادة هذا التنظيم، إلاّ أنه بعد إعادة تشكيل هذا الجهاز على يد الأستاذ الهضيبي أقاله، وعيَّن مكانه الأستاذ أحمد حسنين، وتمرّد وقتها السندي وأحد مساعديه، ويُدْعى أحمد زكي، فجاء أحد الإخوان إلى عاكف، وكان وقتها مسؤولاً عن قسم الطلاب والقسم الرياضي، وقال له: إن السندي وزكي كانا مسؤولين مهمّين بالجماعة، والإخوان لا يعرفونهم، ونريد أن نظهرهم، فقال عاكف: نأتي بأحمد زكي مسؤولاً لقسم الطلاب؛ لأنه كان مدرِّساً، ونضع السندي مسؤولاً لقسم الرياضة، وقال عاكف: وظلَلْتُ أنا وكيلاً للقسمين، إلاّ أنهما لم يصمدا، وعزّ عليهما التعامل مع الهضيبي، وتمرّدا عليه».

ويبدو واضحاً ما آل إليه وضع جماعة الإخوان المسلمين بعد اغتيال البنّا سنة 1949؛ إذ عاشت فترة ارتباك وضياع قيادي، تمكَّن خلالها الضباط الأحرار من استغلال حالة التشوّش الإخواني، فأزاحوهم عن «المسرح السياسي عبر حملة قمع واضطهاد رهيبة» اعتقالات 1954 الأولى، ثم 1958، وصولاً إلى حملة 1964 ـ 1965، التي انتهت بإعدام سيّد قطب ورفاقه في أغسطس/ آب 1966.

وعن أحداث العام 1954، والتي اتّهمت فيها جماعة الإخوان المسلمين بإعادة إحياء التنظيم الخاصّ، قال عاكف: «عرضت على الجماعة عدّة قضايا، وكان لا بُدَّ من قرار، مثل: المشاركة في حربي الجزائر وفلسطين، وكانت مصر في هذا الوقت قبلة للعرب في الشدّة، فتشاورنا بيننا إذا نودي للجهاد ماذا نفعل؟ فتمّ تشكيل ما يسمّى بالفصائل، التي يضمّ كلٌّ منها 40 شخصاً، ولم تكن سرّية، بل عبارة عن أشخاص تدرَّبوا في جهاز الحرس الوطني، وتمّ تدريبهم على أسلحة مختلفة، حتى يكونوا على أهبة الاستعداد لنداء الجهاد».

وإذا كان حسن البنّا هو المؤسِّس لجماعة الإخوان المسلمين فإنّ سيّد قطب الذي التحق بالجماعة بعد سنواتٍ عدّة من اغتيال البنّا يعتبر القائد الفكري والمجدِّد الأبرز في حياة تلك الجماعة. فقطب سافر إلى أميركا عام 1948 في إطار بعثةٍ علمية من وزارة المعارف؛ للتخصُّص في التربية وأصول المناهج. ويرى صلاح الخالدي أن «الهدف الحقيقي لتلك البعثة كان غسل دماغ سيّد قطب، وإقناعه بمناهج الحياة الأميركية»؛ ليعود إلى مصر ـ كما عاد الكثير من المبعوثين ـ داعيةً لأميركا، ومبشِّراً بحياتها وقِيَمها وأعرافها وسلوكها! لكنّ الله ثبَّته على الإسلام… وقد أقام في أميركا سنتين كاملتين، من أغسطس/ آب 1948 إلى أغسطس/ آب 1950، ولما عاد إلى مصر جعل مهمّته الوقوف أمام المخطَّطات الأميركية لاحتواء المنطقة، والهيمنة عليها، واستعمارها ثقافياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً وإعلامياً وسلوكياً، يُحذِّر من التبعية لها، ويدعو إلى الانحياز إلى الإسلام، وتطبيقه بصدقٍ، والانطلاق منه لمواجهة أميركا وغيرها من الأعداء».

إذن لم ينبهر سيّد قطب بالحضارة الأميركية، ووجدها خالية من أيّ مذهبٍ أو قِيَم جديدة. ويقول: «بعض هؤلاء كانوا يواجهوننا ـ نحن القلائل المنتسبين إلى الإسلام ـ في أميركا ـ في السنوات التي قضيتُها هناك ـ. وكان بعضنا يتّخذ موقف الدفاع والتبرير… وكنتُ على العكس أتَّخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية…، سواء في معتقداتها الدينية المهلهلة، أو في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المؤذية… وكانت هذه حقائق نواجهها في واقع الحياة الغربية… وهي حقائق كانت تخجل أصحابها حين تعرض في ضوء الإسلام…».

لقد وجد سيّد قطب ضالّته في الدراسات الاجتماعية المستندة إلى القرآن الكريم، حيث اتجه إليها «بعد فترة الضياع الفكري والصراع النفسي بين التيارات الثقافية الغربية. ويصف قطب هذه الحالة بأنها اعترَتْ معظم أبناء الوطن؛ نتيجة للغزو الأوروبي المطلق. ولكنّ المرور بها مكَّنه من رفض النظريات الاجتماعية الغربية، بل إنه رفض أن يستمدّ التصوُّر الإسلامي المتكامل عن الألوهية والكون والحياة والإنسان من ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم؛ لأن فلسفتهم ـ في رأيه ـ ظلال للفلسفة الإغريقية».

إلاّ أن قطب اتَّجه نحو الفكر السَّلَفي الوهّابي، مستلهماً منه بعض مضامينه المتشدِّدة في النواحي الفكرية، خصوصاً «مفهوم الولاء والبراء. واستحضر بعض فتاوى ابن تيمية وابن القيِّم الجوزية، وأضاف إليها بعض المفاهيم التي روَّج لها أبو الأعلى المودودي، مثل: جاهلية المجتمعات، وحاكمية الله، وعمل على تأصيلها في الفكر الإخواني، وقام بنشر أفكار المودودي في العالم العربي، بعد أن ترجم له كتاب ماذا خسر العالم بتخلُّف المسلمين؟، ودعا إلى الرجوع إلى الله، الذي له صورةٌ واحدة»34.

ورأى سيّد قطب أن الشعب الأميركي يدفع ثمن المادية، وأنه يعيش عقوبة الفطرة. فاستخدم ذلك الواقع نموذجاً لكلّ مَنْ خرج عن منهج الله، واتَّبع هواه. وصار يُحَذِّر الناس من هذا الطريق، ويبصِّرهم ببشاعة المصير، ويقول: إنه «لا بُدَّ من قيادة للبشرية جديدة… إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشَكَتْ على الزوال.. لا لأن الحضارة الغربية قد أفلسَتْ مادّياً، أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية…، ولكنْ لأن النظام الغربي قد انتهى دوره؛ لأنه لم يعد يملك رصيداً من القِيَم يسمح له بالقيادة».

ولم يَرَ سيّد قطب أن المعسكر الاشتراكي الشرقي آنذاك كان أفضل حالاً من المجتمعات الليبرالية الغربية. «…فالنظريات الاجتماعية، وفي مقدّمتها الماركسية، التي اجتذبت في أوّل عهدها عدداً كبيراً في الشرق، وفي الغرب نفسه؛ باعتبارها مذهباً يحمل طابع العقيدة، قد تراجعت هي الأخرى تراجعاً واضحاً من ناحية الفكرة، حتى لتكاد تنحصر الآن في الدولة وأنظمتها التي تبتعد بُعْداً كبيراً عن أصول المذهب… وهي على العموم تناهض طبيعة الفطرة البشرية ومقتضياتها، ولا تنمو إلاّ في بيئةٍ محطّمة، أو في بيئة ألفت النظام الدكتاتوري فترات طويلة…».

وعلى هذا الأساس؛ وبسبب الفشل في النظامين الغربي والشرقي، قال سيّد قطب: إن الحلّ يكمن في الإسلام؛ لأنه لا بُدَّ من قيادة تمتلك القِيَم التي تجعلها تحرص على الاستفادة من الإبداع المادي الذي أنتجته العبقرية الأوروبية، و«تزود البشرية بقيم جديدة جدّة كاملة ـ بالقياس إلى ما عرفته البشرية ـ، وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته.

والإسلام وحده هو الذي يملك تلك القيم، وهذا المنهج»… كما أن اعتماد المنهج الإسلامي الصحيح يتيح إخراج البشرية من جاهليتها، من خلال «العودة بالحياة كلّها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم. إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها، وإلاّ فهو الفساد في الأرض، والشقاوة للناس»… فإبعاد الإسلام عن قيادة البشرية جمعاء فيه ظلمٌ كبير يرتكب بحقّ العباد في كلّ أنحاء المعمورة، وهو السبب الكامن وراء النَّكَبات التي تجتاح الأرض.

ويختتم قطب كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» بهذه النبوءة: «إن الصراع الحقيقي في المستقبل لن يكون بين الرأسمالية والشيوعية… ولكنّه سيكون بين المادّية المتمثِّلة في الأرض كلّها وبين الإسلام، أو بتعبيرٍ أصحّ وأدقّ: سيكون بين النظام الذي يجعل العبودية لله وحده… وبين سائر الأنظمة الأرضية، التي تقوم على أساس من عبودية العباد للعباد».

كذلك فإن سيد قطب يعتبر من أوائل منظِّري فكر السَّلَفية الجهادية، وذلك منذ ستينيات القرن العشرين، حيث تبلورت تلك الأفكار في السجون المصرية. «وبسبب التعذيب الرهيب الذي صار مضرب الأمثال في العالم…، والإرهاب الذي مارسته السلطة ضد الإخوان وعائلاتهم، نمَتْ وتطوَّرَتْ أفكار الردّ على العنف بالعنف، وصولاً إلى استعادة فكر ابن تيميّة حول الجهاد ضدّ الحكّام الكَفَرة… في الفترة نفسها كان فكر المودودي حول الحاكمية الإلهية، وحول تقسيم العالم إلى: دار إسلام؛ ودار كفر وحرب، وحول الجهاد ضدّ مَنْ لا يحكم بما أنزل الله، والذي حمل سِمة قومية باكستانية خاصّة بالتجربة ضدّ الهندوس وضدّ الآخر، المختلف والمعادي للإسلام… كان هذا الفكر يُقرأ ويُدرس في حلقات السجون المصرية، ويمتزج بمرارة المساجين وعذاباتهم».

لقد طغى في وسائل الإعلام مصطلح «السلفية الجهادية» للتدليل على التيار الجهادي العالمي، إلاّ أن أصحابه لا يرَوْنه دقيقاً، خصوصاً أن ترويجه ينطوي على حصر له في أطرٍ ضيِّقة، وهم وإنْ كانوا يعترفون بأن الوهابية تمثِّل أحد المصادر الشرعية والتاريخية للفكر الجهادي العالمي، إلاّ أنّها ليست المصدر الوحيد له.

وبناءً عليه «ليست السَّلَفية الوهابية الجهادية هي التيار الجهادي العالمي، ولا هي المخوَّلة التحدُّث باسمه. كما أن التيار الجهادي أوسع، في مرجعياته ومكوّناته، من أيّ مرجعية منفصلة.

والحقيقة أن التصاق تعبير السَّلَفية بالتيار الجهادي العالمي يمكن ردُّه إلى عدّة أسباب، منها:

«كثرة منتسبيه من الجزيرة العربية، وخاصّة من السعودية، إثر دخول الدولة على خطّ الجهاد الأفغاني الأوّل، ودعمها لعديد القوى المنخرطة فيه، وتوفير الغطاء المادّي والإعلامي له، وحتّى الشرعي.
تبنّي الكثير من علماء السعودية للمشروع الجهادي، ممَّنْ ذاع صيتهم في الأوساط الجهادية والإعلامية.

والحقيقة أن اهتمام الجهاديين بالوهّابية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، والتركيز على تراثها، برز بشكل لافتٍ عقب أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، وما تبعها من دخول شيوخ نجديين على الخطّ الجهادي؛ إذ كان لهؤلاء اهتمام بالغ بتراث أئمّة الدعوة النجدية، خصوصاً علي الخضير وأحمد الخالدي، حيث تعجّ مؤلَّفاتهما بكثرة الإحالات إلى والنقل عن تراث أئمّة الدعوة، ممّا ينبئ عن استظهارهما لتلك الرسائل.

الاسترشاد بالدعوة السَّلَفية الوهّابية كمنهجٍ علمي وعملي، والنظر إلى كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهّاب كأحد المراجع الرئيسة للتيار الجهادي العالمي، ومن بعده رسائل أئمّة الدعوة النجدية، وخاصّة الدرر السنيّة. فبعد الجهاد الأفغاني أضحى التراث الوهّابي مصدراً رئيساً أُضيف إلى مصادر التراث المعرفي الجهادي، ممثّلاً بفتاوى ابن تيمية وتلاميذه، وسيّد قطب، ومحمد قطب، وعبد الله عزّام».

يشير أبو محمد المقدسي إلى مسألة التسمية، وعلاقة هذا المصطلح بالجماعات السلفية الجهادية الأخرى، فيقول بأن تلك التسمية كانت نَعْتاً أطلقه الناس عليهم؛ بسبب «تمسُّكهم بما كان عليه السَّلَف الصالح من الاعتقاد والعمل والجهاد. فالسَّلَفية الجهادية تيّارٌ يجمع بين الدعوة إلى التوحيد بشموليته والجهاد لأجل ذلك في آنٍ واحد، أو قُلْ: هو تيّارٌ يسعى لتحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت… فهذه هي هوية التيار السلفي الجهادي، والتي تميِّزه عن سائر الحركات الدعوية والجهادية».

وهكذا يظهر من كلام المقدسي أن التيار السلفي «يخالف هؤلاء وأولئك، ومن أجل ذلك فهو يدعو إلى التوحيد بشموليته وفي كلّ مكانٍ، فحيث وجد الخلق شرعت دعوتهم إلى التوحيد بشموليته، وحيث وجدت هذه الدعوة وجد الجهاد من أجلها وفي سبيلها… ولذلك فأنت ترى أن هذا التيّار لا يحصر جهاده في بقعة معينة من الأرض من منطلقات قومية أو أرضية، بل ميدانه هي الأرض كلّها، فتجد أبناءه يجاهدون في شتّى بقاع الأرض… فرق بين الاجتهادات النابعة من السياسة الشرعية وبين الثوابت والأصول النابعة عن الوطنية أو نحوها من الموازين الجاهلية».

يتبين ممّا تقدَّم أن هناك تأثُّراً وتأثيراً متبادلاً ما بين الجماعات الإسلامية الناشطة في الميدان السياسي خلال القرن المنصرم. وتظهر بصمات الشيخ حسن البنا واضحة في كلّ التنظيمات السياسية الإسلامية على الصعد التنظيمية والمنطلقات الفكرية. كما أن أفكار وآراء أبي الأعلى المودودي كانت بمثابة المدماك الأساس الذي بُنيت عليه تلك الجماعات. يقول الدكتور حسن الترابي في معرض تحليله للعودة إلى الدين: «فانبعثت جماعات في كلٍّ من بلاد الإسلام تنشد إحياء الإيمان بالتزكية والتذكير، أو إشاعة الفقه بالعلم أو الاجتهاد، أو تنشيط العمل الإسلامي في بعض جوانب الحياة، وكان ذلك أكمل ما كان في دعوة الإمام الشهيد حسن البنّا وحركة الإخوان المسلمين في مصر، وفي دعوة الإمام أبي الأعلى المودودي وحركة الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهنديّة.

لقد كانتا حركتين استهدفتا مختلف أهداف الدين، وأتمّتا وظيفة الإرشاد بالبناء الحركي، وأتمّتا التعبئة بالتربية. وتداعى مع هاتين الحركتين أئمّة وجماعات في بلادٍ شتّى. وقد أعطى هاتين المحاولتين بُعْداً أكثر تأصيلاً ودقّةً وشمولاً على الحركات والتنظيمات الإسلامية المعاصرة سيّد قطب 1906 ـ 1966، الذي منح حركات الإسلام السياسي سنداً فكرياً، ومدداً حركياً، حيث أصبح كتابه معالم في الطريق هو دستور العمل عند الجماعات الإسلامية المعاصرة»

ـ يتبع ـ

 

المصدر: مجلة الاجتهاد والتجديد ، عدد 34

 

د. السيد أحمد سادات *

 

* حائزٌ على دكتوراه في الدراسات الإسلامية الفكر السياسيّ، وأستاذٌ محاضِر بكلّية دراسات العالم ـ جامعة طهران. من إيران.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأحد 30 إبريل 2017 - 11:39 بتوقيت مكة