بناء الشخصيّة الوحدويّة: منهج ومسارات

الأحد 16 إبريل 2017 - 08:55 بتوقيت مكة
بناء الشخصيّة الوحدويّة: منهج ومسارات

كيف يُمكن لنا أن نجعل القرآن الكريم والسنّة الشّريفة أساساً لوحدتنا الإسلاميَّة؟ فهل إنَّ القرآن والسنّة يقدّمان لنا الدّواء الشّافي من كلّ أمراض التفرّق؛ وبالتّالي يكفي الرجوع إلى الآيات والروايات التي تحثّ المسلمين على الوحدة وعدم التفرّق وعدم التنازع لكي تُحلّ المشكلة؟

ألم يُصبح النصّ القرآني والنبوي بذاته جزءاً من خصوصيّاتنا المذهبيّة؛ عندما ساهمت الذهنيّة المذهبيّة في إخراج جزءٍ من المسلمين من قبل هذا الفريق أو ذاك؛ بحيث لم يعد الآخر مسلماً أو مؤمناً ليكون معنيّاً بالخطاب الموجّه إلى المسلم أو المؤمن؟

بالتالي؛ أليست المشكلة هي مشكلة معقّدة؛ وما لم نعِ خطوطها، فإنّه لن يكون بإمكاننا مقاربة قضيّة الوحدة الإسلاميّة مقاربة مجدية ومنتجة.

لذلك، فقد لا يكون صحيحاً الاقتصار في تعزيز فكرة الوحدة الإسلاميّة من خلال الاقتصار على استحضار النصّ الديني، القرآني والسنّتي، الّذي يحثّ على الوحدة؛ لأنّ هذا الخطاب إنّما يؤكّد الفكرة وضرورتها في البُعد المعرفيّ التأسيسي، والشّعوري المبدئي، ولا يعالج المسألة في مستوى الآليّات الكفيلة.

وما ينبغي أن نبحث عنه، هو كيف نبني الشخصيّة الوحدويّة من خلال القرآن الكريم والسنّة الشريفة. وبناء الشخصيّة الوحدويّة يتطلّب سدّ الفجوات أو الحاجات المعرفيّة من جهة، والشعوريّة من جهة ثانية، وعلى مستوى العلاقات من جهة ثالثة، وعلى مستوى القضايا السياسيّة للمسلمين من جهة رابعة؛ وهكذا، حتّى نجد أنّ بناء الشخصيّة الوحدويّة لا يُمكن أن يمرّ إلا عبر بناء الشخصيّة الإسلاميّة، التي يكون الإسلام هو الأساس في منهج بنائها العقيديّ، وقواعد تفكيرها الفقهيّ، وخطوط ممارستها الأخلاقيّة، وحركتها السياسيّة، وما إلى ذلك.

وسنحاول أن نعرض في ما يلي لعدَّة مسارات ينبغي أن تشكِّل الخطوات الأولى في طريق بناء الشخصيّة الإسلاميّة الوحدويّة:

- الابتعاد عن مذهبة العناوين القرآنيّة الجامعة؛ كعنوان "المؤمن" و"المسلم"؛ لأنّه، وخلال استغراقنا في حالاتنا المذهبيّة والعصبيّة، ضيّقنا دائرة النصّ القرآني؛ فأصبح من يختلف معنا في المذهب خارج دائرة الإيمان؛ لأنّ بعض خطوط الاختلاف العقديّ جعلته في دائرة الفسق، أو خارج دائرة الإسلام؛ لأنّ بعض هذه الخطوط جعلته في دائرة الكفر. وهذا الأمر واجهناه فعلاً؛ وهو يلقي بظلاله على التنظير الأخلاقي من جهة؛ لأنّه يجعل بالإمكان غيبة المسلمين لبعضهم البعض على أساس الاختلاف المذهبي؛ لأنّ الخطاب موجّه للذين آمنوا وهو ليس مؤمناً؛ وكذلك التجسّس والسبّ واللّعن وما إلى ذلك ممّا ورد النهي عنه في الكتاب والسنّة. كما يُلقي بظلاله على الحركة السياسيّة تجاه القضايا الكُبرى التي تعنينا كمسلمين؛ فالكثيرون قد لا يتفاعلون مع حركات التحرّر إلا إذا كانت موافقة للمذهب، ونحن غير معنيّين، على مستوى الشّعور والموقف، بما يجري على بعض المسلمين في موقع إسلاميّ، بالمستوى نفسه الذي نكون معنيّين فيه إذا كانوا موافقين لنا في خطّنا المذهبي.

- تأكيد أنّ الخلفيّة التي نبني عليها أفكارنا هي الحقّ. وارتباطنا بالحقّ لا يكون بالعناوين العامّة؛ لأنّ مسألة الحقّ هي مسألة موضوعيّة تتمظهر في مفردات الواقع الجزئيّة، وهنا قد يكون العنوان حقًّا ولكنّ المضمون باطلًا، وقد تكون بعض المضامين التي يلتزم بها الإنسان تمثّل الحقّ، ولكنّ مضامين أخرى تمثّل الباطل. وعلى سبيل المثال، يقال إنّ المجتهد إذا أخطأ فله أجرٌ وإذا أصاب فله أجران. مثل هذه المقولة مبنيّة على فكرة أنّ الإنسان قد يكون معذورًا في اتّباع سلوكٍ ما، ولكنْ ليس بالضّرورة أن يمثّل هذا السّلوك الحقّ في عالم الواقع، أو في علم الله تعالى. واستنادًا إلى ذلك، فإنّ للحقّ وسائله وأدواته وخطوطه يُكتشف من خلالها وبواسطتها؛ فلا يُمكن حينئذٍ أن أرفض فكرةً ما لأنّها من جُملة معتقدات الخصم المذهبي، أو أن أقبل فكرةً لمجرّد أنّها مشهورةٌ لدى فريقي المذهبي؛ لأنّ معنى ذلك أنَّني أرتبط بالباطل هنا وهناك؛ لأنَّ الله يقول: {فذلكم الله ربّكم الحقّ فماذا بعد الحقّ إلا الضّلال فأنّى تُصرفون}[يونس: 32].

- الابتعاد عن التقسيمات الفقهيّة المعروفة؛ فهناك الفقه الشيعي، والفقه السنّي، وفي إطارهما الفقه الزيدي والإمامي والحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والظاهري وما إلى ذلك؛ إذ إنَّ أحداً لا ينطلق في ذلك من خصوصيّته السنّية بالمعنى الذاتي للصفة، أو من خصوصيّته الشيعية كذلك، بل من فهم معيّن لآية قرآنيّة أو لحديث نبويّ، ولم ينطلق الشيعة في ما أسّسوه من آراء أو ما رفضوه منها، إلا لاعتقادهم بأنّ ذلك يمثّل الإسلام، ولم ينطلق السنّة فيما أسّسوه أو رفضوه، إلا لاعتقادهم بأنّ هذا يمثّل الإسلام، ولكلّ منهم دليله المبني على قواعد عامّة وعلى مفردات استدلاليّة؛ وهذا كلّه يُمكن أن يكون موضوعاً للبحث العلمي المنفتح، لا على طريقة الفقه المقارن الّذي يحتفظ فيه كلّ فقه بخصوصيّته، ويسجّل فيه نقطة لحسابه على الخصم، بل أن ينطلق التّفكير في الفضاء العلمي الإسلامي، في كلّ ما يُترقَّبُ أن يكون دليلًا شرعيًّا يمثّل الحجّة، وتكون النّتيجة أن يلتزم الإنسان بما تفرضه عليه الحجّة، لا المسمّيات الفقهيّة هنا أو هناك.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنَّ اعتماد المسلمين الشّيعة لأحاديث أئمّة أهل البيت(ع)، كانت على أساس أنّ حديثهم يمثّل حديث رسول الله، وليس شيئاً من خارج دائرة السنّة النبويّة. طبعًا هذه نقطة معقّدة بحسب ما يفرضه علم الحديث أو الرجال هنا وهناك، ولكنّ من المهمّ التأكيد أنّه ليس من المنطق العلمي السليم، أن يتمّ التعامل معها كمعطيات يمكن أن تسهّل عملية الفهم أو تحدِّد بعض الإشكاليات التي تحسّن من عملية الاجتهاد الفقهي.

من نافل القول أنّ هذا يفرض انفتاح باب الاجتهاد على مصراعيه في كلّ المذاهب الإسلاميّة، والانعتاق من تأثير الأفكار المسبقة في كلّ المجالات العلميّة؛ وبهذا نستطيع أن نختبر عمليّاً حركة الاختلاف في داخل الدّائرة الإسلاميّة لا من خارجها؛ وهذا ما من شأنه أن يؤدِّي إلى اختبار التقارب الحقيقي، والابتعاد عن قضيّة التكفير والاستبعاد خارج الدّائرة الإسلاميّة دونما اختبار عملي للأفكار وحركتها؛ لأنّ حركة التّكفير إحدى أهمّ أسبابها هو الجهل بما عند الآخر، وعدم النّظر إلى المسألة الفقهيّة من غير الزاوية المذهبيّة.

- تأكيد البُعد الإسلامي للقضايا السياسيّة الاستراتيجية، عبر التّأصيل الفكري والفقهي لها، استناداً إلى قواعد الفكر والفقه الإسلاميّين؛ وهذا ما من شأنه أن يمنح القضيّة امتدادها في الوجدان الإسلاميّ، بعيداً من الحالة المذهبيّة التي قد تجتذبها خطوط السياسة الاستكباريّة.

وكمثال على ذلك، رأينا كيف أنّ الاستكبار العالمي يعمل على تأكيد شيعيّة المقاومة الإسلاميّة في لبنان، وعلى سنّية المقاومة الإسلاميّة في فلسطين، وعلى سنّية أو شيعية المقاومة في العراق، أو على شيعيّة الدولة الداعمة لحركات المقاومة، أو على سنّية الجهات التي تقف في وجه المقاومة، بحيث يجتذب كلّ ذلك الفريق المتأثّر بالحالة المذهبيّة، بما قد يؤثّر سلباً على تبنّي القضيّة الكُبرى؛ بدءاً من فلسطين (القضيّة الإسلاميّة المركزيّة) مروراً بقضايا التحرير، إلى قضايا التحرّر الدّاخليّ، وما إلى ذلك.

- عدم الاستغراق في الجانب العقدي على حساب الجانب الشّرعيّ والقيميّ على مستوى الالتزام؛ لأنّنا لو رجعنا إلى القرآن وإلى السنّة، لرأينا أنّ الأمور المرتبطة بالروحيّة والذهنيّة والسّلوك، هي أكثر ما يركّزان عليه؛ فكم نروي كمسلمين قول النبيّ(ص): "المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يشتمه"، "لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله"، "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، "المسلمون يدٌ على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم"، "المسلمون إخوة، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى"، "المسلمون كالرّجل الواحد، إذا اشتكى عضو من أعضائه تداعى له سائر جسده". وعن الإمام محمّد الباقر(ع) قال: "أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصّوم والصّلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن النّاس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء...". قال جابر (أحد أصحابه): يابن رسول الله، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصّفة، فقال: "يا جابر، لا تذهبنّ بك المذاهب. حسب الرّجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولّاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً؟! فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله، فرسول الله خير من عليّ، ثم لا يتبع سيرته، ولا يعمل بسنّته، ما نفعه حبّه إياه شيئاً؛ فاتّقوا الله، واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه، أتقاهم وأعملهم بطاعته... والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجّة. من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً لهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع".

واليوم، لنا أن نتساءل حول واقعنا: أين تقييمنا لسنّيتنا وشيعيّتنا في تولّينا لزعمائنا وأحزابنا وحركاتنا ودولنا وما إلى ذلك؟ وأين استنادُنا لقواعدنا الفقهيّة والأخلاقيّة في النظر إلى الآخرين في كلّ تلك العناوين؛ فهل الإسلام مجرّد انتماء إلى مدرسة الخلافة أو الإمامة؟ أو هو سلوك وعمل ومنهج وخطّ، يأخذ من الانتماء العقديّ زخمه وأصوله الأساسيّة، مع أنّها بنظر كلّ فريق، تمثّل الإسلام في خطوطه العمليّة؟!

* السيد جعفر فضل الله

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأحد 16 إبريل 2017 - 08:33 بتوقيت مكة