مشهد ابي الفضل العباس (ع)
مما لا شك فيه ان الامام الشهيد أبا عبد الله عليه السلام لم يترك القتلى في حومة الميدان وانما كان يأمر بحملهم الى الفسطاط الذي يقاتلون دونه وهذا وان لم نجده صريحاً في كل واحد من المستشهدين الا ان التأمل فيما يؤثر في الواقعة يقتضيه وان طبع الحال يستدعيه ويؤيده ما في البحار من حمل الحر حتى وضع بين يدي الحسين وعند سقوط عليّ الأكبر امر الحسين فتيانه ان يحملوه الى الفسطاط الذي يقاتلون دونه وقد حمل القاسم بنفسه المقدسة حتى وضعه مع ابنه الأكبر وقتلى حوله من أهل بيته . هذا لفظ ابن جرير وابن الاثير ومن البعيد جداً أن يحمل سيد الشهداء أهل بيته خاصة الى الفسطاط ويترك اولئك الصفوة الاكارم الذين قال فيهم «لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي» ففضلهم على كل احد حتى على اصحاب جده وأبيه وان كل احد لا يرضى من نفسه هذه الفعلة بذلك السيد الكريم الذي علم الناس الشمم والاباء والغيرة . على ان الفاضل القزويني يحكي في تظلم الزهراء ص 118 عن غيبة النعماني ان أبا جعفر الباقر عليه السلام يقول كان الحسين يضع قتلاه بعضهم مع بعض ويقول قتلة مثل قتلة النبيين وآل النبيين . نعم مما لا شك فيه انه عليه السلام ترك اخاه العباس في محل سقوطه قريباً من المسناة لا لما يمضي في بعض الكتب من كثرة الجروح وتقطع الاوصال فلم يقدر على حمله(1) لان في وسع الامام أن يحرك ذلك الشلو المبضع الى حيث أراد ومتى شاء . ولا لما قيل امن ان العباس اقسم عليه بجده الرسول ان يتركه في مكانه لأنه وعد سكينة بالماء ويستحي منها(2) لعدم الشهاد الواضح على كل منهما . بل انما تركه لسر دقيق ونكتة لا تخفى على المتأمل ومن له ذوق سليم ولولاه لم يعجز الامام عن حمله مهما يكن الحال وقد كشفت الايام عن ذلك السر المصون وهو ان يكون له مشهد يقصد بالحوائج والزيارات وبقعة يزدلف إليها الناس وتتزلف الى المولى سبحانه تحت قبته التي تحك السماء رفعة وسناء فتظهر هنالك الكرامات الباهرة وتعرف الامة مكانته السامية ومنزلته عند الله فتقدره حق قدره وتؤدي ما وجب عليهم من الحب المتأكد والزورة المتواصلة ويكون عليه السلام حلقة الوصل بينهم وبين الله تعالى وسبب الزلفى لديه . فشاء المهيمن تعالى شأنه وشاء وليه وحجته أن تكون منزلة أبي الفضل الظاهرية شبيهة بالمنزلة المعنوية الاخروية فكان كما شاءا وأحبا . ولو حمله سيد الشهداء الى حيث مجتمع الشهداء في الحائر الاقدس لغمره فضل الامام الحجة عليه السلام ولم تظهر له هذه المنزلة التي ضاهت منزلة الحجج الطاهرين خصوصاً بعدما اكد ذلك الامام الصادق عليه السلام بافراد زيارة مختصة به واذناً بالدخول الى حرمه الاطهر كما شرع ذلك لائمة الهدى غير ما يزار به جميع الشهداء بلفظ واحد وليس هو الا لمزايا اختصت به . وقد ارشدتنا آثار أهل البيت على هذا الموضع من مرقده الطيب ففي كامل الزيارة لابن قولويه ص 256 بسند صحيح عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق عليه السلام قال إذا أردت زيارة العباس بن علي وهو على شط الفرات بحذاء الحير فقف على باب السقيفة وقل سلام الله وسلام ملائكته الخ . وحكى المجلسي أعلى الله مقامه في مزار البحار عن الشيخ المفيد وابن المشهدي زيارة اخرى له في هذا المشهد الذي أشار إليه الصادق برواية غير مقيدة بوقت من الاوقات . وهكذا حكي عن المفيد والشهيد والسيد ابن طاووس في زيارة النصف من رجب وليلة القدر ويومي العيدين ومثله العلامة النوري في (تحية الزائر) . وعبارة المفيد في الارشاد صريحة فيما نصت به رواية ابي حمزة الثمالي فانه قال عند ذكر من قتل من آل الحسين «وكلهم مدفونون مما يلي رجلي الحسين في مشهده حفر لهم حفيرة والقوا فيها جميعاً الا العباس بن علي فانه دفن في موضع مقتله على المسناة بطريق الغاضرية وقبره ظاهر وليس لقبور اخوته واهله الذين سميناهم اثر وانما يزورهم الزائر من عند قبر الحيسن ويومي الى الارض التي نحو رجليه بالسلام عليهم وعلى ابن الحسين في جملتهم ويقال انه اقربهم دفناً الى الحسين فاما اصحاب الحسين الذين قتلوا معه فانهم دفنوا حوله ولسنا نحصل لهم اجداثاً على التحقيق ، الا انا لا نشك ان الحائر محيط بهم» . وعلى هذا مشى العلماء المحققون والمنقبون في الآثار من كون مشهده بحذاء الحاير الشريف قريباً من شط الفرات نص عليه الطبرسي في اعلام الورى 147 والسيد الجزائري في الانوار النعمانية ص 344 والشيخ الطريحي في المنتخب والسيد الداودي في عمدة الطالب ص 349 وحكاه في رياض الاحزان ص 39 عن كامل السقيفة . وهو الظاهر من ابن ادريس في السرائر والعلامة في المنتهى والشهيد الاول في مزار الدروس والاردبيلي في شرح الارشاد والسبزواري في الذخيرة والشيخ آغا رضا في مصباح الفقيه فانهم نقلوا كلام المفيد ساكتين عليه.
ملاحظة تقدم في نقل البحار ان الحر الرياحي حمل من الميدان ووضع امام الحسين وعليه يكون مدفوناً في الحاير الاطهر ولكن في الكبريت الاحمر ج 3 ص 124 جاءت الرواية عن مدينة العلم للسيد الجزائري ان السجاد دفنه في موضعه منحازاً عن الشهداء وفي ص 75 ذكر ان جماعة من عشيرته نقلوه عن مصرع الشهداء لئلا يوطأ بالخيل الى حيث مشهده ويقال ان امه كانت معه فأبعدته عن مجتمع الشهداء . وإذا صحّ حمل العشيرة اياه الى حيث مشهده فلا يتم ما في مدينة العلم من دفن السجاد له فانه من البعيد جداً ان تحمله العشيرة ثم تترك عميدها في البيداء عرضة للوحوش بل لم يعهد ذلك في أي امة وملة . وعلى كل فهذا المشهد المعروف له مما لا ريب في صحته للسيرة المستمرة بين الشيعة على زيارته في هذا المكان وفيهم العلماء والمتدينون ويظهر من الشهيد الاول المصادقة عليه فانه قال في مزار الدروس (واذا زار الحسين فيزر علي بن الحسين وهو الأكبر على الاصح وليزر الشهداء واخاه العباس والحر بن يزيد) ووافقه العلامة النوري في اللؤلؤ والمرجان ص 115 واعتماد السلطنة محمد حسن المراغي من رجال العهد الناصري في حجة السعادة على حجة الشهادة 56 طبع تبريز . وقال المجلسي في مزار البحار عند قوله عليه السلام في زيارة الشهداء العامة (فان هناك حومة الشهداء) المراد منه معظمهم او أكثرهم لخروج العباس والحر عنهم ويشهد له ما في الانوار النعمانية ص 345 ان الشاه اسماعيل لماملك بغداد وزار قبر الحسين وبلغه طعن بعض العلماء على الحر أمر بنبشه لكشف الحقيقة ولما نبشوه رآه بهيئته لما قتل ورأى على رأسه عصابة قيل له انها للحسين فلما حلها نبع الدم كالميزاب وكلما عالج قطعة بغيرها لم يتمكن فاعادها الى محلها وتبينت الحقيقة فبنى عليه قبة وعين له خادماً واجرى لها وقفاً .
الحائر جاء في حديث الصادق عليه السلام لفظ الحير فانه قال : «وهو على شط الفرات بحذاء الحير» والحير بالفتح فالسكون كالحائر هو المكان المنخفض الذي يسيل إليه ماء الامطار ويجتمع فيه(3) وفي تاج العروس بمادة حور . الحائر اسم موضع فيه مشهد الامام المظلوم الشهيد أبي عبد الله الحسين . ولم تحدث التسمية بالحائر من استدارة الماء حول القبر المقدس حين اجري عليه بأمر المتوكل العباسي لان لفظ الحائر والحير وقع في لسان الصادق والكاظم قبل استخلاف المتوكل . نعم ان الله سبحانه أكرم حجته ووليه المذبوح دون دينه القويم ممنوعاً من ورود الماء الذي جعل شرع سواء لعامة المخلوقات باستدارة الماء حول قبره يوم اجري عليه لاعفاء أثره ومحو رسمه (ولن يزداد أثره الا علواً) . ولقد شعت هذه الآية الباهرة فاستضاءت منها الحقف والاعوام واهتزت لها الاندية والمحافل ارتياحاً وتناقلها العلماء المنقبون في جوامعهم منهم الشهيد الاول في الذكرى والاردبيلي في شرح الارشاد والسبزواري في الذخيرة والشيخ الطريحي في المنتخب والشيخ المحقق في «الجواهر» . وكم لآل الرسول من براهين كاثرت النجوم بكثرتها وقد اجتهد أهل العناد في اغفالها او افتعال نظائرها لأئمتهم حقداً وحسداً «ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره»(4).
ومن يباريهم وفي الشمس معنى
مجهد متعـب لمـن بـاراها
ورثـوا مـن محمد سبق أولا
ها وحازوا ما لم تحز اخراها
قـادة علمهم ورأي حجاهم
مسمعاً كل حكمة منظراها
علماء أئمة حكماء
يهتدي النجم باتباع هداها
يتحدث اليافعي في مرآة الجنان ج 4 ص 273 عن كرامة لاحمد بن حنبل فيقول زادت دجلة زيادة مفرطة حتى خربت مقبرة أحمد بن حنبل سوى البيت الذي فيه ضريحه فان الماء دخل في الدهليز علو ذراع ووقف بإذن الله وبقيت البواري عليها الغبار حول القبر صح الخبر . هكذا يرتاح لهذه الكرامة ويصحح الخبر ولكنه يتوقف عن اثبات تلك الكرامة لسيد شباب أهل الجنة وفلذة كبد الاسلام وريحانة النبي الأعظم . وما ادري بماذا يعتذر يوم جرفت دجلة قبر ابن حنبل ومحت أثره حتى لم يعرف له ضريح الى اليوم(5). وقد اجاد العلامة الشيخ محمد السماوي اذ يقول :
ألا من عذيري يا بني العلم والحجى
من اليافعي الحنبلي المجلل
يكذبني ان قلت قبر ابـن فاطم
عليه استدار الماء للمتوكل
ويزعم حار الما ولم تجل غبرة
على حصر كانت بقبر ابن حنبل
وان لأمثال ذلك في كتبهم أُنشئ الكثير أرادوا به المقابلة لما صدر من آل النبي المعصومين والاشارة الى بعض ما أوقفنا البحث عليه وان يخرجنا عن وضع الرسالة الا ان الغرض تعريف القارئ بأن العداء كيف يأخذ بالشخص الى انكار البديهي والتعامي عن النيرات . ذكر اليافعي في مرآة الجنان ج 3 ص 113 ان أبا اسحق الشيرازي المتوفى سنة 476 هجرية لما ورد بلاد العجم خرج اهلها اليه بنسائهم واطفالهم للتبرك به فكانو يمسحون أردانهم به ويأخذون من تراب نعله فيستشفون به . واذا صح مثل هذا فلماذا كان الاستشفاء بتربة الحسين وهو سيد شباب أهل الجنة بدعة وضلالة . ثم في ج 3 ص 133 منه يعد من فضائل احمد وكراماته وما حباه الله عن خدمته في الدين ان ابراهيم الحربي رأى في المنام بشر الحافي خارجاً من مسجد الرصافة وفي كمه شيء فسأله عنه فقال لما قدم علينا روح احمد بن حنبل نثر عليه الدر والياقوت فهذا مما التقطته .
أصحيح ان تعد هذه الرؤيا من الكرامات ويعد من الباطل حديث الرسول الأعظم في حق سيد الوصيين ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى ولولاه لما قام للدين عمود ولما اخضر له عود وذلك لما تزوج أمير المؤمنين من سيدة نساء العالمين بأن الله تعالى أمر شجرة طوبى أن تحمل صكاكاً فيها براءة لمحبي علي وفاطمة من النار وأنشأ تحتها ملائكة التقطوا ما نثرته عليهم يحفظونه الى يوم القيامة كرامة لعلي وفاطمة . ثم يرمي راوي هذه الكرامة بالجهالة والرفض ويعد الحديث من الموضوعات(6) مع شهرة الحديث بين المحدثين والمنقبين في الآثار . وجاء السبكي فعد في طبقات الشافعية ج 1 ص 215 من فضائل احمد بن نصر الخزاعي الذي قتله الواثق على مسألة خلق القرآن تكلم رأسه بالقرآن لما قطع وبقي يقرأه الى ان ألحق بالجسد ودفن . واذ سمعوا بأن رأس الحسين الذي قتل في سبيل الدعوة الالهية واحياء الدين يتكلم بالقرآن لا تمام الحجة
وتعريفاً للامة طغيان اولئك الامراء ولئلا تذهب تلك التضحية المقدسة ادراج التمويهات طعنوا في الحديث ونسبوا روايه الى الرفض والجهالة مع ان الحسين لم يخرج عن كونه ابن الرسول وقد شهد الصادقالامين له ولأخيه المجتبى بانهما اماما هذه الامة ان قاما وان قعدا وانهما سيدا شباب أهل الجنة ولم يخرج اشراً ولا بطراً ولا ظالماً للعباد ولا غاصباً للحقوق . ولم يقتنع بذلك حتى ادعى كلامة لاسماعيل الحضرمي وانها من المستفيض قال في ج 5 ص 51 من طبقات الشافعية ان اسماعيل بن محمد بن اسماعيل الحضرمي كان في سفر ومعه خادمه فأشرفت الشمس على الغروب فقال لخادمه قل للشمس تقف حتى نصل المنزل ونصلي فقال الخادم ان الفقيه اسماعيل يقول لك قف فوقفت حتى بلغ المنزل وصلى ثم قال للخادم اما تطلق ذلك المحبوس فأمرها الخادم بالغروب فغابت واظلم الليل في حال . هكذا يقول الخبر من المستفيض في رجل قصارى ما يتخيل فيه انه احد الأولياء وينكر حديث رد الشمس لامير المؤمنين وكان من أعلام النبوة .
ويرتاح الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج 4 ص 423 الى حديث الوركاني بوقوع المآتم والنوح في أربعة اصناف من الناس المسلمين واليهود والنصارى والمجوس يوم وفاة احمد بن حنبل . ولا يكون هذا من البدعة والشناعة والخروج عن اخلاق المؤمنين كماتحاملوا بذلك على الشيعة في اقامتهم المآتم والنياحة على سليل الرسول وريحانته حتى قال الغزالي في مكاشفة القلوب ص 187 (إياك أن تشتغل ببدع الرافضة من الندب والنياحة والحزن فان ذلك ليس من اخلاق المؤمنين) . وضرب على وتره غير واحد من المؤرخين وما ذنب الشيعة والمشرع الأعظم بكى على ولده الحسين وهو حيّ يرزق لمجرد تذكر ما يجري عليه فيخرج الى المسجد ودموعه جارية فتبكي الصحابة لبكائه وفيهم أبو بكر وعمر وأبو ذر وعمار ويسأل عن سبب بكائه فيقول الآن حدّثني جبرائيل بما يجري على الحسين(7). ويمر أمير المؤمنين بوادي كربلا في ذهابه الى صفين فيقف هناك ويرسل عبرته ويقول هذا مناخ ركابهم ومهراق دمائهم طوبى لك من تربة تراق عليك دماء الاحبة(8). اذن فهلا تحسن مواساة صاحب الشريعة ووصيه المقدم بعد وقوع الحادثة على فلذة كبده صاحب النهضة المقدسة والله عز وجل يقول «لكم في رسول الله اسوة حسنة»(9). على ان الاحاديث الصحيحة عندهم عن أئمتهم تحثهم على التظاهر بما فيه احياء أمرهم من الدعوة الى سبيل الدين واظهار الجزع والبكاء والنوح على سيد شباب أهل الجنة . ويقول الامام الصادق عليه السلام في دعائه الطويل وهو ساجد . (اللهم ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا اللهم ان اعدائنا عابوا عليهم خروجهم الينا فلم ينههم ذلك عن الشخوص الينا رغبة في برنا وصلة لرسولك وخلافاً منهم على ما خالفنا اللهم اعطهم افضل ما يأملون في غربتهم عن أوطانهم وما أثرونا به على أبنائهم) . ويقول عليه السلام لحماد الكوفي بلغني ان اناساً من الكوفة وغيرهم من نواحيها يأتون قبر الحسين في النصف من شعبان فبين قارئ يقرأ وقاص يقص ومادح يمدح ونساء يندبنه فقال حماد قد شهدت بعض ما تصف فقال عليه السلام الحمد لله الذي جعل في شيعتنا من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا وجعل في عدونا من يقبح ما يصنعون . ولما قال له ذرح المحاربي اني اذا ذكرت فضل زيارة الحسين لقومي وبنيّ كذبوني فقال (دع الناس يذهبون حيث شاؤوا وشكن معنا) . فإذا كان هذا وامثاله الكثير مما اوجب فعل الشيعة لتلك المظاهر فلماذا يطعن عليهم عند إيمانهم بها وما ذنبهم أفلا يتأول عملهم والحال هذا كما أولوا عمل خالد وغيره (أين المنصفون) . نعم ليس السر فيما حكموا به علىالشيعة من الياء والتصنع والشنعة والبدعة الا قيامهم بهذه الشعائر الذي فيها اظهار مظلومية أهل البيت العلوي وتفظيع اعمال المناوئين لهم واعلام الملأ بما نشروه من الجور واسترداد الجاهلية الاولى كما اعترف به ابن كثير في البداية والنهاية ج 8 ص 202 قال ان الشيعة لم يريدوا بهذه الاعمال الا ان يشنعوا على دولة بني امية لانه قتل في دولتهم .
وعليه فلا يكون العمل المستلزم للتشنيع على عمل الجبابرة وطواغيت الامة بقتلهم سيد شباب أهل الجنة وتلاعبهم بالدين الحنيف تلاعب الصبيان بالاكر مقرباً للمولى زلفة ورضىً لرب العالمين .
نهر العلقمي لم يذكر اصحاب المعاجم هذا الوصف واهمله المؤرخون كما لم يصفه حديث الصادق في الزيارة المتقدمة فان فيها (وهو مدفون بشط الفرات بحذاء الحير) لكن شيخنا الطريحي ذكر في المنتخب ص 91 ان رجلاً من أهل الكوفة حداد قال خرجت في البعث الذي سار الى كربلا فخيمنا على شاطئ العلقمي وحموا الماء عن الحسين ومن معه حتى قتلوا واهله وانصاره عطاشا ثم رجعنا الى الكوفة وبعد ان سير ابن زياد السبايا الى الشام رأيت في المنام كأن القيامة قامت والناس يموجون وقد اخذهم العطش وانا أعتقد بأني أشدهم عطشاً مع شدة حرارة الشمس والارض تغلي كالقار اذ رأيت رجلاً عمّ الموقف نوره وفي أثره فارس وجهه انور من البدر وبينا أنا واقف إذ أتاني رجل وقادني بسلسلة إليه فقلت له اقسم عليك بمن امرك من تكون قال انا من الملائكة قلت ومن هذا الفارس قال هذ علي أمير المؤمنين قلت ومن ذلك الرجل قال محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم رأيت عمر بن سعد وقوماً لم اعرفهم في اعناقهم سلاسل من حديد والنار تخرج من اعينهم وآذانهم ورأيت النبيين والصديقين قد احدقوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله لعلي ما صنعت قال لم أترك احداً من قاتلي الحسين الا جئت به فقدموهم امام رسول الله وهو يسألهم عما صنعوا بولده يوم كربلا فواحد يقول أنا حميت الماء عنه والآخر يقول أنا رميته والثالث يقول انا وطأت صدره ورابع يقول انا قتلت ولده وهو يبكي حتى بكى من حوله لبكائه ثم أمر بهم الى النار وجيء برجل قال له ما صنعت قال كنت نجاراً وما حاربت ولا قتلت فقال لقد كثرت السواد على ولدي فأمر به الى النار ثم قدموني اليه فحكيت له فعلي فأمر بي الى النار فلما قص الرؤيا على من حضر عنده يبس لسانه ومات نصفه وهلك بأسوء حال وقد تبرأ منه كل من سمع وشاهد . وفي مدينة المعاجز ص 263 باب 127 روي عن رجل أسدي قال كنت زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني أمية فرأيت عجائباً لا أقدر أن أحكي الا بعضاً منهخا اذا هبت الريح تمر عليّ نفحات كنفحات المسك والعنبر وأرى نجوماً تنزل من السماء وتصعد مثلها من الارض ورأيت عند غياب الشمس أسداً هائل المنظر يتخطى القتلى حتى وقف على جسد جللته الانوار فكان يمرغ وجهه وجسده بدمه وله صوت عالٍ ورأيت شموعاً معلقة واصواتاً عالية وبكاء وعويلاً ولا أرى أحداً . وفي مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 190 روى جماعة من الثقاة انه لما أمر المتوكل بحرث قبر الحسين وان يجري عليه الماء من العلقمي اتى زيد المجنون وبهلول المجنون الى كربلا ونظرا الى القبر لم يتغير بما صنعوا ، وفي هذا دلالة على وصف النهر بالعلقمي في تلك الايام ويؤكد ذلك ما في مزار البحار ص 161 عن مزاري المفيد وابن المشهدي من ورود رواية بزيارة العباس عليه السلام غير مقيدة بوقت وفيها اذا وردت ارض كربلا فأنزل منهما بشاطئ العلقمي ثم اخلع ثياب سفكر واغتسل غسل الزيارة مندوباً وقل الخ . وفي تحية الزائر ص 135 ذكر عنهما وعن الشهيد الأول وابن طاووس ورود رواية بزيارة للحسين وقالوا اذا وردت قنطرة العلقمي فقل إليك اللهم قصد القاصد الخ والظاهر منه ورود لفظ العلقمي في الرواية وليس من كلام العلماء خصوصاً بعد العلم بأنهم لا يذكرون الا ما يعتمدون عليه في الروايات ومنه نعرف ان نهر العلقمي كان معروفاً في الازمنة السابقة على زمان ابن العلقمي الذي هو في القرن السابع وجاء في نص الشيخ الطوسي ففي مصباح المتهجد ص 499 ان الصادق عليه السلام قال لصفوان الجمال اذا اتيت الفرات (اعني شرعة الصادق بالعلقمي) فقل اللهم انت خير من وفد الخ . وعلى هذا يكون قول الفاضل السيد جعفر الحلّي على الحقيقة .
وهوى بجنب العلقمي فليته
للشاربين به يداف العلقم
نعم لم يعرف السبب في التسمية به وما قيل في وجهها ان الحافر للنهر رجل من بني علقمة بطن من تميم ثم من دارم جدهم علقمة بن زرارة بن عدس لا يعتمد عليه لعدم الشاهد لواضح ومثله في ذكر السبب كثرة العلقم حول حافتي النهر وهو كالقول بأن عضد الدولة امر بحفر النهر ووكله الى رجل اسمه علقمة فانها دعاوي لا تعضدها قرينة على انك عرفت ان التسمية كانت قبل عضد الدولة . وحكي في الكبريت الاحمر ج 2 ص 112 عن السيد مجد الدين محمد المعروف بمجدي من معاصري الشيخ البهائي في كتابه زينة المجالس المؤلف سنة 1004 ان الوزير السعيد بن العلقمي لما بلغه خطاب الصادق عليه السلام للنهر «الى الآن تجري وقد حرم جدي منك» أمر بسد النهر وتخريبه ومن اجله حصل خراب الكوفة لان ضياعها كانت تسقى منه .
مشهد الرأس ذكر أرباب المقاتل ان عمر بن سعد أمر بالرؤوس فقطعت فكانت ثمانية وسبعين رأساً اخذت كندة ثلاثة عشر واقبلت هوازن باثني عشر وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً واقبلت بنو اسد بستة عشر رأساً واختصت مذحج بسبعة ولسائر الجيش ثلاثة عشر رأساً(10). وساروا بها الى الكوفة ثم سير ابن زياد رأس الحسين ورؤوس من قتل معه من أهله وصحبه مع السبايا الى يزيد بالشام(11).
ولم يترك سيد الشهداء الدعوة الى الدين وتفنيد عمل الظالمين حتى في هذا الحال وهو مرفوع على القناة فكان متمماً لنهضته المقدسة التي أراق فيها دمه الطاهر وقد استضاء خلق كثير من اشراقات رأسه الازهر .
لهفي لرأسك فوق مسلوب القنا
يكسوه من انـواره جلبـابا
يتلوا الكتاب على السنان وانما
رفعوا به فوق السنان كتابا
ولا غرابة بعد أن كان سيد الشهداء دعامة من دعائم الدين ومنار هداه وعنه يأخذ تعاليمه ومنه يتلقى معارفه وهو صراطه المستقيم ومنهجه القويم دونه كانت مفاداته وفي سبيله سبقت تضحيته فهو حليف القرآن منذ انشئ كيانه لأنهما ثقلا رسول الله وخليفتاه على امته وقد نص المشرع الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض فبذلك كان سلام الله عليه غير مبارح تلاوته طول حياته في تهذيبه وارشاده في دعوته وتبليغه في حله ومرتحله حتى في موقفه يوم الطف ذلك المأزق الحرج بين ظهراني اولئك الطغاة المتجمهرين عليه ليتم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجة . هكذا كان يسير الى غايته المقدسة سيراً حثيثاً حتى طفق يتلو القرآن رأسه الكريم فوق عامل السنان عسى أن يحصل من يكهربه نور الحق غير ان داعية الحق والرشاد لم يصادف الا قصراً في الادراك وطبعاً في القلوب وصمماً في الآذان «ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة»(12).
وبلغ من غلواء ابن زياد وتيهه في الضلال ان امر بالرأس الشريف فطيف به في شوارع الكوفة وسككها(13) يقول زيد بن أرقم كنت في غرفة لي فمروا بالرأس على رمح فسمعته يقرأ «أم حسبت ان أصحاب الكهف والرقيم كانوامن آياتنا عجباً» (14) فوقف شعري وقلت رأسك اعجب واعجب(15) ولما صلب في سوق الصيارفة وهناك ضوضاء فأراد عليه السلام لفت الانظار نحوه تنحنح تنحنحاً عالياً فاتجه الناس نحوه وابهرهم الحال فشرع في قراءة سورة الكهف الى قوله تعالى «انّهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى»(16)(17). وعجب الحاضرون اذ لم تعهد هذه الفصاحة والاتيان
على مقتضى الحال من رأس مقطوع وبقي الناس واجمون لا يدرون ما يصنعون . ولما صلب على شجرة بالكوفة سمع يقرأ قوله تعالى : «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».(18) قال هلال بن معاوية سمعت رأس الحسين يخاطب حامله ويقول فرقت رأسي وبدني فرق الله بين لحمك وعظمك وجعلك آية ونكالاً للعالمين فرفع اللعين سوطاً واخذ يضرب بين رأسه المطهر(19). وحدث سلمة بن الكهيل انه سمع رأس الحسين بالكوفة يقرأ وهو مرفوع على الرمح «فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم»(20)(21). كما سمعه ابن وكيدة يقرأ القرآن فشك انه صوته حيث لم يعهد مثله يتكلم فاذا الامام عليه السلام يخاطبه يا ابن وكيدة اما علمت ان معاشر الائمة احياء عند ربهم يرزقون فزاد تعجبه وحدث نفسه ان يسرق الرأس ويدفنه فنهاه الامام وقال يا ابن وكيدة ليس الى ذلك سبيل ان سفكهم دمي اعظم عند الله من اشهارههم رأسي فذرهم فسوف يعلمون اذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون(22). وفي طريقهم الى الشام نزلوا عند صومعة راهب وفي الليل اشرف عليهم الراهب فرأى نوراً ساطعاً من الرأس الشريف وسمع تسبيحاً وتقديساً وتهليلاً وقائلاً يقول السلام عليك يا أبا عبد الله فتعجب الراهب ولم يعرف الحال حتى اذا اصبح وأراد القوم الرحيل سألهم عن الرأس فأخبروه انه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب وامه فاطمة وجده محمد المصطفى فطلب الرأس من خولي الاصبحي فأبى عليه فاسترضاه بمال كثير دفعه اليه وأخذ الراهب الرأس الشريف وقبّله وبكى وقال تباً لكم أيتها الجماعة لقد صدقت الاخبار في قولها اذا قتل هذا الرجل تمطر السماء دماً ثم اسلم ببركة الرأس الطاهر وبعد ان ارتحلوا نظروا الى الدراهم فاذا هي خزف مكتوب عليها «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»(23). وحدث المنهال بن عمر قال رأيت رأس الحسين بدمشق أمام الرؤوس ورجل يقرأ سورة الكهف فلما بلغ «ام حسبت أن اصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً» واذ الرأس يخاطبه بلسان فصيح واعجب من اصحاب الكهف قتلى وحملى(24). وفي هذا الحال كله لم ينقطع الدم من الرأس الشريف وكان طرياً ويشم منه رائحة طيبة(25).
وبالرغم من جد يزيد في محو آثار اهل البيت واحتقار حرم النبوة حتى أنزلهم في الخربة التي لا تكنهم من حر ولا برد(26) واستعماله القسوة بالرأس المقدس من صلبه على باب الجامع الاموي(27). وفي البلد ثلاثة أيام(28) وعلى باب داره(29) . ولم يزل أهل الشام ومن حضر فيه من غيرهم يشاهدون كرامات باهرات من الرأس الزاهر لا تصدر الا من نبيّ أو وصيّ نبيّ فأحرجهم الموقف خصوصاً بعد ما وقفت العقيلة زينب الكبرى سلام الله عليها في ذلك المجلس المغمور بالتمويهات والاضاليل فأفادت الناس بصيرة بنوايا ابن ميسون السيئة وموقفه من الشريعة الطاهرة وانه لم يرد إلا استئصال آل الرسول حيث لم يعهد في الاسلام مثل هذا الفعل الشنيع خصوصاً مع عيال النبي الكريم ذلك الذي ما زال يهتف في مواقفه الكريمة باحترام المرأة وعدم التعرض لها بسوء وكان صلى الله عليه وآله يشدد النكير اذا بلغه في مغازيه قتل النساء(30).
حتى ان جماعة من المسلمين لما استأذنوه لقتل ابن ابي الحقيق اذن لهم وامرهم بعدم التعرض للنساء والصبيان وهم مشركون(31) . وعلى سيرته مشى المسلمون وان سيدهم أمير المؤمنين عليه السلام لما انزل عائشة في الدار قال له رجل من الازد والله لا تفلتنا هذه المرأة فغضب أمير المؤمنين وقال صه لا تهتكن ستراً ولا تدخلن داراً ولا تهيجن امرأة بأذى وان شتمن اعراضكم وسفهن امراءكم وصلحائكم فانهن ضعاف ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وانهن لمشركات وان الرجل ليكافئ المرأة بالضرب فيعيز بها عقبه من بعده فلا يبلغني عن احد تعرض لامرأة فانكل به(32). من هذا عرف الناس ضلال يزيد وتيهه في الباطل فاكثروا اللائمة عليه حتى من لم ينتحل دين الاسلام وحديث رسول ملك الروم مع يزيد في مجلسه احدث هزة في المجلس وعرف يزيد الانكار منهم وانه لم تجد فيهم تلك التمويهات وكيف تجدي وقد سمع من حضر المجلس صوتاً عالياً من الرأس المقدس لما امر يزيد بقتل ذلك الرسول (لا حول ولا قوة الا بالله)(33). وأي احد رأى أو سمع قبل يوم الحسين رأسا مقطوعاً ينطق بالكلام الفصيح وهل يقدر ابن ميسون أن يقاوم اسرار الله ؟ أو يطفئ نوره تعالى شأنه ؟ ـ كلا ـ ولقد انكرت عليه زوجته هند بنت عمرو بن سهيل وكانت عند عبد الله بن عامر بن كريز وهو ابن خال عثمان بن عفان فان عامراً وارى ام عثمان امهم ام حكيم البيضاء بنت عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف فاجبره معاوية على طلاقها لرغبة يزيد بها(34) . فانها لما ابصرت الرأس الزاهي مصلوباً على باب دارها ورأت الانوار النبوية تتصاعد الى عنان السماء وشاهدت الدم يقطر منه طرياً ادهشها الحال وعظم مصابه في قلبها فلم تتمالك دون ان دخلت على يزيد في مجلسه مهتوكة الحجاب وهي تصيح رأس ابن بنت رسول الله على دارنا فقام إليها وغطاها وقال لها اعولي وابكي على الحسين فانه صريخة بني هاشم عجل عليه ابن زياد(35). ورأت في منامها كأن رجالاً نزلوا من السماء وطافوا برأس الحسن يسلمون عليه ولما انتبهت جاءت الى الرأس فأبصرت نوراً حوله فطلبت يزيد لتقص عليه الرؤيا فاذا هو في بعض الغرف يبكي ويقول مالي ولحسين وقد رأى مثل ما رأت(36) فأصبح يزيد وملء اذنه حديث الاندية عن القسوة التي استعملها والجور الشديد فلم ير مناصاً من القاء التبعة على عاتق ابن زياد وتبعيداً للسبة عنه ولكن الثابت لا يزال وهذا هوالسر في انشاء كتاب صغير وصفه المؤرخون بأنه مثل (اذن الفأرة) ارفقه بكتابه الكبير الى الوالي بأخذ البيعة من المدينة عامة وفي الكتاب الصغير الزام الحسين بالبيعة وان أبى تضرب عنقه(37) . وليس الغرض من انشاء الكتاب الصغير الا ان يزيد لما كان عالماً بان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعله خليفة ولا كانت بيعته مما اتفق عليها صلحاء الوقت واشراف الامة وما صدر من الموافقة منهم يوم أرادها أبوه معاوية انما هو للوعيد والتهديد فأراد يزيد ان يخلي رسمياته عن الامر بقتل الحسين بحيث لو صدر ذلك من عامله ولامه الناس وخطّأوه تدرع بالعذر بخلو كتابه للعامل بهذا النعل وانما هو شيء جاء به من قبل نفسه وكان له المجال حينئذ في القاء التبعة على العامل . ولكن هلمّ واقرأ العجيب الغريب في احياء العلوم ج 3 ص 106 في الافة الثامنة من آفات اللسان فهناك ترى الغزالي تائهاً في الغلواء لما وشجت عليه عروق النصب والتحيز الى الامويين فأبى أن يلعن قاتل الحسين حتى على الإجمال فيقال (لعنة الله على قاتل الحسين) معللاً باحتمال موته بعد التوبة وقد فاته ان التائب ان قبلت توبته لا يشمله اللعن فاذن أي بأس إذا قيل لعنة الله على قاتل الحسين لولا ذلك العداء المحتدم بين الحوائج والبغض لأهل هذا البيت الطاهر .